العدد : ١٧٠٧٧ - الثلاثاء ٢٤ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٧٧ - الثلاثاء ٢٤ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

الاسلامي

تأملات في المعاني الإيمانية للحج.. الركن الأعظم في الإسلام

الجمعة ١٤ يونيو ٢٠٢٤ - 02:00

إن‭ ‬حج‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬كتبه‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬استطاع‭ ‬السبيل‭ ‬إليه،‭ ‬قد‭ ‬حوى‭ ‬من‭ ‬وجوه‭ ‬المصلحة‭ ‬وصنوف‭ ‬الحكمة‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬بيانه‭ ‬ليكبر‭ ‬أن‭ ‬يستقل‭ ‬به‭ ‬أي‭ ‬بيان‭. ‬أجل‭! ‬فإن‭ ‬فيه‭ ‬حكمًا‭ ‬روحية‭ ‬شتى،‭ ‬وحكمًا‭ ‬معاشية‭ ‬أخرى،‭ ‬فهي‭ ‬فريضة‭ ‬واحدة،‭ ‬ولكن‭ ‬يتخرج‭ ‬بها‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الفضائل،‭ ‬ويقضي‭ ‬بها‭ ‬ضروبًا‭ ‬من‭ ‬الحاجات‭. ‬فماهي‭ ‬المعاني‭ ‬العظيمة‭ ‬للحج؟

تبارك‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭! ‬شرع‭ ‬لنا‭ ‬الدين‭ ‬فرائض‭ ‬وسننًا،‭ ‬وأحَنّ‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬فرض‭ ‬وما‭ ‬سنَّ‭ ‬حكمة‭ ‬بالغة،‭ ‬وصلاحًا‭ ‬وجدوى،‭ ‬فهي‭ ‬بجملتها‭ ‬مدارج‭ ‬إسعاد،‭ ‬وموارد‭ ‬نعمى،‭ ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬توضح‭ ‬لنا‭ ‬وجه‭ ‬الحكمة‭ ‬فيه،‭ ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬استتر‭ ‬عنا‭ ‬كنهه،‭ ‬فاستدللنا‭ ‬بما‭ ‬بان‭ ‬لنا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يبن،‭ ‬وآمنا‭ ‬بما‭ ‬قصرت‭ ‬عن‭ ‬دركه‭ ‬عقولنا‭ ‬لما‭ ‬أدركناه‭ ‬وعقلناه،‭ ‬إذ‭ ‬قد‭ ‬أتم‭ ‬الله‭ ‬علينا‭ ‬نعمة‭ ‬اليقين،‭ ‬بأن‭ ‬هذا‭ ‬الدين‭ ‬القيم‭ ‬هدى‭ ‬للناس‭ ‬ورحمة،‭ ‬وأشرب‭ ‬في‭ ‬قلوبنا‭ ‬الإيمان‭ ‬بأنه‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬مفروض‭ ‬أو‭ ‬مسنون‭ ‬إلا‭ ‬كان‭ ‬الخير‭ ‬ملء‭ ‬وطابه‭.‬

وأول‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬من‭ ‬المعاني‭ ‬العظيمة‭ ‬للحج‭ ‬أنه‭ ‬سبيل‭ ‬إلى‭ ‬رابطة‭ ‬إنسانية‭ ‬عامة‭ ‬لا‭ ‬انفصام‭ ‬لها،‭ ‬ووسيلة‭ ‬يتعارف‭ ‬بها‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬مشارق‭ ‬الأرض‭ ‬ومغاربها‭: ‬ففي‭ ‬يوم‭ ‬الجمع‭ ‬الحاشد،‭ ‬بل‭ ‬يوم‭ ‬البعث‭ ‬الأصغر،‭ ‬يلتقي‭ ‬الناس‭ ‬أجناسًا‭ ‬مختلفة،‭ ‬وأممًا‭ ‬متباينة،‭ ‬وقبائل‭ ‬متباعدة،‭ ‬فإذا‭ ‬هم‭ ‬قلوب‭ ‬متعارفة،‭ ‬وآمال‭ ‬متواصلة؛‭ ‬وألسنة‭ ‬متفاهمة،‭ ‬بل‭ ‬إذا‭ ‬هم‭ ‬قلب‭ ‬واحد‭ ‬نابض‭ ‬بتوحيد‭ ‬الله،‭ ‬وأمنية‭ ‬واحدة‭ ‬متجهة‭ ‬إلى‭ ‬الله،‭ ‬ولسان‭ ‬واحد‭ ‬يهتف‭: ‬لبيك‭ ‬اللهم‭ ‬لبيك‭!‬

وإن‭ ‬علماء‭ ‬الأخلاق‭ ‬ليفقدون‭ ‬مظهرًا‭ ‬تتمثل‭ ‬لهم‭ ‬فيه‭ ‬مطالبهم‭ ‬الحكيمة،‭ ‬ومثلهم‭ ‬العليا‭ ‬للإنسانية‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬الرهيبة‭ ‬التي‭ ‬يجتمع‭ ‬فيها‭ ‬المسلمون‭ ‬على‭ ‬متن‭ ‬الصحراء‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬الله،‭ ‬إذ‭ ‬تتجرد‭ ‬الصدور‭ ‬مما‭ ‬ملكها‭ ‬من‭ ‬غل‭ ‬وما‭ ‬ملأها‭ ‬من‭ ‬إحن،‭ ‬وتخلص‭ ‬القلوب‭ ‬مما‭ ‬ران‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬الأهواء‭ ‬والشهوات،‭ ‬فلا‭ ‬تبق‭ ‬إلا‭ ‬روح‭ ‬نقية‭ ‬لا‭ ‬تشعر‭ ‬بغير‭ ‬المعاني‭ ‬السامية،‭ ‬وعين‭ ‬صافية‭ ‬تتجلى‭ ‬لها‭ ‬حقائق‭ ‬الحياة،‭ ‬لا‭ ‬زيف‭ ‬فيها‭ ‬ولا‭ ‬بهرج،‭ ‬وأذن‭ ‬واعية‭ ‬يحتجب‭ ‬عنها‭ ‬ما‭ ‬يملأ‭ ‬جوانب‭ ‬الدنيا‭ ‬من‭ ‬ضجيج‭ ‬وعجيج،‭ ‬وما‭ ‬يزحمها‭ ‬من‭ ‬مشاغل‭ ‬ومشاكل‭! ‬ألا‭ ‬وإن‭ ‬من‭ ‬النفوس‭ ‬نفوسًا‭ ‬أمّارة‭ ‬بالسوء‭ ‬نزاعة‭ ‬إلى‭ ‬البغي،‭ ‬أخذتها‭ ‬العزة‭ ‬بالإثم،‭ ‬وغلت‭ ‬أحناؤها‭ ‬بجراثيم‭ ‬الأثرة‭ ‬والاستطالة‭ ‬والتعالي‭.‬

فأبى‭ ‬لها‭ ‬الجبروت‭ ‬إلا‭ ‬احتجازًا‭ ‬وأنفة،‭ ‬وليس‭ ‬كالحج‭ ‬طهور‭ ‬لتلك‭ ‬النفوس‭ ‬الموبوءة،‭ ‬فالناس‭ ‬في‭ ‬مشاهد‭ ‬الحج‭ ‬صفوف‭ ‬متشابكة،‭ ‬ولا‭ ‬فضل‭ ‬لثري‭ ‬ذي‭ ‬حسب‭ ‬على‭ ‬مهمل‭ ‬ذي‭ ‬ضعة،‭ ‬فلقد‭ ‬لفّهم‭ ‬جميعًا‭ ‬زي‭ ‬بسيط‭ ‬يتراءى‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬يتخطر‭ ‬في‭ ‬الديباج‭ ‬ومن‭ ‬يتعثر‭ ‬في‭ ‬المِزَق‭ ‬ويشتبه‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬يجد‭ ‬الألوان‭ ‬بمن‭ ‬يفقد‭ ‬الكفاف،‭ ‬فهم‭ ‬في‭ ‬مشاهد‭ ‬الحج‭ ‬إخوة‭ ‬متقاربون،‭ ‬ورفقة‭ ‬متماثلون‭ ‬وهم‭ ‬جميعًا‭ ‬متطامنون‭ ‬متعاطفون؛‭ ‬طارت‭ ‬عنهم‭ ‬كبرياء‭ ‬الألقاب،‭ ‬وعزة‭ ‬الأنساب،‭ ‬ومخيلة‭ ‬الأثواب‭!‬

ومن‭ ‬المعاني‭ ‬العظيمة‭ ‬للحج‭ ‬أنه‭ ‬مجلًى‭ ‬رائع‭ ‬تتجلى‭ ‬فيه‭ ‬عزة‭ ‬الحنيفية‭ ‬السمحة‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬المعمورة،‭ ‬وآيات‭ ‬مفصلات‭ ‬تصف‭ ‬نفوذ‭ ‬دعوة‭ ‬محمد‭ -‬صلوات‭ ‬الله‭ ‬وسلامه‭ ‬عليه‭- ‬في‭ ‬شعاب‭ ‬الأرض،‭ ‬فهذه‭ ‬الرحاب‭ ‬الفساح‭ ‬المقدسات‭ ‬تموج‭ ‬بالجمهرة‭ ‬الكبرى‭ ‬من‭ ‬خلق‭ ‬الله،‭ ‬بينهم‭ ‬الهندي‭ ‬والصيني،‭ ‬والعراقي‭ ‬واليمني،‭ ‬والشامي،‭ ‬والمغربي،‭ ‬وبينهم‭ ‬مما‭ ‬وراء‭ ‬البحار‭ ‬طوائف‭ ‬تناهى‭ ‬إليها‭ ‬داعي‭ ‬الله،‭ ‬فأجابت‭ ‬الله‭!‬

والحق‭- ‬أن‭ ‬الحج‭ ‬مؤتمر‭ ‬شامل،‭ ‬هو‭ ‬أروع‭ ‬ما‭ ‬نظمته‭ ‬الحضارة‭ ‬من‭ ‬أشتات‭ ‬المؤتمرات‭ ‬حتى‭ ‬اليوم،‭ ‬فهذا‭ ‬مؤتمر‭ ‬يتباعث‭ ‬الناس‭ ‬فيه‭ ‬استجابة‭ ‬لوحي‭ ‬العقيدة‭ ‬النازلة‭ ‬منهم‭ ‬منزل‭ ‬الشغاف،‭ ‬السارية‭ ‬فيهم‭ ‬مسرى‭ ‬الدماء،‭ ‬لا‭ ‬يبتغون‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬ذلك‭ ‬فضل‭ ‬مال،‭ ‬أو‭ ‬وجاهة‭ ‬منصب،‭ ‬أو‭ ‬بعد‭ ‬صيت‭ ‬وسمعة،‭ ‬فما‭ ‬أنبل‭ ‬وما‭ ‬أشرف،‭ ‬وما‭ ‬أجل‭ ‬وما‭ ‬أعظم‭!‬

والحج‭ ‬فوق‭ ‬ذلك‭ ‬‭ ‬معرض‭ ‬أي‭ ‬معرض‭ ‬لحضارة‭ ‬الدنيا،‭ ‬وشئون‭ ‬الخلق،‭ ‬ففي‭ ‬هذا‭ ‬المؤتمر‭ ‬الحافل‭ ‬تتزاحم‭ ‬أمم‭ ‬مختلفة،‭ ‬وأناس‭ ‬أشتات‭ ‬،‭ ‬بينهم‭ ‬العلماء‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬علم،‭ ‬والأطباء‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬جانب،‭ ‬والصناع‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬صنعة؛‭ ‬والتجار‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬سلعة؛‭ ‬ورجال‭ ‬الفن‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬فن،‭ ‬وكل‭ ‬أولئك‭ ‬يحملون‭ ‬إلى‭ ‬الحجيج‭ ‬تجاربهم‭ ‬المبتدعة‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬والفنون،‭ ‬وأجلابهم‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬التجارب‭ ‬والصناعات،‭ ‬فيتدارسون‭ ‬جميعًا‭ ‬ما‭ ‬درسوا‭ ‬جميعًا؛‭ ‬ويطلع‭ ‬بعضهم‭ ‬بعضًا‭ ‬على‭ ‬شؤون‭ ‬حضارتهم،‭ ‬ووسائل‭ ‬رقيهم،‭ ‬وأساليبهم‭ ‬الحسنى‭ ‬في‭ ‬الأحوال‭ ‬والعادات‭ ‬والأخلاق‭ ‬فترجع‭ ‬طوائف‭ ‬الحجيج‭ ‬إلي‭ ‬أممهم‭ ‬بجر‭ ‬الحقائب‭ ‬مما‭ ‬وقعت‭ ‬عليه‭ ‬الأعين،‭ ‬حاملة‭ ‬إليهم‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬العيش‭ ‬ما‭ ‬ينفع‭ ‬الناس،‭ ‬ناقلة‭ ‬إليهم‭ ‬من‭ ‬الأخبار‭ ‬والسير‭ ‬ما‭ ‬تجمل‭ ‬به‭ ‬القدوة،‭ ‬وتحسن‭ ‬فيه‭ ‬الأسوة،‭ ‬وبذلك‭ ‬يتدانى‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬التدابير‭ ‬والتنافر‭ ‬والاختلاف،‭ ‬فتأخذ‭ ‬الألفة‭ ‬سبيلها‭ ‬إلى‭ ‬الأمم،‭ ‬ويقرب‭ ‬التشابه‭ ‬بين‭ ‬الخلق‭ ‬فتتجمع‭ ‬الجهة‭ ‬الإنسانية‭ ‬المتحدة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬أنبل‭ ‬أحلام‭ ‬الفلاسفة،‭ ‬وأعلى‭ ‬درجة‭ ‬في‭ ‬مراقي‭ ‬الإصلاح‭.‬

ومعاني‭ ‬الحج‭ ‬آهلة‭ ‬بذكريات‭ ‬قدسية‭ ‬تطيب‭ ‬بها‭ ‬نفس‭ ‬الحج‭ ‬المسلم،‭ ‬وتروي‭ ‬قلبه‭ ‬من‭ ‬كوثر‭ ‬الإيمان،‭ ‬وناهيك‭ ‬ببلاد‭ ‬هي‭ ‬منبعث‭ ‬عقيدته‭ ‬الشاملة‭ ‬التي‭ ‬تتأصل‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬لتصرفها‭ ‬حيث‭ ‬تهوى،‭ ‬فالرغبة‭ ‬حيث‭ ‬تأمر،‭ ‬والرهبة‭ ‬حيث‭ ‬تنهى،‭ ‬فليس‭ ‬بدعًا‭ ‬أن‭ ‬تنحني‭ ‬الأضالع‭ ‬لتلك‭ ‬البلاد‭ ‬على‭ ‬حب،‭ ‬وتنطوي‭ ‬على‭ ‬تجلة‭.‬

أجل‭ ‬‭ ‬فتلك‭ ‬بقاع‭ ‬مطهرة،‭ ‬هي‭ ‬معاهد‭ ‬صبا‭ ‬الإسلام،‭ ‬ومناجم‭ ‬جوهره،‭ ‬وفي‭ ‬أرجائها‭ ‬بثت‭ ‬الدعوة‭ ‬المحمدية‭ ‬واهتزت‭ ‬وربت،‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬أجواؤها‭ ‬تحفظ‭ ‬صوت‭ ‬محمد‭ ‬‭ ‬صلوات‭ ‬الله‭ ‬وسلامه‭ ‬عليه‭ ‬‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭: ‬ربي‭ ‬الله‭! ‬فما‭ ‬أجدر‭ ‬أن‭ ‬يتمثل‭ ‬للحاج‭ ‬المسلم‭ ‬حين‭ ‬يطوف‭ ‬بالبيت‭ ‬العتيق‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬أثره‭ ‬التاريخ‭ ‬في‭ ‬انبعاث‭ ‬الإسلام‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬التربة‭ ‬وبزوغ‭ ‬شمسه‭ ‬في‭ ‬فلك‭ ‬هذه‭ ‬الجزيرة،‭ ‬ثم‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬وراء‭ ‬ذلك‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬جهاد‭ ‬وجلاد،‭ ‬وغزو‭ ‬وفتح،‭ ‬وإن‭ ‬في‭ ‬تمثل‭ ‬تلك‭ ‬الذكريات‭ ‬له‭ ‬لما‭ ‬يملأ‭ ‬بالعبرة‭ ‬خاطره‭ ‬ويشغل‭ ‬بالتدبر‭ ‬فكره،‭ ‬ويشب‭ ‬فيه‭ ‬عاطفة‭ ‬الهداية‭ ‬والتقاة،‭ ‬ولو‭ ‬مضينا‭ ‬نتقصى‭ ‬معاني‭ ‬الحج،‭ ‬ونفصل‭ ‬أسراره‭ ‬‭ ‬لما‭ ‬وسعنا‭ ‬الوقت،‭ ‬بل‭ ‬لانفسح‭ ‬مجال‭ ‬القول،‭ ‬وتشعبت‭ ‬مذاهب‭ ‬الكلام،‭ ‬وانقطع‭ ‬بنا‭ ‬الجهد‭ ‬دون‭ ‬الغاية‭.‬

على‭ ‬أننا‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬أحوج‭ ‬منا‭ ‬إلى‭ ‬القول،‭ ‬وما‭ ‬منا‭ ‬إلا‭ ‬مؤمن‭ ‬بالحج‭ ‬وأثره،‭ ‬فالله‭ ‬المسئول‭ ‬أن‭ ‬يوفقنا‭ ‬جميعًا‭ ‬إلى‭ ‬النهوض‭ ‬بهذه‭ ‬الشعيرة‭ ‬السامية،‭ ‬إنه‭ ‬أكرم‭ ‬مسئول‭.‬

و‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬يرى‭ ‬الداعية‭ ‬الإسلامي‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬أحمد‭ ‬المسير أن‭ ‬الإيمان‭ ‬والإسلام‭ ‬يبدآن‭ ‬بكلمة‭ ‬التوحيد‭ ‬الخالص‭: ‬لا‭ ‬إله‭ ‬إلا‭ ‬الله،‭ ‬تلك‭ ‬الكلمة‭ ‬الراقية‭ ‬التي‭ ‬جاهد‭ ‬في‭ ‬سبيلها‭ ‬الأنبياء‭ ‬جميعًا،‭ ‬فقد‭ ‬قالوا‭ ‬لأقوامهم‭: ‬‮«‬اعبدوا‭ ‬الله‭ ‬ما‭ ‬لكم‭ ‬من‭ ‬إله‭ ‬غيره‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬تتوالى‭ ‬أركان‭ ‬الإسلام،‭ ‬وهي‭: ‬الصلاة،‭ ‬والصيام،‭ ‬والزكاة،‭ ‬ثم‭ ‬يأتي‭ ‬الحج‭ ‬قمة‭ ‬الإيمان‭ ‬ليمثل‭ ‬هذا‭ ‬الإيمان‭ ‬والإسلام‭ ‬تشريعيًا‭ ‬وواقعيًا،‭ ‬فهو‭ ‬فريضة‭ ‬العمر‭ ‬لمن‭ ‬استطاع‭ ‬إليه‭ ‬سبيلاً،‭ ‬وهو‭ ‬يأتي‭ ‬بعد‭ ‬الأركان‭ ‬الأربعة،‭ ‬فالصلاة‭ ‬في‭ ‬بدء‭ ‬الإسلام‭ ‬فرضت‭ ‬صلاتين‭: ‬واحدة‭ ‬بالغداة‭ ‬وأخرى‭ ‬بالعشي،‭ ‬ثم‭ ‬فرضت‭ ‬خمسًا‭ ‬في‭ ‬الفعل‭ ‬وخمسين‭ ‬في‭ ‬الثواب‭ ‬ليلة‭ ‬الإسراء‭ ‬والمعراج‭ ‬قبيل‭ ‬الهجرة‭.‬

وعندما‭ ‬يستقيم‭ ‬المسلم‭ ‬على‭ ‬صلاته‭ ‬اليومية‭ ‬يأتي‭ ‬الصيام‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬ليهذب‭ ‬النفس‭ ‬ويزرع‭ ‬فيها‭ ‬وازع‭ ‬المراقبة‭ ‬والخوف‭ ‬والإخلاص‭ ‬والتجرد‭ ‬لله‭ ‬تعالى،‭ ‬وقد‭ ‬فرض‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬الهجرة‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬المسلم‭ ‬يملك‭ ‬نصابًا‭ ‬فإنه‭ ‬يخرج‭ ‬الزكاة‭ ‬كلما‭ ‬حال‭ ‬على‭ ‬ماله‭ ‬الحول‭.. ‬وقد‭ ‬فرضت‭ ‬الزكاة‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬الثاني‭ ‬أيضًا‭ ‬بعد‭ ‬الصيام‭.. ‬وهكذا‭ ‬تتكامل‭ ‬أركان‭ ‬الإسلام‭ ‬ليصل‭ ‬المسلم‭ ‬إلى‭ ‬قمتها‭ ‬بأداء‭ ‬فريضة‭ ‬الحج‭ ‬الركن‭ ‬الأعظم‭ ‬وقمة‭ ‬الإيمان‭ ‬التي‭ ‬فرضت‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬السادس‭ ‬على‭ ‬الأرجح‭.. ‬ومن‭ ‬هنا،‭ ‬فإن‭ ‬المسلم‭ ‬الحاج‭ ‬يُفترض‭ ‬فيه‭ ‬أنه‭ ‬التزم‭ ‬بأركان‭ ‬الإسلام‭ ‬جميعها‭ ‬وأدى‭ ‬واجبات‭ ‬الدين‭ ‬كلها،‭ ‬وعاد‭ ‬من‭ ‬حجه‭ ‬ليواصل‭ ‬مسيرة‭ ‬النقاء‭ ‬والطهر‭ ‬والصفاء‭.‬

وقد‭ ‬قال‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬ـ‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭: ‬‮«‬العمرة‭ ‬إلى‭ ‬العمرة‭ ‬كفارة‭ ‬لما‭ ‬بينهما‭.. ‬والحج‭ ‬المبرور‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬جزاء‭ ‬إلا‭ ‬الجنة‮»‬‭ ‬وقال‭ ‬ـ‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭: ‬‮«‬مَن‭ ‬حج‭ ‬فلم‭ ‬يرفث‭ ‬ولم‭ ‬يفسق‭ ‬رجع‭ ‬من‭ ‬ذنوبه‭ ‬كيوم‭ ‬ولدته‭ ‬أمه‮»‬‭.‬

ولحكمة‭ ‬ما‭ ‬فإن‭ ‬مناسك‭ ‬الحج‭ ‬وشعائره‭ ‬تتضمن‭ ‬مناسك‭ ‬الصلاة‭ ‬والصيام‭ ‬والصدقة،‭ ‬فمن‭ ‬المشروع‭ ‬أداء‭ ‬ركعتي‭ ‬الطواف‭ ‬خلف‭ ‬مقام‭ ‬إبراهيم؛‭ ‬استجابة‭ ‬لقوله‭ ‬تعالى‭: ‬‮«‬واتخذوا‭ ‬من‭ ‬مقام‭ ‬إبراهيم‭ ‬مُصلّى‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬كفارات‭ ‬الحج‭ ‬الصيام‭ ‬والهدي،‭ ‬فقد‭ ‬قال‭ ‬الله‭ ‬جل‭ ‬وعلا‭: ‬‮«‬فمن‭ ‬كان‭ ‬منكم‭ ‬مريضًا‭ ‬أو‭ ‬به‭ ‬أذى‭ ‬من‭ ‬رأسه‭ ‬ففدية‭ ‬من‭ ‬صيام‭ ‬أو‭ ‬صدقة‭ ‬أو‭ ‬نسك‮»‬‭.‬

وعلى‭ ‬هذا،‭ ‬فإن‭ ‬الحج‭ ‬عبادة‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬ألوان‭ ‬العبادة‭ ‬جمعيها،‭ ‬والتي‭ ‬تشغل‭ ‬القلب‭ ‬والقالب‭ ‬وتتمكن‭ ‬من‭ ‬الظاهر‭ ‬والباطن‭.. ‬ولعل‭ ‬التعبير‭ ‬الصحيح‭ ‬لهذا‭ ‬الخضوع‭ ‬ذلك‭ ‬النداء‭ ‬الضارع‭ ‬الذي‭ ‬يردده‭ ‬الحاج‭ ‬في‭ ‬حركاته‭ ‬وسكناته،‭ ‬وحله‭ ‬وترحاله‭ ‬‮«‬لبيك‭ ‬اللهم‭ ‬لبيك‭.. ‬لبيك‭ ‬لا‭ ‬شريك‭ ‬لك‭ ‬لبيك‭.. ‬إن‭ ‬الحمد‭ ‬والنعمة‭ ‬لك‭ ‬والملك،‭ ‬لا‭ ‬شريك‭ ‬لك‮»‬‭.‬

إن‭ ‬الذين‭ ‬يريدون‭ ‬الحج‭ ‬مظاهر،‭ ‬ويتخذون‭ ‬هذه‭ ‬الفريضة‭ ‬تجارة،‭ ‬ويذهبون‭ ‬إليها‭ ‬سياحة،‭ ‬يفقدون‭ ‬أغلى‭ ‬ما‭ ‬يحرص‭ ‬عليه‭ ‬العاقل،‭ ‬ويضيّعون‭ ‬أثمن‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬وأعمق‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الوجود‭.‬

ولعل‭ ‬من‭ ‬علامات‭ ‬قبول‭ ‬الحج‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬الحاج‭ ‬وقد‭ ‬ازداد‭ ‬زهدًا‭ ‬في‭ ‬الدنيا،‭ ‬وإقبالاً‭ ‬على‭ ‬الآخرة،‭ ‬ويعود‭ ‬أرقّ‭ ‬فؤادًا‭ ‬وأزكى‭ ‬نفسًا،‭ ‬وأخشى‭ ‬قلبًا،‭ ‬يعود‭ ‬وقد‭ ‬أدرك‭ ‬أنه‭ ‬هاجر‭ ‬بحجة‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬تبارك‭ ‬وتعالى،‭ ‬وضحّى‭ ‬بجهده‭ ‬ووقته‭ ‬وماله،‭ ‬وترك‭ ‬أهله‭ ‬وأولاده،‭ ‬فلا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يضيع‭ ‬ثمرة‭ ‬ذلك،‭ ‬بل‭ ‬حَرِيٌ‭ ‬به‭ ‬أن‭ ‬يحرص‭ ‬على‭ ‬ثمرات‭ ‬هذا‭ ‬الحج‭ ‬العظيم،‭ ‬‮«‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬فليتنافس‭ ‬المتنافسون‮»‬‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا