رأي: تخفيف العقوبات الرادعة جعل البعض يشعر بحصانة تشجعهم على التحايل والتهرب
وآخر: حقق سرعة في التنفيذ.. وإجراءات «الإفصاح» ضمانة كافية لإعادة الحقوق
لسنوات طويلة تصل الى خمسة عقود، اعتمدت المحاكم في البحرين في تنفيذ الاحكام المتعلقة بالمديونيات والحقوق على قانون رقم 12 لسنة 1971 بإصدار قانون المرافعات المدنية والتجارية. ثم صدر المرسوم بقانون رقم 22 لسنة 2021 بإصدار قانون التنفيذ الجديد والذي مثل نقلة نوعية في هذا الجانب.
من أبرز الإجراءات التي تم تغييرها واستحداثها في القانون الجديد إلغاء وسيلة تنفيذ طالما كانت محل جدل، وهي حبس المدين المتخلف عن سداد المستحقات، وهذا ما يعني إلغاء القبض عليه. وفي نفس الوقت، اتجه القانون الجديد الى تقنين اجراء منع السفر. ففي حين كان المدين يواجه عقوبة منع السفر عند رفع الدعاوى عليه من قبل الدائن أو صاحب الحق، ويكون المنع مدة سنة متصلة، مع إمكانية طلب الدائن تمديدها في الكثير من الحالات إذا لم يتم التسوية، فإن الإجراءات الجديدة في المادة (40) وضعت القيود والشروط لمثل هذا الاجراء، حيث تشترط أن يقدم المنفذ له طلبا بمنع سفر مدينه، حيث يتم الحبس مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر قابلة للتجديد لمدد أخرى بناء على طلب اخر من المنفذ له وبحد اقصى ثلاث مرات، ما يعني ان أقصى مدة لمنع السفر هي تسعة أشهر.
وفي المقابل، نص المشرع على إجراءات بديلة للتنفيذ، من ذلك حجز الأموال تلقائيا على المنفذ ضده بعد طلب التنفيذ، وتطبيق قانون الإفصاح الذي يفرض على المنفذ ضده الإفصاح عن كل الأموال والأصول والعقارات التي يمتلكها، في حين تفرض المخالفة عقوبات صارمة تصل الى الغرامة والحبس بما يعني ان تصبح القضية جنائية. وفي نفس الوقت يتم تعقب جميع معاملاته البنكية وغيرها. وعند ثبوت امتلاكه اية مبالغ أو أصول يتم الحجر عليها. كما منح القانون الجديد صلاحيات للمنفذ الخاص وجعله في حكم الموظف العام، على أن يمارس عمله تحت إشراف قاضي محكمة التنفيذ.
إذن هي إجراءات متطورة نص عليها المشرع في القانون الجديد. ولكن.. هل آتت أكلها في التطبيق الواقعي؟ هل مثلت روادع كافية لمن تسوّل له نفسه الاستهانة بحقوق الغير؟
في الواقع، كثرت الشكاوى بهذا الشأن. فمع التسليم بأن الإجراءات الجديدة تعطي فرصة لمن يمتلك حسن نية لأن يسدد ما عليه من مستحقات للآخرين، ومع التأكيد ان القانون الجديد حقق سرعة ملحوظة في تنفيذ الكثير من الاحكام مقارنة بالسابق، يؤكد العديد من المستثمرين والعقاريين أنهم خسروا مبالغ طائلة بسبب ما اعتبروه عدم وجود روادع كافية تجبر المنفذ ضده على الوفاء بالتزاماته، بل والتحايل على القانون. من ذلك أن يعمد البعض الى نقل جميع ما يملك الى اقربائه قبيل الوصول الى مرحلة التقاضي، وبالتالي فإنه يكون صادقا عند الإفصاح بأنه لا يمتلك شيئا!. وفي نفس الوقت لا يخشى منع السفر، بل كما يؤكد بعض المشتكين فإن المنفذ ضده يسافر للاستجمام ويتنقل هنا وهناك بكل حرية غير عابئ بحقوق الاخرين! والأسوأ من ذلك يكون بالنسبة للأجانب الذين قد يلوذون بالفرار.
وهذا ما يطرح سؤالا مهما: هل إن تجريد المنفذ ضده من الحرية كان ضمانة لتسديد المستحقات سابقا؟ في دراسة أعدتها المحامية جنة المأوى محمد جواد بعنوان (جدلية حبس المدين وأبرز بدائله التنفيذية والجزائية)، خلصت الى ان النص القديم بمنع السفر يوفر حماية أكبر للدائن ويضمن عدم فرار المنفذ ضده.
وعلى الرغم من تأكيد 64.3% من الاستبانة التي أجرتها في الدراسة ان القانون الجديد يحمي مصلحة جميع الأطراف، فإن نسبة من قالوا ان القانون الجديد يستهدف مصلحة الدائن المنفذ له كانت صفر% «على الرغم من انه الذي يطالب باسترداد حقوقه الثابتة».
الإجراءات الجديدة إنسانية وتمنح فرصا أفضل لإعادة الحقوق.. والبعض يستغل الثغرات!
هذا الموضوع ناقشناه مع المحامي الشيخ محمد بن حمد بن عبدالله آل خليفة، ومديرة مكتبه دلال لوري لنستطلع وجهة نظرهم في التعديلات الجديدة، علما بأن الشيخ محمد بن حمد قد عمل قاضيا في المحاكم مدة 30 عاما.
يمهد المحامون لحديثهم بالتأكيد أن محاكم البحرين تطورت في الناحية التقنية بشكل ملموس، ولا سيما من خلال إضافة التقنيات الحديثة لتقديم الدعاوى ومذكراتها والتعقيب بجميع درجات المحاكم بدءا من الدرجة الأولى والمحاكم الكبرى وصولا إلى محكمة التمييز. وهذا ما يشمل أيضا المرافعات والحضور الإلكتروني عبر المذكرات وتقديم التقارير والطعون والإشعارات والتبليغات والاخطارات والدفع الموحد. وكل ذلك ساهم بشكل فعال في توفير الوقت والعبء على المحامين والمتقاضين والنظام القضائي مع تسهيل الإجراءات وعمليات التقاضي بين الخصوم. ولم تعد بعض القضايا كالسابق تتطلب مددا طويلة وصلت في بعضها الى 10 سنوات.
وفيما يتعلق بقضايا المديونيات والحقوق المادية، أصبح الامر لا يتطلب وقتا طويلا للفصل فيها بالمحاكم ثم الوصول إلى التنفيذ، حيث يتم منح المنفذ ضده 45 يوما للإفصاح عن جميع ما يمتلكه، وفي حال ثبوت أي مخالفة عليه يتم التعميم على حساباته المصرفية وسحب المبالغ التي تزيد على 400 دينار بحريني والتي تبقى له كمصروف أساسي. فيما يحجز على ممتلكاته مثل العقارات والسيارات وتجمد الأسهم في البورصة.
* ماذا عن التعديلات التي طرأت على قانون التنفيذ ومن ضمنها إلغاء عقوبة الحبس وتقنين منع السفر؟
** البحرين بناء على توجيهات جلالة الملك المعظم، اتخذت خطوات مشهودة على مستوى العالم في سبيل الارتقاء بالمنظومة القانونية والآليات التنفيذية والجزائية والاجرائية، ومثال ذلك السجون المفتوحة والعقوبات البديلة، وأيضا إلغاء عقوبة الحبس على المدين وتقنين عقوبة منع السفر. وكل ذلك يعكس التوجه الإنساني في البحرين خلال تطبيق العقوبات والتخفيف من عقوبات الحبس وإعطاء الفرص للتصحيح، وفي نفس الوقت ضمان حقوق جميع الأطراف.
وهدف هذه التعديلات على قانون التنفيذ إعطاء فرصة للأشخاص لتسديد مديونياتهم، ولكن في نفس الوقت لم تتهاون في تحميلهم مسؤولية دفع هذه المستحقات. وهنا يبرز قانون الإفصاح كآلية فعالة للتعامل مع هذه الحالات.
ونفس الأمر بالنسبة للشيكات من غير رصيد التي كانت تدرج ضمن تهمة النصب والاحتيال، وكانت القضية هنا تشمل حقا عاما وحقا خاصا مع عقوبة الحبس. ومع التعديلات، صحيح انه ألغيت عقوبة الحبس ولكن أصبح هناك شق جنائي يسجل في ملف الشخص مع غرامة، وهذا ما يعني تضرر الشخص مستقبلا طالما ان عليه قضايا جنائية، وبالتالي يمثل التعديل تشديدا في الردع وليس تهاونا.
* لا ننكر هذه الجوانب الإيجابية، ولكن في الواقع العملي يشكو رجال أعمال وأصحاب حقوق من ضياع حقوقهم او تأخر تحصيلها بسبب هذه التعديلات؟
** نعم فعلا هناك من يستغل بعض الثغرات لصالحه ويعمدون الى التملص. فطالما لن يواجه منع سفر أو حبسا فإن البعض قد يشعر بحرية. ولدينا حالات عديدة من الهاربين من دفع الحقوق في ملفات التنفيذ سواء من الشركات أو الأفراد أو الأجانب وبالأخص في قطاع المقاولات، وغالبيتهم خارج البلاد بعد ان أفلست شركاتهم وتكدست عليهم الملفات في محاكم التنفيذ وهربوا خارج البلاد. وهناك قضايا مرت عليها سنوات طويلة.
وبالتالي لا ننكر هنا ان الحبس كان في السابق إجراء رادعا واداة قوية للضغط على المنفذ ضده، لكنه في نفس الوقت لم يكن في الكثير من الحالات حلا فعالا لعودة الحقوق. ولكن بالمقابل هناك من وجد في هذه التعديلات فرصة لإثبات حسن النية والعمل بشكل مكثف من أجل تسديد ما عليه، وهذا بالطبع أفضل من مواجهة عقوبات من دون منح فرصة التصحيح. ثم انه لا يمكن معاقبة الجميع بسبب تملص البعض من الالتزامات. وفي نفس الوقت كما ذكرنا شملت التعديلات إجراءات صارمة مثل قانون الإفصاح. وقد يرى الإفصاح لا يعتبر رادعا بالشكل المطلوب، ولكن في الواقع نجد ان آلية الإفصاح تعتبر حازمة بشكل كاف لأن أي مخالفة في الإفصاح، وخلال المدة المقررة يعتبر خرقا للقانون ويصبح هنا جانبا جنائيا وليس مدنيا.
وأمام ذلك، يمكن القول إنه لتحقيق الموازنة بين العقوبات السابقة والتعديلات الجديدة، يمكن ان يتم النظر في القضايا وفقا لحالاتها. فمثلا في القضايا التي تثبت عدم تعاون المدين، أو التي تمر عليها فترات طويلة، يمكن هنا اللجوء الى تطبيق العقوبات الأشد مثل منع السفر الدائم وإصدار أوامر القبض عليهم، وذلك حفاظا على حقوق المنفذ لهم.
* أشرتم إلى دور قانون الإفصاح، ولكن ألا يمكن للبعض ان يلجأ إلى التهرب من خلال تحويل جميع ما يملكه الى أقربائه بمجرد ان يتيقن ان الشكوى تتجه الى القضاء. ألا يعني ذلك ان الإفصاح لن يحقق هدفه هنا؟
** أبدا، فلو علم المتضرر مثلا بهذا الأمر، من حقه أن يتقدم ببلاغ ويتم فتح تحقيق قانوني في القضية، وإذا ما ثبت هذا التهرب يعاقب الفاعل جنائيا من باب مصادرة الأموال، والتحقيق هنا قد لا يقتصر على المتهرب نفسه وانما حتى ذويه الذين شاركوا في الامر وتم نقل الملكية إليهم. وتصل العقوبة هنا الى الحبس.. إلا اننا في الوقت نفسه لا يمكن أن نتجاهل أن البعض يتحايل قدر الإمكان على القوانين والإجراءات، ويستغل الثغرات.
عقوبات «الإفصاح» قد تمثل رادعا أكبر من العقاب البدني
المحامي وصاحب شركة وثاق لتنفيذ الاحكام محمد غنيم يؤكد هنا أن التعديلات التي أجريت على القانون ساهمت بشكل كبير في تسهيل وتسريع تنفيذ الاحكام وعودة الحقوق الى أصحابها، بل وتحدّ من محاولات التحايل. ويوضح ذلك بقوله:
وفر القانون سرعة في التنفيذ ومراقبة ممتلكات المدين، وهذا ما لم يكن موجودا في السابق، حيث كانت بعض القضايا تستمر سنوات من اجل تنفيذ الاحكام على ممتلكات المنفذ ضده. ولكن تقلص الأمر إلى أيام معدودة فقط لاسترجاع المبالغ. كما أن الإجراءات المتبعة حاليا مثل الإفصاح وما يشمله من عقوبات في حالة عدم الشفافية بهذا الجانب قد تمثل رادعا أكبر من العقاب البدني من خلال أمر القبض، وقد يدفع المنفذ ضده مبلغا بسيطا ثم يطلق سراحه، وقد تبقى القضية سنوات طويلة بهذا الشكل. ولكن حاليا يتم مراقبة كافة الممتلكات وتنفذ فيها الاحكام. وهذا ما يجعلنا نلمس نوعا من الانتعاش في تنفيذ الاحكام وتحصيل مستحقات المنفذ لهم بشكل أفضل وأسرع من السابق.
* اذن لماذا يشكو الكثير من أصحاب الحقوق من تأخر التنفيذ وضياع الحقوق بعد تطبيق التعديلات الجديدة؟
** قد تكون هناك بعض الحالات تشهد تأخرا لأسباب مختلفة، ولكن في الكثير من الحالات تم إعادة الحقوق الى أصحابها في فترات تعتبر قياسية مقارنة بالسنوات السابقة. وربما أن من يشتكون من تأخر بعض القضايا ليس لديهم اطلاع على القانون القديم، أو لم يلجؤوا الى المنفذ الخاص الذي يمتلك صلاحيات أكبر تخوله من تنفيذ الحكم بشكل أسرع. وهناك حالات تتأخر بالفعل لأن المنفذ ضده ليس لديه أية ممتلكات، وهذا ما يعني تأخر تنفيذ الاحكام بدفع المستحقات.
* قد يكون ذلك، ولكن ألا توجد الكثير من الحالات التي يتهرب فيها المدينون بنقل ممتلكاتهم واموالهم الى اشخاص اخرين بمجرد توقعهم رفع دعوى ضدهم، وخاصة مع غياب الحبس أو منع السفر؟
** واجهنا عدة حالات من هذا النوع، واستطعنا الحصول على مستندات تفيد بالتهرب. وبمجرد تقديمها للقضاء يتم إدخال حتى الشخص المهرب لديه الأموال في القضية وإحالتهم جميعا الى النيابة العامة. وتم اتخاذ الإجراءات الجنائية ضدهم فورا.
* وهل تعتقد ان المنفذ الخاص يمتلك صلاحيات وأدوات كافية كما الموظف العام؟
** من الممكن ان يكون المنفذون الخاصون واجهوا بعض الإشكاليات في البداية، ولكنن نلمس تطورات مستمرة لإزالة أي معوق أمام المنفذين الخاصين، ويتم ذلك بالمراجعة الدائمة ودراسة أي عوائق على أرض الواقع.
الشيكات تواجه عزوفا من التجار بعد إلغاء الحبس على المخالفين
من الجيد ان ننظر الى مصلحة المدين.. ولكن ماذا عن حقوق الدائن؟
رجل الأعمال يوسف صلاح الدين يدلي بدلوه في هذا الجانب من واقع خبرته والقضايا التي مرت عليه. وفي الوقت الذي يؤكد فيه أن التعديلات والإجراءات الجديدة في قانون التنفيذ حملت إيجابيات عديدة لعل من أبرزها السرعة في الانتهاء من القضايا والبت فيها وتنفيذها، إلا انها بنفس الوقت جعلت العديد من المستثمرين ورجال الاعمال يواجهون مشاكل تتعلق بتحصيل حقوقهم.
ويضيف: هناك استغلال من البعض لهذه التعديلات وخاصة بعد الغاء عقوبة الحبس وتقنين منع السفر. بل ان ما يمكن اعتباره تخفيفا في العقوبات الرادعة خلق مشاكل كثيرة وشجع الكثيرين مع الأسف على استغلال هذا التخفيف كوسيلة للتهرب او التملص او التأجيل.
وهنا، من الضروري في الوقت الذي ننظر الى مصلحة المدين ونعمل على إعطائه فرص للتسديد، ان ننظر الى حقوق الدائن ومسؤولياته وإلى الضرر الذي يلحق به بسبب تأخر تحصيل حقوقه وتأثيرها على التزاماته مع الآخرين. فما ذنب الدائن في ان يدخل في مشاكل أخرى بسبب مدين لم يلتزم بتسديد ديونه؟ بل وصار يستغل تخفيف العقوبات لمنفعته الشخصية.. وكأن التعديلات الجديدة أعطت حقوقا للمدين وسلبت حقوق الدائن.
* صحيح ان التعديلات شملت تخفيفا لبعض الإجراءات، ولكن في المقابل ألم توضع روادع كافية مثل قانون الإفصاح الذي يضمن عقوبات الحبس والغرامة لمن تثبت عدم مصداقيته؟
** ربما تمثل في مجملها إجراءات صارمة، ولكن في الواقع العملي ومن خلال القضايا التي مررنا بها والتي خسرنا فيها مبالغ طائلة وحقوقا، وجدنا ان الكثير من الأشخاص ينجحون في التحايل على هذا الجانب والتهرب من خلال تحويل ما يملكونه من أصول الى أسماء أشخاص اخرين أو إخفائها.
في السابق كان أغلب المدينين يحاولون حل المشكلة وديا مع الدائنين، وكان أغلبهم يلتزمون بوعودهم. ولكن مع التعديلات الجديدة صرنا نواجه مشكلة أخرى وهي ان الكثير منهم بات يشعر بنوع من الحصانة لثقته بعدم اتخاذ إجراءات صارمة ضده. وحتى مراكز الشرطة لم تعد قادرة على التعامل مع هذه القضايا بسبب كونها جنحة مدنية في حين كانت في السابق جريمة جنائية.
بل حتى منع السفر ليس بالسهولة التي يتصورها البعض، ففي مرات عدة ترفع دعاوى على مواطنين وأجانب لمنعهم من السفر وترفض، ونضطر إلى الاستئناف وقد نحصل أو لا نحصل عليه. وأقرب مثال على ذلك ما نشر في الصحف قبل أيام بشأن حكم مستعجل بإلغاء حكم سابق بمنع من السفر.
وفي إحدى الحالات، رفع متضرر قضية على أجبني لم يدفع الإيجار مدة 4 أشهر. وطلب منع السفر وإخلاء المبنى. وفعلا جاء الحكم بإخلاء المبنى ولكن رفض منع السفر بحجة انه لا يوجد سوء نية. والسؤال هنا: هل ستثبت سوء النية عندما يغادر البلد من غير رجعة وتضيع الحقوق؟
لذلك صرنا نواجه استهتارا وتهكما من بعض المدينين بقولهم: ماذا تستطيعون ان تفعلوا؟ هل ستطالبون بمنعنا من السفر؟ فالمنع سيكون لتسعة أشهر فقط وبعدها نكون أحرارا طلقاء.
وعندما نلجأ الى المحاكم، نمر بإجراءات ومراحل قبل الحكم، ثم الاستئناف، ثم التمييز. وكل ذلك يستغرق وقتا طويلا وتكاليف إضافية تسبب خسائر كبيرة للدائنين، في الوقت الذي يبقى المدينون متمتعين بحياتهم والبعض يسافر للاستجمام من دون اكتراث! وهذا بحد ذاته يؤكد أنهم مازالوا يمتلكون دخلا جيدا.
* ولكن أليس حبس المدين يضيع الفرصة على من يمتلك نية حسنة للتسديد مستقبلا؟
** هذا الكلام صحيح للشخص الذي يمتلك النية الحسنة والصادقة، ولكن متى ثبت أن الشخص متلاعب وله سوابق يفضل ان يطبق عليه منع السفر على ان يكون الحبس في خطوة لاحقة اذا ما ثبتت محاولات التهرب او التملص.. اضف الى ذلك أنه حتى الشيكات لم تعد تمثل ثقة كافية بسبب إلغاء عقوبة الحبس وتهاون البعض في اصدار شيكات من دون رصيد وعدم الإحساس بالمسؤولية القانونية، مما أدى إلى عزوف الكثيرين من الأشخاص والشركات عن التعامل بالشيكات المؤجلة، وهذا ما يؤثر سلبا على المعاملات التجارية بشكل عام. فالكثير من المعاملات كانت تتم من خلال شيكات مؤجلة، ولكن بات العديد من التجار يطلبون الدفع نقدا او إلغاء الصفقة!. وفي حين كانت الإجراءات في السابق عند إصدار شيك من دون رصيد، أنه يمكن التوجه الى مراكز الشرطة واتخاذ إجراءات فورية بشأن المدين، وفي كثير من الأحيان كان المدين يدفع خشية الاستدعاء إلى مراكز الشرطة أو رفع القضية إلى المحاكم. ولكن لم يعد هذا الامر ممكنا في الوقت الحالي. بل صار البعض عندما نحذره من تقديم شكوى يقول بكل جرأة: «هل تريد أن أدلك على مراكز الشرطة أو المحاكم؟» والغريب ان البعض وعلى الرغم من وجود قضايا وشكاوى ضدهم بشأن إصدارهم شيكات سابقة من دون رصيد، تبقى حساباتهم نشطة ويستمرون في اصدار شيكات أخرى من نفس البنك.
* إذا ما صدر حكم لصالح الدائن، هل هناك إشكاليات تتعلق بالتنفيذ؟
** نعم، فمن جانب صحيح ان التنفيذ أصبح يتم بشكل أسرع ولكنه بات مكلفا، حيث يضطر الدائن الى دفع نسبة الى المنفذ الخاص. كما ان القاضي لا يلزم صاحب الشركة بتحمل الأجرة او الدين حتى لو كان مذكورا في العقد وحتى لو كان هناك بند بأن العقد يتم فسخه تلقائيا في حالة عدم دفع الأجرة، كما انه في سند الدفع «الكمبيالة» يذكر بإمكانية رفع الدعوى غيابيا ولكن لا يؤخذ به مع ان المتعارف عليه ان العقد شريعة المتعاقدين.
اشتراط 45 يوما لبدء إجراءات التنفيذ يعطي فرصة لنقل الأموال.. والهروب
«قانون التنفيذ الجديد في كثير من الحالات ساهم في وقف التنفيذ»
بهذا العبارة لخص رجل الاعمال، الرئيس التنفيذي لمجموعة الفاتح جاسم الموسوي رأيه، مؤكدا انه ينطلق من تجارب مريرة مر بها. ويشرح لنا ذلك بقوله: معاناتنا كبيرة في عدة ملفات تنفيذ تخلف أصحابها عن الدفع في ظل القانون الجديد. فمثلا اشتراط مدة 45 يوما قبل بدء اتخاذ إجراءات التنفيذ يعطي المنفذ ضدهم فرصة لإفراغ حساباتهم البنكية وتحويل أملاكهم والسفر والهرب خارج البلاد، من دون وجود إجراءات رادعة لمثل هذه التصرفات.
وعلى الرغم من قيام المسؤولية الجنائية على المنفذ ضده المخالف لأحكام الإفصاح طبقًا لأحكام المادة (58) من قانون التنفيذ، فإن أحكام المادة لا تشكل رادعًا حقيقيًا يحول دون منع أو ازدياد هذه التصرفات بسبب الإجراءات المطولة في محاسبة المخالفين، حيث ترتكب المخالفة عبر تقديم إفصاح من قبل المنفذ ضده بعدم امتلاكه لأي شيء بعد تحويل جميع أملاكه وإغلاق سجلاته، بل ويثبت المديونيات على نفسه، على الرغم من أن الحقيقة عكس ذلك، وبالتالي لا يتم تحصيل أي مبالغ في ملفات التنفيذ.
ولدينا الكثير من الأمثلة والحالات، منها مثلا قضية نطالب فيها المنفذ ضده بمبلغ 22 ألف دينار لم يدفع منها دينارًا واحدًا منذ أربع سنوات على بدء النزاع على الرغم من استنفاد كافة سبل وإجراءات التنفيذ (منها تعيين المنفذ الخاص الذي فشل في تحصيل أدنى مبلغ من المنفذ ضده)، وحتى بعد تقديم شكوى جنائية ضد المنفذ ضده.
ولدينا قضية أخرى تعود الى عام 2012 تم فيها إلزام المنفذ ضده بدفع مبلغ 10 دنانير شهريًا لتقسيط كامل مبلغ الملف البالغ 5000 دينار (حيث يكون التقسيط لمدة تبلغ 50 سنة)، وبعد إقرار القانون الجديد تخلف المنفذ ضده عن الدفع.. ولا سيما مع عدم وجود إجراء فعال لتعقب وجلب الأموال كالمحقق الخاص. وكأن القانون الجديد وضع عبء البحث والتحري وإثبات الإخفاء على المنفذ له والمنفذ الخاص الذي لا يملك ما يخوّله من صلاحيات كافية لتحصيل المبالغ من المنفذ ضدهم.
ومن القضايا التي نعاني منها أيضا حالة رفض فيها المنفذ ضده تسليم السيارات المحجوزة والمنقولات رغم تقدم المنفذ الخاص بشكوى جنائية ضده بعرقلة التنفيذ وتم تغريمه على أثرها، ولكن للأسف لم يتم تحصيل كامل مبلغ الدين المتبقي في الملف حتى يومنا هذا.
وهناك قضية ضد مستأجر نطالبه فيها بمبلغ 7000 دينار لم يدفع منه دينارًا واحدًا، بل قام بترك العقار، وتم تقديم شكوى جنائية ضده بعدم الإفصاح، ولم يتم تحصيل أي مبلغ منه، على الرغم من مرور 3 سنوات من تاريخ بدء النزاع.
«المـنـفـذ الخــاص» سرّع وتـيرة التـنـفـيذ..
وبعض الإجراءات الجنائية تبطئ سير العملية
المنفذ الخاص بات أحد الأركان الرئيسية في تنفيذ الاحكام وفقا للإجراءات الجديدة. وهنا نتساءل: كيف ينظر المنفذون الخاصون لهذه الإجراءات من واقع تجربتهم العملية؟
سؤال ناقشناه مع المحامي والمنفذ الخاص في (شركة تنفيذ) حسين الحداد، وعنه أجاب: باعتبارنا (منفذا خاصا) نرى أن قانون التنفيذ الجديد منذ صدوره قد ذلل الكثير من الصعاب في ما يخص التنفيذ العيني، إذ كان مسبقاً منصباً على عاتق مجموعة محددة من الموظفين بعدد ثلاثة أو أربعة على أكثر تقدير، منوطا بهم تنفيذ أحكام الإخلاء والطرد والتحضير لبيع السيارات والعقارات وحجز المنقولات وغيرها، وهو السبب الرئيسي في تأخير التنفيذ العيني فضلاً عن بعض الأسباب الثانوية الأخرى. وفي رأينا إن كان أجر المنفذ الخاص قد أرهق بعض الشيء المتقاضين، فإنه قد سرّع وتيرة التنفيذ العيني وإرجاع الحقوق إلى مستحقيها وهو شيء لمسناه فعلاً.
كما أن المنفذ الخاص قد استفاد من استمارات الإفصاح عن الأموال والممتلكات التي يقدمها المنفذ ضده، وذلك لمعرفة مواقع التنفيذ العيني فيما أفصح عنه من معلومات.. علما بأن المنفذ الخاص لا يُعنى بموضوع القبض والحبس أو المنع من السفر الدائم لأن ذلك ليس في دائرة اختصاصه.
وبصفتنا (محاميا) -يضيف الحداد- نرى أن المشرع -في القانون الجديد- حسناً فعل بأن أضاف الغرامة (التهديدية) للتنفيذ العيني وجعل لقاضي التنفيذ سلطة تقديرها، ذلك أنها ساهمت -باعتبارها وسيلة تهديدية- في إجبار المنفذ ضده في التنفيذ العيني.
وكذلك الحال بالنسبة لإلزام المنفذ ضده بالإفصاح عن أمواله وممتلكاته، فهو من الأمور الإيجابية جداً.
إلا أن بطء الإجراءات الجنائية فيما يخص البلاغات المتعلقة بعدم الإفصاح يشكل عبئاً على سرعة سير التنفيذ، ونرى أنه بالإمكان الإسراع في ذلك من خلال إضافة خاصية إحالة الملف من قبل قاضي التنفيذ مباشرة إلى النيابة العامة بعد تقدم المنفذ له بطلب في ملف التنفيذ.
كما أننا لمسنا بشكل كبير كما لمس السواد الأعظم من المحامين أن إلغاء أمر القبض والحبس والمنع من السفر الدائم قد أضعف من فاعلية التنفيذ، ذلك أن أغلب ملفات التنفيذ التي كان المنفذ ضدهم ملتزمين فيها بتقسيط المبالغ قد توقفوا عن التقسيط بعد إلغاء أمر (القبض والحبس والمنع من السفر الدائم)، كما أن حصر المنع من السفر في مدة تسعة أشهر من السنة فقط سهّل من هروب الأجانب على الخصوص، ونرى هنا ضرورة إرجاع تطبيق تلك الوسائل التهديدية مع تضييق حالة فرضها بل وتقنين إعمالها على حالات معينة على سبيل الحصر وإعطاء السلطة التقديرية لقاضي التنفيذ في تطبيقها.
الواقع يثبت تزايد حالات التهرب
والتحايل بسبب تخفيف الروادع الكافية
رأي آخر نتوقف عنده وهو لرجل الأعمال علي لاري، الذي يؤكد أنه عانى كغيره من استغلال البعض تخفيف العقوبات وتعديل الإجراءات بهدف التملص او تأخير ارجاع الحقوق.
يؤكد لاري أن التعديلات التي أجريت على قانون التنفيذ تحمل الكثير من الإيجابيات والاضافات، من ذلك إلزام المدين بالإفصاح والاقرار عن كل ما يمتلكه من أموال وأصول وغيرها، مع إمكانية تعقب جميع المعاملات الالكترونية والمصرفية التي يقوم بها. إلا أن الإشكالية التي يواجهها أصحاب الحقوق أن بعض الأشخاص لا يكونون صادقين في إقرارهم. فمثلا يتوقع الشخص مقدما انه سيخسر القضية فيبادر الى ترتيب أموره مسبقا، كأن تكون معاملاته اليومية نقدا، ويحول ملكياته الى أسماء أقاربه، وخاصة مع عدم وجود رادع حقيقي يمنعه من هذا التحايل.
ويضيف: بالتالي فإن الآليات الموجودة في القانون جيدة في تعقب أموال المنفذ ضده ومنعه من إخفاء أو تهريب أمواله اثناء النظر في الدعوى. ولكن الإشكالية أن القانون لم يعط المنظومة القضائية الأدوات السريعة والمجدية لتنفيذ هذا الأمر. وهنا يقع العبء والجهد والمسؤولية على الدائن المتضرر في إثبات التحايل. وهذا ليس بالأمر السهل.. لذلك نجد أشخاصا يتعاملون بالعقارات ولديهم عدة سيارات فارهة وممتلكات، ولكنها مسجلة بأسماء ذويهم، وحساباتهم البنكية فارغة. وهذا مؤشر واضح على التحايل، وفي نفس الوقت من الصعب اتخاذ اجراء لإثبات ذلك، بل إذا قام الشخص بنقل ملكية عقار مثلا الى زوجته ليثبت خلال المحاكمة عدم امتلاكه شيئا، يحتاج المدين الى رفع دعوى مطالبا بإعادة الملكية اليه.
وبالتالي نقول إن القانون وضع روادع أخرى مثل الإفصاح، ولكن الواقع العملي أثبت ان مراحل هذا الرادع صعبة ومستعصية. واذا لم يوفر القانون الإمكانيات الكافية لاسترجاع الأموال التي تم تهريبها تهربا من المسؤولية، فإن الغاية من الإفصاح لن تتحقق هنا.
وهناك جانب مهم آخر يتعلق بالمنفذ الخاص الذي على الرغم من امتلاكه الى حد ما صلاحيات الموظف العام، إلا أنه لم يعد يمتلك تلك الهيبة السابقة، بل إن بعض المنفذين يواجهون قضايا كيدية كنوع من الانتقام، وبعض المنفذ ضدهم يتعاملون مع المنفذين الخاصين باستخفاف! في حين أن التطوير يتطلب منح صلاحيات أوسع وأقوى مثل تعقب الحسابات ومتابعة المعاملات والشيكات والتحقق من عدم وجود تهرب بعد أن تثبت الحقوق. ووجود هذه الصلاحيات قد يسد الفجوة الموجودة حاليا والتي تستدعي من المتضرر أن يلجأ الى رفع قضايا جنائية.
وهناك إشكاليات أخرى تتعلق بتنظيم المدد الزمنية للتنفيذ. فمثلا عند رفع دعوى يتم إرسال إخطار بالمواعيد والفترات الزمنية المحددة لتوفير كل طرف ما يمتلكه من وثائق واثباتات لتنظر فيها المحكمة بشكل سلس وسريع قبل ان يصدر الحكم، وهذه خطوة مهمة جدا في تسهيل الإجراءات وتسريعها. ولكن هذه المدة المحددة لا نجدها في التنفيذ. وهي من الإشكاليات التي نواجهها ويواجهها الكثير من أصحاب الحقوق.
* هل نفهم من ذلك ان الوضع في السابق كان أفضل في تحصيل الحقوق؟ ألم تكن الشكاوى أن الحبس يمنع الكثيرين من محاولة تسديد ما عليهم؟
** في اعتقادي أنه بدل الاختيار بين الإجراءات السابقة أو الحالية، من الأفضل المزج بينهما. ففي السابق مثلا كانت تطبق عقوبة الحبس، ولكن لم يكن هناك إفصاح وتعقب كما هو الآن. وفي الوقت الحالي أزلنا الرادع مع فرض الإفصاح، وبقيت الإجراءات بحاجة الى رادع قوي. لذلك من يطالب بإعادة عقوبة الحبس ينطلق من أن الوضع الحالي لا تتوافر فيه القوة القانونية، مما يفسح المجال للبعض للتهرب بشكل أكبر من السابق. وفي المقابل لو قوينا صلاحيات التعقب والتتبع لدى المنفذ الخاص مثلا لاستغنينا عن الحاجة إلى عقوبة الحبس. فلا يمكن أن ننكر أن البعض يعمل بسوء نية، والحبس كان يقيد من يعمل بسوء نية. فمثلا في السابق إذا استأجر منك شخص مبنى وأعطاك شيكات لمدة سنة، ثم تهاون في الدفع، قد يواجه عقوبة الحبس لإصدار شيكات من دون رصيد. لكن في الوقت الحالي لا توجد ضمانات مجدية. لأن الشيك المسترجع لا يحبسه ولا يمنع عنه السفر. وإذا كان أجنبيا، فلديه الوقت الكافي للهروب نهائيا خلال الفترة التي يستغرقها رفع دعوى والمطالبة بمنع السفر، وقد يقبل الطلب وقد يرفض، وبالتالي قد تضيع الحقوق. في حين كان الشيك في السابق كافيا لحبسه او منعه من السفر مباشرة.
من هنا في اعتقادي أنه يمكن الاستفادة من التعديلات الجديدة على قانون التنفيذ، مع تمكين آليات وإجراءات مهمة.. من ذلك:
- أن تطلب المحكمة بشكل فوري كشوف الحسابات للمدعى عليه عن طريق «بنفت» او غيره من تاريخ الدين، وليس من تاريخ رفع الدعوى. وهذا كفيل بإثبات ما إذا كان هناك تهرب ام لا.
- ان يكون تاريخ الإفصاح منذ استلام المنفذ ضده المبالغ المتعلقة بالدين لا من تاريخ رفع الدعوى.
- تعزيز صلاحيات المنفذ الخاص بما يمكنه من تعقب أموال المنفذ ضده في البنوك والاستفسار عن الحسابات والمعاملات.
- تحديد مدد زمنية واضحة لسير لشكاوى، مما يحدّ من تجاوزات او مماطلة بعض المنفذ ضدهم ويقلص فرص تهريب الأموال او الممتلكات.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك