القراء الأعزاء،
منذ بدأت المدنية والحضارة ونشأت المجتمعات المتحضرة علم الإنسان بأنه لا بد من وجود سلطة تضطلع بحماية مصالحه والحفاظ على التوازن الاجتماعي، لذا برزت فكرة العقد الاجتماعي -التي قال بها مفكرون كثر ولكنها ارتبطت بالفرنسي جان جاك روسو ربما بسبب كتابه المهم جدا (العقد الاجتماعي)- والتي أسست لقيام الدولة بصورتها الأولى من خلال قبول أفراد المجتمع بالخضوع للسلطة والتنازل عن بعض من حرياتهم مقابل قيام الأخيرة بحماية حقوقهم وحرياتهم الأخرى وإعادة التوازن الاجتماعي في حال اختلاله، حيث بدأ دور الدولة على صورة (الدولة الحارسة)، أي التي لا التزام عليها تجاه حقوق الانسان وحرياته سوى القيام بالحماية وكفالة الأمن، ولا تتدخل من الناحية الاقتصادية ولا سيما على الأصعدة التي تقتضي الإنفاق العام.
ثم تطور دور الدولة لتنتقل من صورة الدولة الحارسة إلى الدولة المتدخلة في بدايات القرن العشرين، والتي يتميز دورها بالتدخل في وضع الخطط الاستراتيجية وإدارة النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وتقديم الخدمات العامة المختلفة، وبرز دور المرافق العامة والخدماتية لتحقيق الرفاه لأفراد المجتمع لتقوم الدولة هنا بدور ربّ الأسرة، الأمر الذي يقتضي منها وضع موازنة عامة من قبلها لتنفيذ خططها ويضع على عاتقها عبء رعاية أفراد المجتمع.
لذا على صعيد الحق في العمل كان التوجه الأكبر في تلك المرحلة إلى شغل الوظائف العامة، فكان المألوف هو حصول الفرد على وظيفة حكومية، وكان القطاع العام هو المستوعب الأول لأكبر عدد من أفراد المجتمع، تبعاً لدور الدولة ولما تتميز به الوظيفة العامة من ثبات واستقرار وديمومة.
ولكن كما يبدو فإن المرحلة المقبلة بكل معطياتها ومتغيراتها وتحدياتها العالمية قد تقتضي تغيّر دور الدولة ربما لتصبح فيما بين الاثنين حارسة ومتدخلة معاً، ولنسمّها اجتهاداً (الدولة المتدارسة)، نظراً إلى التوجه إلى إشراك القطاع الخاص في إدارة النظام الاقتصادي والسياسي إلى حد ما وتقديم الكثير من الخدمات العامة، الأمر الذي سيترتب عليه ارتفاع نسبة الوظائف الخاصة في مواجهة انخفاض أعداد الوظائف الحكومية.
وما يهمني من المقدمة السابقة هو الأثر الذي سيترتب على هذه المرحلة الانتقالية على صعيد الأمن الوظيفي لأفراد المجتمع بدءًا من فكرة الحصول على وظيفة مروراً بالمستوى المادي المؤمل منها وانتهاء بالاستقرار الوظيفي، ولعل الأمر الذي أضاء هذه الفكرة هو متابعتي لحفلات التخرّج العديدة التي شهدتها هذه المرحلة لأعداد كبيرة من خريجي التخصصات الجامعية، وما قد يواجهه كثير من الراغبين في الحصول على عمل من إشكالية إيجاد وظيفة في هذه المرحلة الحرجة التي يعاني فيها الكثير من الخريجين الذين سبقوهم من صعوبة الحصول على عمل.
ولقد نادت الكثير من الأقلام والأصوات -وأكررها اليوم- بضرورة اجراء دراسة تتعلق بربط احتياجات سوق العمل بمخرجات التعليم لضمان زيادة فرص إيجاد الوظائف لحديثي التخرج، واضعة في اعتبارها أهمية الوظائف العصرية التي استجدّت جراء التطور التكنولوجي والذكاء الاصطناعي ودور الشبكة العنكبوتية والبرامج الالكترونية في استحداث وسائل كسب جديدة وتأثيرها على الوظائف التقليدية، لذا يجب أن تواكب المناهج التعليمية هذا التطور لتحقق التوازن بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل الحديثة.
هذا من جانب، أما الجانب الآخر فهو يتعلق بجودة وظائف القطاع الخاص ذاتها، من ناحية الأمن الوظيفي والاستقرار وعدالة الأجور وكفايتها في هذا القطاع، الامر الذي يقتضي تدخلاً من الدولة لوضع أنظمة توفر الحماية للعاملين فيه، ولا سيما أن هذا القطاع هو قطاع ربحي يهدف إلى تحقيق مصلحة المالك الخاصة في مقابل كون القطاع العام قطاعا غير ربحي وهدفه تحقيق المصلحة العامة للمجتمع، وهنا يبدأ دور المشرّع.
Hanadi_aljowder@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك