ربما تكون البحرين هي الدولة الأعلى نسبة في عدد المتقاعدين عن العمل، ولا سيما مع تطبيق نظام التقاعد الاختياري وخروج أعداد كبيرة من الموظفين صغار السن إلى التقاعد استفادة من العرض المصاحب للبرنامج.
والأصل أن موضوع التقاعد عن العمل تنظمه قوانين التقاعد في الدول، التي تحدد سنا معينة وسنوات عمل فعلية يُحال الموظف بعد انقضائها إلى التقاعد ضماناً لتحريك الدماء في قطاعات العمل ورفدها بالفئات العمرية الشابة. وتختلف أنظمة الدول في التعامل مع الموظف المتقاعد بعد بلوغه السن القانوني للتقاعد، فالبعض يعتبره ثروة وطنية متراكمة الخبرات فيُعاد تسكينه في موقع يتناسب مع خبراته بعقود وقتية، والبعض يقوم بتقدير الموظف ولا سيما ذوي الاختصاص فيتم تخصيص مكاتب لهم لاستشارتهم وقت الحاجة.
وفي الماضي كانت فكرة التقاعد عن العمل مخيفة للموظفين وتُشكّل رعباً لهم لأنها تعتبر بمثابة النهاية الحتمية للمتقاعد، حتى كان الكثير منهم يتوفون بعد فترة قصيرة من خروجهم إلى التقاعد، ولكن تغيّر الحياة وزيادة الوعي والفكر وتحسّن المستويات المعيشية والصحية والبيئية والغذائية لعبت دوراً كبيراً في تغيير الثقافة المجتمعية والفكر الإنساني، ولم تعد فكرة التقاعد عن العمل مخيفة كالسابق، بل إن الكثير يعتبر تقاعده بداية مرحلة جديدة من حياته ليمارس فيها هواياته أو يعيد اكتشاف شغفه أو حتى يبدأ في مشروع جديد قد يشكّل مصدر دخل إضافيا له ومجالاً للعمل والعطاء من موقع آخر مختلف، وفي كل الأحوال تُولي الدول متقاعديها عناية خاصة جداً تقديراً لبذلهم سنوات عمرهم في خدمة أوطانهم، فتُخصص لهم مميزات تعينهم على الحياة من قبيل التقدير والتشريف كالإعفاءات من بعض الرسوم ومنح مزايا وتخفيضات لخدمات أخرى وغيرها.
إلا أنه من جانب آخر استجد بعد اعتماد نظام التقاعد الاختياري في مملكة البحرين وتطبيقه مؤخراً، فقد يكون الخروج إلى التقاعد مصدراً لبطالة من نوع جديد، وخاصة للذين استفادوا من هذا البرامج، وبالأخص فئة الشباب منهم الذين لم يكملوا الخمسين من العمر، والذين يعتبرون في قمة قدرتهم على العطاء وخدمة الوطن، وهم فئة تم اهدار طاقتها وحُرم الوطن من نفعها دون مبرر معقول ومقبول.
وقد اخترت الحديث في هذا المقال عن المتقاعدين، بعد أن اطلعت على حجم خيبة أمل المتقاعدين بعدما تسلموا راتب يناير 2024، الذي جاء خالياً من الزيادة السنوية، وأعلم -وليت من بيده القرار يعلم- كم هو مؤلم هذا الأمر بالنسبة إليهم، وتذكرت صوت المغفور له بإذن الله تعالى سعد سلطان صوت المواطن الذي مازال يردد (لك الله يا مواطن)، لأن هذه الفئة تعتبر فئة ضعيفة، لذا تجد أنها الفئة الأكثر التي يتعالى صوتها بالمطالبات، ولا سيما في ظل ما مرّت وتمر به الصناديق التقاعدية من إخفاقات في إدارة الأموال التقاعدية عبر سنوات عديدة، انتهت بها إلى أكثر قرار اتخذ وتسبب للمتقاعدين في ضيق النفس والحال وهو إصدار قانون وقف صرف الزيادة السنوية في المعاشات التقاعدية والتي كانت تشكل متنفساً بسيطاً للمتقاعدين لمواجهة متغيرات الحياة الاقتصادية ومتطلباتها، ولا سيما أيضاً مع تفشّي البطالة التي أصبحت تثقل كاهل المتقاعد باعتبار اختلال العجلة الاقتصادية الاسرية، والتي كانت تسير بيُسر في ظل عمل الأبناء ومساعدتهم لآبائهم بشكل يحقق توازنا اقتصاديا في الأسرة، فتسقط مصاريف الأبناء من موازنة الوالدين ويُسهم الأبناء في دعم والديهم ويتحسن بذلك المستوى الاقتصادي وتسير سفينة الأسرة بشكل آمن، أما والحال أن الأبناء يبقون بلا عمل، فإن أعباء الآباء مستمرة دون أن يكون هناك تغيير في معاشاتهم التقاعدية، وتتفاقم بذلك إشكالية المستوى المعيشي واحتياجاته.
وتبقى دائما المطالبة بإعادة صرف الزيادات السنوية للمعاشات التقاعدية موضوعاً لا تجفّ قنوات المطالبة به حتى يتحقق ويفرح المواطن باسترجاع حقّه السنوي الذي لا منازعة في استحقاقه له، مع ضرورة عمل الجهات المختصة وأصحاب القرار على حماية الصناديق التقاعدية والمحافظة على حقوق وأموال المتقاعدين من سوء الإدارة ومكافحة كل أشكال الفساد المتوقعة تجاهها.
ومن جانب آخر، من المؤمل من الدولة أن تدرك أن متقاعديها هم ثروة وطنية، يجب الاستثمار فيها، والاستفادة من خبراتهم كما تستثمر في فئة الشباب، ومن جانب آخر يجب على الجهات التي عمل لديها المتقاعد ألا تُسقط من ذاكرة تاريخها الأشخاص الذين قضوا سنوات طويلة من عمرهم في تسيير أعمالها، لذا في لفتة إنسانية منها نأمل من الوزارات والمؤسسات الحكومية والخاصة أن لا تنسى متقاعديها، وأن تبقى على تواصل مع منتسبيها السابقين من المتقاعدين وأن تقوم بدعوتهم إلى مناسباتها وفعالياتها العامة ليبقى التواصل مستمراً إذ ربما يكون هذا المتقاعد عيناً لها يدعم أعمالها ويراقب معها.
Hanadi_aljowder@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك