خطوة مهمة أن يكون للبحرين مركز متخصص لحفظ وتوثيق التراث الثقافي لدول الخليج العربي، الذي بحسب ما نص عليه قرار مجلس الوزراء في اجتماعه بتاريخ (6 مارس 2023) سيتم العمل على إنشائه من خلال مذكرة تفاهم ستبرم بين هيئة الثقافة والآثار البحرينية من جهة، ومعهد «طوكيو الوطني» وجامعة «كانازاوا اليابانية» من جهة أخرى.
المشروع، كما يشير عنوانه العريض، هو مشروع ضخم ومتشعب، أولاً؛ لاتساع مظلته الجغرافية لتضم كل دول الخليج العربي، التي وإن تشابهت ألوان الحياة بين دوله إلا أن التنوع الثقافي للمجتمعات الخليجية سيتطلب عملاً دقيقاً وفرقا متخصصة لنقل ذلك التنوع ورصد صوره ومظاهره بكل دقة وأمانة وفهم تاريخي لذلك التراث.
أما ثانياً؛ فهو لارتباطه بجانب ذي أولوية وأهمية في المجتمعات التي تهتم بحفظ تراثها الثقافي وبتأريخ وتوثيق انتاجها الإنساني وتتبع أثره، وهو ما تعتبره تلك المجتمعات بمثابة الجسر الذي يربط الماضي بالحاضر باستحضار الذاكرة الجمعية وإحيائها، لتستمد منها شعوبها ما يشكّل ويبني الثقافة المعاصرة ويثريها معرفياً وفكرياً، ويبرز عناصر تنوعها، ويقوي قدرتها على الإبداع وغزارة الإنتاج.
ومن دون شك فإن هذه الخطوة البحرينية تأتي في سياق اهتمام عالمي متزايد بالتراث الإنساني، وهناك أمثلة عديدة لمراكز نوعية تختص بمثل هذا المجال متعدد الأركان، بين تراث مادي وغير مادي، وبتفرعاته التي تشمل شواهد الرقي الإنساني والخصوصية الثقافية من آثار ومعمار وعادات وتقاليد وفلكلور وفنون وغناء وموسيقى، من دون أن يتم إغفال جانب في غاية الأهمية، هو جانب العلوم والآداب والترجمة واللغة من خلال تتبع حركة التأليف والإنتاج الفكري للحقب التي تهتم بها مثل هذه المراكز النوعية.
الجميل في مثل هذا التوجه، الذي نأمل أن تنقب فرق عمله عن التراث الثقافي -بمعناه الواسع- على كافة مستوياته وبالنزول في كافة ميادينه، أنه سينعش صورا مختلفة من الذاكرة، «تلك الذاكرة التي تحجبها حياتنا المعاصرة وسط المدن الحديثة المتنامية بضجيجها الهائل والتي يعاودها الحنين إلى تراثها الجميل العتيق، ولا سبيل لتلك العودة إلا بانتهاج البحث بلغة التاريخ العلمي للتعرف على الخلفية الاجتماعية لتطورنا الحديث ونهضتنا الراهنة، إن نحن أردنا إدراك معاني الماضي والحاضر للتنبؤ بمعالم المستقبل وملامحه».*
إذن، سيحمل مثل هذا المشروع الفتي على عاتقه مسؤولية تدوين التراث الثقافي الخليجي، وعندما تبادر البحرين بمثل هذا العمل فأول ما يبادر الذهن حضاراتها القديمة، وخصوصاً الحضارة الدلمونية التي وصلت إلى السند ببابل وعاصرت الفراعنة، إلى جانب إسهامها الواضح في تحديد ملامح الحركة الثقافية والأدبية والمعرفية لدول المنطقة؛ فقد كان أعلام تلك الحركة في صدارة المشهد الثقافي العربي، وكان لتفاعلهم مع محيطهم تأثيره الواضح على إقبال مثقفي الخليج وأدبائه وشعرائه وحتى تجاره على البحرين واستقرار بعضهم فيها بحكم ما يتمتع به مناخها من نشاط أدبي وتنظيم اداري وتجاري وانفتاح اجتماعي وفكري.
ولعلنا نجزم أن المحصلة النهائية لمثل هذا المركز الطموح، إلى جانب ما سيرصده من شواهد ذات قيمة معنوية لشعوب الخليج لعراقة تراثهم وطبيعة عطائهم على مر تاريخهم، ستكون بمثابة المرجع للدارسين والباحثين لتستمر عجلة البحث والتوثيق والتحليل لترسيخ الهوية الخليجية والحفاظ على إرثها الحضاري الذي تعرض للكثير من المحاولات التي تنقص من وجاهته وتطمس آثاره. ولعلها فرصة كذلك أن يهتم المركز بالدراسات التي تتناول تأثير اكتشاف النفط على الواقع الثقافي وتوضيح انعكاساته على مظاهر الحياة المختلفة، أي بمعنى هل أثرت صناعة النفط على تلك المظاهر، «وهل استطاع الخليج أن يوائم بين عالم النفط وقيم تراثه الثقافي؟».*
والأهم من كل ذلك أن المركز متى ما اكتملت أركانه سيكون، في ظننا، معلماً من معالم الوحدة الخليجية التي ستجسدها مجالات اختصاصه، ونتمنى أن يكون من ضمنها تتبع وتوثيق التاريخ الأدبي لأعلام الخليج كـ«حياة الأديب الشاعر عبدالجليل الطبطبائي، الذي ولد في البصرة، وفي سن الشباب رحل إلى الزبارة حيث ازدهرت إمارة العتوب الناشئة بزعامة آل خليفة، وفي الزبارة عاش فترة خصبة من حياته، فكان الشخصية الأدبية الأولى في الإمارة ومارس بعض المهام السياسية فيها، ثم انتقل من الزبارة إلى المحرق في البحرين حيث بقي فيها مدة تزيد على الثلاثين عاماً في خدمة حكم آل خليفة، ليستقر بعدها في الكويت إلى أن توفاه الله على أرضها في عام 1853م»*، وفي كل محطة من محطاته ترك بصمة فكره.
وحتى ذلك الحين.. نتمنى لجهود المعنيين بهذا المشروع كل التوفيق.
{ مقتطفات بتصرف من مؤلفات ودراسات د. محمد ج. الأنصاري فـي أدب الخليج العربي وحركته الثقافية *
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك