بقلم: عاطف الصبيحي
الذين يتصدون للشأن الديني ويكتبون في الفكر الديني كُثر، وهم إما حافظ جامع لما قيل سابقا في التراث الفكري الإسلامي، ناءٍ بنفسه عن التدخل في نصوص التراث التي وعاها في الذاكرة، فينقلها كما هي دون أدنى تدخل أو محاكمة أو إثارة تساؤل حول بعض ما كُتب، وإما حافظ مثل الطائفة الأولى، لكن لذاته بصمة، بصمة خاصة، أودعها في نصه المكتوب، موافقة أو معارضة أو تساؤل غير مطمئن لما ذُكر وكُتب، وهو بذلك يكون قد استعمل البصر والسمع والفؤاد الذي أودعه الله فيه كأول وأهم نعمة أولاها الله للناس.
الشيخ الغزالي نشأ في زمن العمالقة خاصة إذا ما تمت المقارنة مع مثقفي اليوم، زمن الكتاب الذي لا يفارق جيله ومعاصريه، زمن الصالونات الأدبية والثقافية عموماً، زمن الجلد والتجلد على القراءة وتحصيل العلم، بالرغم أن الظروف التي عاشوها أو جُلها لم تسعفهم فيها التكنولوجيا في الاستزادة من العلم كما هو حاصل في أيامنا هذه ولكن بالرغم من هذا كان أحدهم واسع الاطلاع غزير المعرفة، والغزالي أحد هؤلاء الرواد، فليس عبثاً ولا تكرماً لُقب بأديب الدعوة، فالملكة الأدبية إن وُهبت لأحد إنما تتغذى على سِعة الاطلاع، وتفصح عن نفسها في المنتج الثقافي الذي تخطه اليد، يد الغزالي رحمه الله مثالاً ونموذجاً.
أهم ما تميز به الشيخ الجليل أنه أبحر في التراث، واستعصم بالثوابت، وكان قوله مطابقاً لفعله، والأهم من ذلك كله أنه كان عاملاً معملاً لعقله فيما يقرأ، فحين تسكن نفسه بعد تدقيق لفكرة فلا يتردد في تدوينها والبوح بها، والعكس صحيح تماماً فلا تهدأ له نفس ولا يقر له قرار إن طافت به فكرة أو حتى حديث نبوي ولم تطمئن له نفسه، ويسكن له عقله، بسبب معارضته للثابت الأول في الإسلام – القرآن- فيقلب فيه الوجوه، ويمحصه من كل جانب، ولا يخشى في رفضه الحديث، أو دحض الفكرة، لومة لائم، ما كان ذلك ليكون لولا احترامه لعقله.
وثاني النعوت التي أُطلقت عليه هو أنه مجدد الفكر الإسلامي، وما أحوج هذه الأجيال للمجددين، وما أحوجنا لمفكرين مخلصين للحقيقة قبل أي شيء آخر، ليميزوا الغث من السمين لهذه الأجيال التي تكالبت عليها الأفكار والفتاوى من كل حدب وصوب، فأصبحوا في تيه لا يحسدون عليه.
أقصى غاية منشودة من هذا المقال أو هذه الكلمات هي إبراز الصفة الأبرز فيما يبدو لي- والتي تهمني- وهي عدم التسليم بكل ما يطوف به من معارف أو أقوال تكلم بها السابقون، ويقيناً إن هذا لأمر لا يتأتى إلا لمن ساح سياحة طويلة في بطون الكتب، ليس حفظاً وسرداً ومن ثم تلقيناً وحشواً في أدمغة القُراء أو المستمعين له أو ممن تلقوا العلم على يده في الجامعات، سياحته في الأسفار كانت مضنية لأنها سياحة بحث ومقارنة وتفكر، سياحة مكنت صاحبها من محاكمة كل جهد بشري قديم أو ما يسمى بالتراث الذي اكتسب عند الكثيرين صفة القداسة، وبالتالي لا يجوز لنا إنشاء قول على قولهم، ولا حتى مناقشة أقوالهم، لعمري كيف يمكن لنا تصور ازدهار الثقافة والفكر الديني في ظل التسليم المُطلق بكل ما ورد بالتراث؟، ولعمري هل المنتج الفكري التراثي إلا منتج بشري عرضة للخطأ والسهو؟
إن أُمة مؤمنة بالقرآن إيماناً مطلقاً كيف لها أن تتجاوز قول الله تعالى: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) الإسراء 36 وقوله تعالى سبحانه: (هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والبصر والفؤاد لعلكم تشكرون) الملك 23، أحسب الشيخ الغزالي كان ممن شكر النعمة الجزيلة التي وُهبت له، فعمل بها شكراً لخالقها وواهبها، مستحضراً قوله تعالى: (اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور) سبأ 13، والشكر على ما يقول ابن كثير يكون بالفعل والقول والنية، رحم الله الشيخ الغزالي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك