أصدر مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات في بيروت مؤخرا كتاباً جديداً بعنوان «كيف نقاضي إسرائيل؟: المقاضاة الدولية لإسرائيل وقادتها على جرائمهم بحق الفلسطينيين»، لمؤلفه الدكتور سعيد طلال الدهشان.
ويهدف هذا الكتاب، الواقع في 335 صفحة من القطع المتوسط، إلى رسم المسار القضائي، أو خريطة طريق، لما هو مطلوب عمله فلسطينياً وعربياً، وإسلامياً، ودولياً لمقاضاة «إسرائيل» وقادتها. وتتلخص الإشكالية التي ناقشها البحث بمدى إمكانية مقاضاة «إسرائيل» كدولة، وقادتها كأفراد وكمسؤولين، على جرائمهم بحق الفلسطينيين، وكيف يتم تحقيق ذلك. مع تقديم مقترحات لصانعي القرار الفلسطيني، نحو الآليات الأكثر فاعلية لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين، وكيفية الاستفادة المثلى منها.
ويقدم الكتاب تقويماً شاملاً ومفصلاً لواقع الآليات الدولية للمقاضاة، من ثم يقدم تقييماً لمدى فاعلية تلك الآليات على الأرض، مع ضرب الأمثلة والنماذج العملية لتلك الآليات الدولية في قضايا مشابهة للحالة الفلسطينية، أو ذات علاقة بموضوع الكتاب.
ويتناول الكتاب في الفصل الأول مفاهيم أساسية في القانون الدولي الجنائي، مستعرضاً الأحكام الموضوعية للجرائم الدولية، وبعض أشكال المقاضاة الدولية، والحكم القضائي الدولي.
ويسلّط الفصل الثاني الضوء على المرتكزات القانونية الدولية، من مبادئ وقواعد قانونية واتفاقيات دولية، لمقاضاة المتهمين بارتكاب جرائم دولية.
ثم يستعرض الفصل الثالث الآلية القانونية الدولية لمقاضاة «إسرائيل» كدولة في محكمة العدل الدولية. ويتناول الفصل الرابع الآليات القانونية الدولية لمقاضاة مجرمي الحرب الإسرائيليين كأفراد أمام المحاكم الوطنية ذات الاختصاص القضائي العالمي، وأمام المحكمة الجنائية الدولية.
أما الفصل الخامس فيسلّط الضوء على دور المنظمات الدولية، ودور مؤسسات حقوق الإنسان، ووسائل الإعلام الفلسطينية، في تفعيل مقاضاة «إسرائيل» وقادتها.
ويتناول الفصل السادس الإجراءات السيادية والإدارية المطلوبة للعمل على تفعيل مقاضاة «إسرائيل» وقادتها دولياً. ويعدُّ هذا الكتاب من الكتب القليلة التي ناقشت موضوع مقاضاة «إسرائيل»، وهو يُعدُّ دليل إجراء عملي لكل المتخصصين في متابعة عملية المقاضاة.
لقد أخذ هذا الكتاب، الذي كُتب بلغة علمية متخصصة، موقعه المتميز كمرجع أساسي لا غنى عنه لكل المعنيين بالمقاضاة الدولية ومحاكمة الدول والأفراد.
يجب ألّا يخفى على أي باحث قانوني أن الأحداث التي تمرّ بها فلسطين عموماً إنما هي أحداث سياسية في الأساس يتداخل فيها التاريخ مع الجغرافيا والدين مع السياسة والمحلي بالإقليمي بالدولي. ويجب ألا يخفى أيضاً أن الصراع العربي الفلسطيني إنما هو صراع دولي بكل معنى الكلمة، أدواته متنوعة بين عسكرية واقتصادية وإعلامية وثقافية واجتماعية... كل هذه القضايا تشكل المكوّن الرئيسي للقضية الفلسطينية. وأمام هذه المعطيات الهائلة، يصبح الجهد القانوني مسألة معقدة إن لم تؤخذ هذه المعطيات في الاعتبار، وتصبح الأدوات القانونية عاجزة عن تلبية ما يبحث عنه الشعب الفلسطيني منذ عقود طويلة. إنّ لكل معركة رجالاً، ولكل ميدان أدوات، وأي استخدام خاطئ إنما يضرّ بالقضية الفلسطينية. إن الباحث القانوني عندما يبحث في القضية الفلسطينية يجب أن يضع كافة هذه المعطيات على طاولة النقاش والبحث، وأي إغفال لها يجعل الجهد القانوني عبارة عن أمنيات وأحلام، وخصوصاً إذا تعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، فكيف إن كان الجهد القانوني متعثراً وغير حقيقي.
مما لا شك فيه، أن أي نظام قانوني - كي يكون فاعلاً - إنما يحتاج إلى وجود جهاز قضائي مستقل ودائم يعمل على تأكيد احترام هذه الأحكام ويحدد مسؤولية كل من يخرج عنها. هذا ما افتقده المجتمع الدولي لفترة طويلة من الزمن، حيث لم يوجَد خلالها جهاز قضائي ذو مستوى فعّال لتطبيق قواعد القانون الدولي بصفة عامة وقواعد القانون الدولي الإنساني بصفة خاصة، ولا سيّما ما يتعلق بفلسطين المحتلة؛ نظام قانوني يستند إلى ضمانات دولية حقيقية وفاعلة وذات صدقية تدعمه.
في هذا الإطار فقد بذل الباحث الدكتور سعيد الدهشان جهداً كبيراً، من خلال كتابه «كيف نقاضي إسرائيل؟ المقاضاة الدولية لإسرائيل وقادتها على جرائمهم بحق الفلسطينيين» من أجل الوصول إلى معرفة الخيارات القانونية المتاحة، ومن ثم اختيار الخيار الأكثر نجاعة.
ولعل محاولة الباحث سوف تكون معقدة للغاية حين مناقشة الظروف السياسية التي يعمل بها صانع القرار السياسي الفلسطيني، الذي يسجل الباحث وفي أكثر من مناسبة عتبه الواضح على أدائه الذي لا يتناسب مع أهمية القضية الفلسطينية. فبعد إبرام اتفاقية أوسلو سنة 1993، استمر الجانب الفلسطيني في تخبطه القانوني من دون الرجوع إلى أهل الخبرة في القانون الدولي، حتى إذا أراد الرئيس الراحل ياسر عرفات أن يعلن قيام الدولة الفلسطينية في ربيع سنة 2000، كما كان مقرراً له بموجب اتفاقية أوسلو، واجه تحدياً عارماً من الجانب الإسرائيلي، ليكتشف لاحقاً أن ذلك الإعلان مرتبط بشروط قانونية في ملحقات الاتفاقية الدولية، يكاد يستحيل تحقيقها على أرض الواقع. فبدلاً من أن يطالب بتفعيل المادة 22 من ميثاق الأمم المتحدة في الجمعية العامة، بعد كل اعتداء يقوم به الإسرائيليون، ليتمكن من محاكمة المسؤولين الإسرائيليين في محاكم دولية، يكتفي المسؤولون الفلسطينيون بتكرار طلبهم، السياسي لا القانوني، في مجلس الأمن ليُواجه بفيتو أمريكي في كل مرة، أو يحصل على مجرد تنديد من المجلس في أحسن أحواله من خلال بيان رئاسي أو ما شابه.
وفيما كان ينبغي لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية أن تستثمر تقرير بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن العدوان على قطاع غزة، المعروف اختصاراً باسم «تقرير جولدستون»، من أجل إحالة نتائج التقرير الذي اعترف بارتكاب «إسرائيل» جرائم حرب إبان حربها على غزة، تصرف قيادة منظمة التحرير الفلسطينية نظرها إلى الجهة الأخرى، وكأن الخيار الجنائي غير مطروح أصلاً.
وبدلاً من مقاضاة المجرمين الإسرائيليين تحت مبدأ الاختصاص العالمي (المادة 146 من اتفاقية جنيف الرابعة)، من طريق تحريك مكاتب محاماة في الدول الأوروبية، لكون ممارسات دولة الاحتلال تعتبر خرقاً جسيماً لاتفاقية جنيف الرابعة 1949، يراوح القائمون على قيادة الشعب الفلسطيني مكانهم، مكتفين بفقاعات إعلامية لا تسمن ولا تغني من جوع.
مع مرور الوقت الطويل على المفاوضات السياسية مع الاحتلال، أصبح الأمر مثيراً للسخرية حقاً، حين أصبح تعنت الاحتلال أكثر وأشد: لا لحلّ الدولتين، لا لإيقاف الاستيطان، لا لهدم الجدار العازل، لا للمبادرة العربية، لا لعودة اللاجئين، لا لفكّ الحصار عن غزة، لا لإنهاء احتلال القدس والضفة الغربية، لا للاعتراف بنتائج الانتخابات الفلسطينية. ومع هذا التعنت الإسرائيلي، تتمسك قيادة منظمة التحرير بالمفاوضات حلاً وحيداً، وترفض خيار المقاومة بكافة أشكالها، حتى المقاومة الشعبية.
إزاء هذه المعطيات المعقدة، وإزاء الفجوة الهائلة بين الوقائع التي فرضها الاحتلال على الأرض وضعف الأداء السياسي الفلسطيني في إدارة المعركة القانونية مع الاحتلال، فإنك تجد إصرار الباحث واضحاً في الانتقال بين فصل وآخر وبين خيار وآخر وبين فرصة وأخرى، حتى لكأنه يأخذك إلى مقولة أن الانتصار في المعركة القانونية أمر ممكن لو توفرت ظروف سياسية مواتية، لكن الباحث ومع قدرته على الخوض في غمار البحث القانوني إلا أنه أيضاً طرح خيارات سياسية وإدارية مهمة، قد تشكل رافعة سياسية فيما لو أخذ بها صانع القرار السياسي على محمل الجد.
يرى الباحث أن الخيار الأكثر أهمية لمقاضاة «إسرائيل» وقادتها هو خيار محكمة الجنايات الدولية، ومع أنه يحمل الجانب الفلسطيني المسؤولية بسبب عدم جديتها في هذا الإطار، سوء الجانب الرسمي أم جانب المنظمات غير الحكومية التي لم تعد الملفات بشكل جيد، إلا أن الباحث، أغفل، عن غير قصد، أن البيروقراطية المعقدة الذي تعتمد عليه محكمة الجنايات الدولية، وعلاقة المحكمة بمجلس الأمن، ثم عدم جدية المدعي العام لهذه المحكمة في فتح تحقيق تحت دواعٍ قانونية وأخرى إجرائية، كل ذلك يشكل عقبة كبيرة في اعتماد هذا الخيار، لا بل قد يجعله من الخيارات غير الممكنة في المدى المنظور والمتوسط.
أما خيار المحاكم ذات الاختصاص العالمي لا سيّما الأوروبية منها، فقد أورد الكاتب جملة من الخطوات لا بدّ من توفرها كي تكون فاعلة في ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين أو حتى التشويش سياسياً عليهم، إلا أن الكاتب لم يذكر أن العلاقات السياسية والاقتصادية بين الدول الغربية و«إسرائيل» قد تكون أكبر بكثير من إعمال العدالة الدولية، وقد تتخذ هذه الدول قرارات مجنونة في سبيل المحافظة على هذه المصالح. صحيح أن ثمة إنجازات متواضعة في هذا المجال أربكت بعض الساسة الإسرائيليين في المطارات الغربية، إلا أن الجدار مازال سميكاً ويتطلب إجراءات مختلفة سياسياً ودبلوماسياً، حتى تُمكّن الفلسطينيين من اختراق هذا الجدار السميك.
يُعدُّ كتاب «كيف نقاضي إسرائيل» مرجعاً مهماً ليس فقط لرجال القانون، إنما لرجال السياسة والإعلام أيضاً، فضلاً عن طلاب العلوم السياسية والإنسانية، وذلك يعود للغة البسيطة التي استخدمها الباحث، بما يحافظ على جدية ورصانة اللغة القانونية من جهة والبساطة التي يفهمها غير القانونيين من جهة أخرى.
* باحث بمركز الزيتونة للدراسات والاستشارات
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك