العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

الثقافي

الكتابة أو الموت سفرٌ في دهاليز الكيمياء

السبت ١٥ يونيو ٢٠٢٤ - 02:00

كنا‭ ‬على‭ ‬موعد‭ ‬قبل‭ ‬أيام‭ ‬مع‭ ‬حدثٍ‭ ‬استثنائي‭ ‬لم‭ ‬يفوّت‭ ‬في‭ ‬أسرة‭ ‬الأدباء‭ ‬والكتاب‭ ‬على‭ ‬موعد‭ ‬مع‭ ‬شيخ‭ ‬السرد‭ ‬وأهم‭ ‬رواده‭ ‬الكاتب‭ ‬محمد‭ ‬عبدالملك‭ ‬الذي‭ ‬عاد‭ ‬إلينا‭ ‬قادما‭ ‬من‭ ‬غابات‭ ‬العزلة‭ ‬بثمار‭ ‬كثيرة‭ ‬ولذيذة‭ ‬حاملا‭ ‬إلينا‭ ‬سلة‭ ‬مليئة‭ ‬بما‭ ‬لذ‭ ‬وطاب‭ ‬من‭ ‬العذوبة‭ ‬والعذاب،‭ ‬تماما‭ ‬كسلّة‭ ‬الأب‭ ‬الحطاب‭ ‬أو‭ ‬العامل‭ ‬في‭ ‬الجبل‭ ‬حين‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬أبنائه‭ ‬في‭ ‬المساء‭ ‬فيركضون‭ ‬إلى‭ ‬أحضانه‭ ‬ويتقاسمون‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬سلته‭ ‬من‭ ‬الهدايا‭. ‬

محمد‭ ‬عبد‭ ‬الملك‭ ‬الذي‭ ‬على‭ ‬قصصه‭ ‬القصيرة‭ ‬المبكرة‭ ‬نشأ‭ ‬جيلنا‭ ‬يأتينا‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬بما‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬المخرجون‭ ‬عادة‭ ‬في‭ ‬الحلقة‭ ‬بعد‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬الدراما‭ ‬المسلسلة‭ ‬وهو‭ (‬شيء‭ ‬ما‭ ‬شفتوه‭) ‬ليرونا‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬هذه‭ ‬السردية‭ ‬الدرامية‭ ‬التي‭ ‬معها‭ ‬قضينا‭ ‬ثلاثين‭ ‬حلقة،‭ ‬ليقولوا‭ ‬لنا‭: ‬نعم‭ ‬هو‭ ‬فن‭ ‬وهو‭ ‬الهام‭ ‬لكنه‭ ‬هكذا‭ ‬صُنِع‭. ‬كنا‭ ‬طوال‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬مع‭ ‬أعمال‭ ‬محمد‭ ‬عبدالملك‭ ‬نقرأ‭ (‬النص‭) ‬أما‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬فسنقرأ‭ (‬الكتابة‭). ‬كنا‭ ‬نتعامل‭ ‬مع‭ ‬الأثر‭ ‬أما‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬مع‭ ‬رواية‭ (‬متاهة‭ ‬الكيمياء‭) ‬فسنصل‭ ‬إلى‭ ‬المؤثر‭ ‬إلى‭ ‬المصنع‭ ‬الذي‭ ‬فيه‭ ‬تتم‭ ‬سباكة‭ ‬المعنى‭. ‬

يعرف‭ ‬الذين‭ ‬اعتادوا‭ ‬السباحة‭ ‬في‭ ‬العين‭ ‬منطقة‭ ‬خطرة‭ ‬هي‭ ‬قرار‭ ‬العين‭ ‬ومنبعها‭ ‬ويحاولون‭ ‬تجنبها‭ ‬لخطورة‭ ‬دوران‭ ‬تيار‭ ‬الماء‭ ‬فيها‭ ‬بينما‭ ‬سيقوم‭ ‬محمد‭ ‬عبد‭ ‬الملك‭ ‬بقذفنا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬بالذات‭ ‬لنتعرف‭ ‬على‭ ‬لذة‭ ‬اكتشاف‭ ‬الخطر‭. ‬

المؤلف‭ ‬إذن‭ ‬لم‭ ‬يمُت‭ ‬كما‭ ‬اختار‭ (‬رولان‭ ‬بارت‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬حي‭ ‬في‭ ‬جنة‭ ‬الحياة‭ ‬وجحيمها‭ ‬وفي‭ ‬البنية‭ ‬العميقة‭ ‬للنص‭ ‬هناك‭ ‬ستجد‭ ‬المؤلف‭ ‬رابضا‭ ‬كأسد‭ ‬يطل‭ ‬من‭ ‬لبدته‭ ‬الكثيفة‭ ‬على‭ ‬رعاياه‭ ‬وهم‭ ‬يلهون‭ ‬في‭ ‬مملكته‭ ‬ويعطيهم‭ ‬إمارات‭ ‬الطريق‭ ‬للوصول‭ ‬إليه،‭ ‬فإذا‭ ‬ما‭ ‬اقتربت‭ ‬أولى‭ ‬طلائع‭ ‬الوافدين‭ ‬إلى‭ ‬موقعه،‭ ‬قال‭ ‬لهم‭ ‬أهلا‭ ‬بكم،‭ ‬هنا،‭ ‬حيث‭ ‬البديل‭ ‬للكتابة‭ ‬هو‭ ‬الفناء‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬بينهما‭. ‬لا‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الكتابة‭ ‬هنا‭ ‬هي‭ ‬الشرط‭ ‬الأساسي‭ ‬للحياة‭.‬

يمرّ‭ ‬الكتاب‭ ‬والمبدعون‭ ‬عموما‭ ‬بفترات‭ ‬صمت‭ ‬تفرضها‭ ‬زيادة‭ ‬المعرفة‭ ‬حيث‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬النفري‭: ‬كلما‭ ‬اتسعت‭ ‬الرؤية‭ ‬ضاقت‭ ‬العبارة‭. ‬إنها‭ ‬لحظات‭ ‬تشبه‭ ‬ما‭ ‬قرأناه‭ ‬في‭ ‬سير‭ ‬بعض‭ ‬القديسين‭ ‬عن‭ ‬انقطاع‭ ‬الوحي‭ ‬الإلهي‭ ‬برهة‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬حتى‭ ‬ليشعر‭ ‬القديس‭ ‬أن‭ ‬السماء‭ ‬غاضبة‭ ‬عليه،‭ ‬ثم‭ ‬ينهمر‭ ‬الوحي‭ ‬متدفقا‭ ‬كنهر‭ ‬لا‭ ‬يكف‭ ‬عن‭ ‬الجريان‭. ‬

رأينا‭ ‬هذا‭ ‬الاحتباس‭ ‬مع‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬شعراء‭ ‬فرنسا‭ ‬هو‭ ‬بول‭ ‬فاليري‭ ‬حيث‭ ‬جاءت‭ ‬أعجوبته‭ (‬المقبرة‭ ‬البحرية‭) ‬بعد‭ ‬صمت‭ ‬عن‭ ‬الشعر‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬بلغ‭ ‬الخمسين‭ ‬من‭ ‬العمر،‭ ‬وهو‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬شهرة‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬العظيمة‭ ‬لا‭ ‬يعتبرها‭ ‬إلا‭ ‬مسودة‭ ‬غير‭ ‬مكتملة‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬اكتشفها‭ ‬ونشرها‭ ‬صديقه‭ ‬الكاتب‭ ‬والشاعر‭ ‬جاك‭ ‬ريفير‭ ‬اقتنع‭ ‬بول‭ ‬فاليري‭ ‬بها‭ ‬وضمها‭ ‬إلى‭ ‬ديوانه‭ ‬دون‭ ‬أدنى‭ ‬تعديل‭. ‬

ثم‭ ‬هذا‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬بعد‭ ‬صمت‭ ‬دام‭ ‬بين‭ ‬1952‭ ‬و1959‭ ‬جاءت‭ ‬رواية‭ (‬أولاد‭ ‬حارتنا‭) ‬ذات‭ ‬المعمار‭ ‬الملحمي،‭ ‬والتي‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬سنعرف‭ ‬لها‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المكانة‭ ‬بين‭ ‬أعمال‭ ‬محفوظ‭ ‬لولا‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭. ‬

عن‭ ‬هذه‭ ‬المراوحة‭ ‬بين‭ ‬الاحتباس‭ ‬والتدفق‭ ‬وبين‭ ‬صمت‭ ‬الوحي‭ ‬الجوّاني‭ ‬وانبعاثه‭ ‬تحدثنا‭ ‬رواية‭ ‬محمد‭ ‬عبدالملك‭ ‬الجديدة‭ (‬متاهة‭ ‬الكيمياء‭) ‬حديث‭ ‬الكاتب‭ ‬لقرائه‭ ‬عن‭ ‬صناعة‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬بوح‭ ‬شائق‭ ‬ثرّ‭ ‬لا‭ ‬تنفد‭ ‬لذته‭ ‬ويطل‭ ‬من‭ ‬ثناياه‭ ‬هذا‭ ‬الكاتب‭ ‬الذي‭ ‬عشقناه‭ ‬ووقعنا‭ ‬في‭ ‬شراكه‭ ‬الآسرة‭ ‬ولا‭ ‬خلاص‭ ‬لنا‭. ‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا