العدد : ١٧٠٧٨ - الأربعاء ٢٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٧٨ - الأربعاء ٢٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

الاسلامي

‏‏بداية القرآن العقل البشري.. الحلقة الثانية

الجمعة ١٢ مايو ٢٠٢٣ - 02:00

بقلم‭: ‬دكتور‭ ‬غريب‭ ‬جمعة

عرفنا‭ ‬في‭ ‬الحلقة‭ ‬السابقة‭ ‬أن‭ ‬القرآن‭ ‬يأخذ‭ ‬بيد‭ ‬العقل‭ ‬البشري‭ ‬ويهديه‭ ‬إلى‭ ‬أقصر‭ ‬الطرق‭ ‬للتعرف‭ ‬على‭ ‬خالقه‭ ‬والإيمان‭ ‬به‭ ‬والسجود‭ ‬لعظمته‭ ‬وقد‭ ‬وضع‭ ‬له‭ ‬قانونًا‭ ‬وقائيًا‭ ‬عامًا‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭:‬

‭(‬لَيْسَ‭ ‬كَمِثْلِهِ‭ ‬شَيْءٌ‭ ‬وَهُوَ‭ ‬السَّمِيعُ‭ ‬الْبَصِيرُ‭) ‬الشورى‭/‬‮١١‬‭) ‬

وهذا‭ ‬القانون‭ ‬يطبقه‭ ‬كلما‭ ‬أحتاج‭ ‬إلى‭ ‬مدافعة‭ ‬وهم‭ ‬من‭ ‬الأوهام‭ ‬في‭ ‬تصور‭ ‬ذات‭ ‬الله‭ ‬الخالق‭ ‬جل‭ ‬جلاله‭.‬

وقد‭ ‬عمي‭ ‬المحجوبون‭ ‬عن‭ ‬ربهم‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬القانون‭ ‬فركبوا‭ ‬متنا‭ ‬عمياء‭ ‬ليضربوا‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬بيداء‭ ‬من‭ ‬الضلال‭ ‬البعيد‭.‬

ولما‭ ‬انحرفت‭ ‬عقول‭ ‬البشر‭ ‬عن‭ ‬منهج‭ ‬القرآن‭ ‬في‭ ‬الهداية‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬والإيمان‭ ‬وإفراده‭ ‬بالوحدانية‭ ‬ظهرت‭ ‬طوائف‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬ضلت‭ ‬وأضلت‭ ‬وعميت‭ ‬عن‭ ‬الصراط‭ ‬المستقيم‭.‬

لقد‭ ‬ظهرت‭ ‬طائفة‭ ‬الملحدين‭ ‬الذين‭ ‬أهملوا‭ ‬الاستدلال‭ ‬بآيات‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬توصية‭ ‬لأن‭ ‬الإلحاد‭ ‬في‭ ‬حقيقته‭ ‬هو‭ ‬الميل‭ ‬عن‭ ‬الاستقامة‭. ‬والإلحاد‭ ‬في‭ ‬الآيات‭ ‬مستعار‭ ‬للعدول‭ ‬والانصراف‭ ‬عن‭ ‬دلالة‭ ‬الآيات‭ ‬الكونية‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬دلت‭ ‬عليه‭ ‬أما‭ ‬الإلحاد‭ ‬في‭ ‬الآيات‭ ‬القولية‭ ‬فهو‭ ‬مستعار‭ ‬للعدول‭ ‬عن‭ ‬سماعها‭ ‬والطعن‭ ‬فيها‭ ‬وفي‭ ‬صحتها‭ ‬وصرف‭ ‬الناس‭ ‬عن‭ ‬سماعها‭.‬

وظهرت‭ ‬طوائف‭ ‬تعبد‭ ‬الأصنام‭ ‬والأوثان،‭ ‬والوثن‭ ‬هو‭ ‬صورة‭ ‬من‭ ‬حجر‭ ‬أو‭ ‬خشب‭ ‬مجسمة‭ ‬على‭ ‬صورة‭ ‬إنسان‭ ‬أو‭ ‬حيوان،‭ ‬وهو‭ ‬أخص‭ ‬من‭ ‬الصنم‭ ‬لأن‭ ‬الصنم‭ ‬يطلق‭ ‬على‭ ‬حجارة‭ ‬غير‭ ‬مصورة‭ ‬مثل‭ ‬أكثر‭ ‬أصنام‭ ‬العرب‭ ‬وكانت‭ ‬أصنام‭ ‬قوم‭ ‬إبراهيم‭ ‬صورًا‭ ‬قد‭ ‬نحتوها‭.‬

قال‭ ‬تعالى‭: (‬أتعبدون‭ ‬مَا‭ ‬تَنْحِتُونَ‭(‬‭ (‬الصافات‭/‬95‭). ‬

‭ ‬وزعم‭ ‬بعض‭ ‬عباد‭ ‬هذه‭ ‬الأصنام‭ ‬والأوثان‭ ‬أنهم‭ ‬عبدوها‭ ‬لتقربهم‭ ‬زلفى‭ ‬إلى‭ ‬الإله‭ ‬الحق‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬يقول‭ ‬عز‭ ‬وجل‭: (‬ألَا‭ ‬لِلَّهِ‭ ‬الدِّينُ‭ ‬الْخَالِصُ‭ ‬ۚ‭ ‬وَالَّذِينَ‭ ‬اتَّخَذُوا‭ ‬مِن‭ ‬دُونِهِ‭ ‬أوْلِيَاءَ‭ ‬مَا‭ ‬نَعْبُدُهُمْ‭ ‬إِلَّا‭ ‬لِيُقَرِّبُونَا‭ ‬إلَى‭ ‬اللَّهِ‭ ‬زُلْفَى‭ ‬إنَّ‭ ‬اللَّهَ‭ ‬يَحْكُمُ‭ ‬بَيْنَهُمْ‭ ‬فِي‭ ‬مَا‭ ‬هُمْ‭ ‬فِيهِ‭ ‬يَخْتَلِفُونَ‭ ‬إنَّ‭ ‬اللَّهَ‭ ‬لَا‭ ‬يَهْدِي‭ ‬مَنْ‭ ‬هُوَ‭ ‬كَاذِبٌ‭ ‬كَفَّارٌ‭). (‬الزمر‭/‬3‭).  ‬

ثم‭ ‬تعددت‭ ‬المعبودات‭ ‬من‭ ‬مخلوقات‭ ‬الله‭ ‬مثل‭ ‬الشمس‭ ‬والكواكب‭ ‬والنار‭ ‬والشجر‭ ‬والبقر‭ ‬وتضاعفت‭ ‬أعدادها‭ ‬حتى‭ ‬صارت‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬الأقوام‭ ‬بالمئات‭ ‬ثم‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬هذه‭ ‬المعبودات‭ ‬الشيطان‭ ‬الرجيم‭.‬

يقول‭ ‬العلامة‭ ‬محمد‭ ‬الطاهر‭ ‬بن‭ ‬عاشور‭ ‬في‭ ‬تفسيره‭ (‬التحرير‭ ‬والتنوير‭): ‬‮«‬وعبادة‭ ‬الشيطان‭: ‬عبادة‭ ‬ما‭ ‬يأمر‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬الأصنام‭ ‬ونحوها‮»‬‭ ‬ولكن‭ ‬الشيطان‭ ‬لم‭ ‬يكتف‭ ‬بعبادة‭  ‬ما‭ ‬يأمر‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬الأصنام‭ ‬ونحوها‭ ‬فاستزل‭ (‬أوقع‭ ‬في‭ ‬الزلل‭) ‬طائفة‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬فجعلهم‭ ‬عبادًا‭ ‬له‭ ‬بوساوسه‭ ‬يأتمرون‭ ‬وبتزيينه‭ ‬للمعاصي‭ ‬يعملون‭ ‬وبمحاربتهم‭ ‬لله‭ ‬يتباهون‮»‬‭.‬

ولعلك‭ ‬تقف‭ ‬وقفة‭ ‬تدبر‭ ‬خاشع‭ ‬لقوله‭ ‬تعالى‭: (‬ألَمْ‭ ‬أعْهَدْ‭ ‬إلَيْكُمْ‭ ‬يَا‭ ‬بَنِي‭ ‬آدَمَ‭ ‬أن‭ ‬لَّا‭ ‬تَعْبُدُوا‭ ‬الشَّيْطَانَ‭ ‬إنَّهُ‭ ‬لَكُمْ‭ ‬عَدُوٌّ‭ ‬مُّبِينٌ‭ (‬60‭) ‬وَأنْ‭ ‬اعْبُدُونِي‭ ‬هَذَا‭ ‬صِرَاطٌ‭ ‬مُّسْتَقِيمٌ‭(‬61‭)‬وَلَقَدْ‭ ‬أَضَلَّ‭ ‬مِنكُمْ‭ ‬جِبِلًّا‭ ‬كَثِيرًا‭ ‬ۖ‭ ‬أفَلَمْ‭ ‬تَكُونُوا‭ ‬تَعْقِلُونَ‭(‬62‭)).(‬يـــس60‭/‬61‭/‬62‭).‬

‭ ‬تأمل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الآية‭ ‬من‭ ‬الإعجاز‭ ‬الغيبي‭ ‬واسأل‭ ‬نفسك‭: ‬هل‭ ‬يستطيع‭ ‬بشر‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الكلام؟‭ ‬وهل‭ ‬كان‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬يعلم‭ ‬أن‭ ‬طوائف‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬ستهوي‭ ‬بها‭ ‬عقولها‭ ‬إلى‭ ‬الحضيض‭ ‬في‭ ‬الاعتقاد‭ ‬فتتحذ‭ ‬الشيطان‭ ‬معبودَا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الله‭ ‬تأتمر‭ ‬بأمره‭ ‬وتنتهي‭ ‬بنهيه؟

ثم‭ ‬انظر‭ ‬إلى‭ ‬الشرور‭ ‬والآثام‭ ‬التي‭ ‬تملأ‭ ‬العالم‭ ‬بسبب‭ ‬هذه‭ ‬العقائد‭ ‬المنحرفة‭ ‬عن‭ ‬الصواب‭ ‬الضالة‭ ‬عن‭ ‬الهدى‭ ‬والاستقامة‮ ‬والتي‭ ‬اصطلى‭ ‬أصحابها‭ ‬بنيرانها‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يصطلوا‭ ‬بنيرانها‭ ‬في‭ ‬الآخرة‭. ‬بقول‭ ‬الله‭ ‬تبارك‭ ‬وتعالى‭:‬‭ ‬‭(‬وَلَنُذِيقَنَّهُمْ‭ ‬مِنَ‭ ‬الْعَذَابِ‭ ‬الْأدْنَى‭ ‬دُونَ‭ ‬الْعَذَابِ‭ ‬الْأكْبَرِ‭ ‬لَعَلَّهُمْ‭ ‬يَرْجِعُون‭). (‬السجدة‭/‬21‭).‬

وهكذا‭ ‬تتخبط‭ ‬البشرية‭ ‬في‭ ‬ظلمات‭ ‬بعضها‭ ‬فوق‭ ‬بعض‭ ‬بسبب‭ ‬إعراضها‭ ‬عن‭ ‬المنهج‭ ‬السديد‭ ‬الذي‭ ‬أودعه‭ ‬الله‭ ‬خاتم‭ ‬كتبه‭ ‬السماوية‭ ‬كي‭ ‬تسير‭ ‬على‭ ‬هدى‭ ‬ونور‭ ‬من‭ ‬ربها‭ ‬حتى‭ ‬تؤدي‭ ‬الرسالة‭ ‬التي‭ ‬خلقها‭ ‬من‭ ‬أجلها،‭ ‬ألا‭ ‬وهي‭ ‬إفراده‭ ‬وحده‭ ‬تبارك‭ ‬وتعالى‭ ‬بالعبادة‭ ‬والعبودية‭.‬

يقول‭ ‬تعالى‭ ‬مبينًا‭ ‬هذه‭ ‬الرسالة‭: (‬وَمَا‭ ‬خَلَقْتُ‭ ‬الْجِنَّ‭ ‬وَالْإنْسَ‭ ‬إلَّا‭ ‬لِيَعْبُدُونِ‭) (‬الذاريات‭ /‬56‭). ‬

ولقد‭ ‬كان‭ ‬الخطأ‭ ‬الأكبر‭ ‬الذي‭ ‬ارتكبه‭ ‬أصحاب‭ ‬العقائد‭ ‬الضالة‭ ‬أنهم‭ ‬طبقوا‭ ‬قوانين‭ ‬المخلوق‭ ‬على‭ ‬الخالق‭ ‬جل‭ ‬جلاله‭ ‬حسب‭ ‬أهوائهم‭ ‬فتعددت‭ ‬المعبودات‭ ‬بتعدد‭ ‬الأهواء‭!!‬

ولكن‭ ‬المنهج‭ ‬القرآني‭ ‬يعصم‭ ‬العقل‭ ‬البشري‭ ‬من‭ ‬التردي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الهوة‭ ‬السحيقة‭ ‬وحسبك‭ ‬أن‭ ‬تقرأ‭ ‬السورة‭ ‬التي‭ ‬تعدل‭ ‬ثلث‭ ‬القرآن‭ ‬وهي‭ ‬سورة‭ ‬الإخلاص‭. ‬فقد‭ ‬أخرج‭ ‬أحمد‭ ‬والبخاري‭ ‬عن‭ ‬أبي‭ ‬سعيد‭ ‬الخدري‭ ‬قال‭: ‬قال‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭: ‬‮«‬أيعجز‭ ‬أحدكم‭ ‬أن‭ ‬يقرأ‭ ‬ثلث‭ ‬القرآن‭ ‬في‭ ‬ليله؟‭ ‬فشق‭ ‬ذلك‭ ‬عليهم‭ ‬وقالو‭: ‬أينا‭ ‬يطيق‭ ‬ذلك‭ ‬يا‭ ‬رسول‭ ‬الله؟‭ ‬فقال‭: ‬الواحد‭ ‬الصمد‭ ‬ثلث‭ ‬القرآن‮»‬‭. ‬قال‭ ‬العلماء‭: ‬أي‭ ‬يعدل‭ ‬ثواب‭ ‬قراءتها‭ ‬ثواب‭ ‬قراءة‭ ‬ثلث‭ ‬القرآن‭ ‬من‭ ‬دونها‭. ‬وللحديث‭ ‬تأويلات‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬موطأ‭ ‬مالك‭ ‬والصحيحين‭ ‬لمن‭ ‬أراد‭ ‬المزيد‭.‬

يقول‭ ‬تبارك‭ ‬وتعالى‭: (‬قُلْ‭ ‬هُوَ‭ ‬اللَّهُ‭ ‬أحَدٌ‭ (‬1‭) ‬اللَّهُ‭ ‬الصَّمَدُ‭ (‬2‭) ‬لَمْ‭ ‬يَلِدْ‭ ‬وَلَمْ‭ ‬يُولَدْ‭ (‬3‭) ‬وَلَمْ‭ ‬يَكُنْ‭ ‬لَهُ‭ ‬كُفُوًا‭ ‬أحَدٌ‭ (‬4‭)). (‬الإخلاص‭ /‬1/2/3/4‭). ‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا