توقع عديد الاقتصاديين منذ فترة طويلة نشأة عالم جديد متعدد الأقطاب النقدية، في اشارة الى نهاية تميز الدولار وزيادة التنوع في استخدام العملات العالمية. بدأ هذا الأمر بالأساس مع ظهور العملة الأوروبية المشتركة الأورو، حيث اعتقد آنذاك أن العملة النقدية الجديدة ستشكل بديلاً أو منافسا للدولار في أطار ما سمي بالعولمة النقدية.
عاد هذا الموضوع مؤخرا ولكن في سياق مختلف جذريا، على شكل صراعات جيوسياسية واقتصادية من شأنها التأثير على الاقتصاد العالمي. فعلى النقيض من أوروبا، لا تعتبر الصين شريكًا للولايات المتحدة، بل الخصم الرئيسي جيوسياسيا، متحدية الهيمنة الأمريكية على الأصعدة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية.
تزايد التأثير المالي الصيني بشكل كبير خصوصا في الدول النامية خلال السنوات الأخيرة، في الوقت الذي انخفض فيه التأثير الأمريكي عما كان عليه منذ نهاية الحرب الباردة. الصراع اذن هيكلي، ولكنه ازداد مع الحرب في أوكرانيا وفرض العقوبات الاقتصادية على روسيا، مما ذكر العالم بأن الدولار يظل العملة الأساسية ليس فقط كمخزن للقيمة، بل أيضا في تنظيم المعاملات الدولية.
على المدى القصير، لا يتوقع أن تتراجع هيمنة الدولار، باعتبار تأثيره على استقرار النظام النقدي الدولي. فالقيمة النسبية للعملات الأخرى متأخرة عن الدولار حسب مختلف المؤشرات.
أما على المدى الطويل، سيعتمد الأمر على الاختيارات الاستراتيجية للصين. تحاول الصين منذ فترة تدويل عملتها، ومحاولة تقديم بديل لنظام التمويل العالمي، الذي يتسم بسيطرة الدولار ومؤسسات بريتون وودز. يظهر ذلك على سبيل المثال من خلال انفتاح أسواقها المالية، وان كان هذا الانفتاح تدريجيا وحذرا، ومن خلال دورها النشيط في بنوك التنمية التي تسعى لمنافسة البنك العالمي، وكذلك من خلال زيادة استخدام عملتها في المعاملات التجارية.
ومع ذلك، فإن هذه الاجراءات الصينية يمكن اعتبارها محاولة لتعزيز مجال تأثير عملتها، وليست سعيا لتقليص أهمية الدولار كقيمة احتياطية. فالصين لديها احتياطات متراكمة بالدولار تمنعها من اتخاذ إجراءات تخفض من قيمته. وفي كل الأحوال، فان الصين لا تبدو مستعدة لتولي قيادة السوق العالمي الضخم لرؤوس الأموال، بل تعزيز السيطرة تدريجيا على الأسواق المالية والتحكم في الاستثمارات الأجنبية.
وإذا كان هذا هو حال الصين، فما هي حال الاقتصاديات النامية الأخرى؟ تساؤل الرئيس البرازيلي سنة 2023 لماذا لا تستخدم منظمة البريكس عملاتها الخاصة في المعاملات بدلاً من الدولار. ولكن باستثناء الصين، لا يبدو أن بقية بلدان المنظمة تمتلك حاليا القدرة على تحقيق مثل هذه التطلعات.
في مقابل ذلك، يتزايد استخدام الدولار في الدول التي تعاني تدهورا في عملتها الوطنية أو ارتفاعا في نسب التضخم كما هو الحال في الأرجنتين ولبنان على سبيل المثال. فعندما تنعدم الثقة في العملة الوطنية، يظهر الدولار كبديل أو على الأقل كمكمل للعملة الوطنية.
مسألة الثقة في العملة لا تمثل مشكلة في دول الاتحاد الأوروبي، ولكن يبدو أن اليورو يعاني من مشاكل هيكلية تمنعه من منافسة الدولار. لتحقيق ذلك، تشير عديد الدراسات الى أن على الدول الأوروبية أساسا تدعيم اندماج البنوك وأسواق رأس المال، والا فان خطر التفكك سيظهر مع كل أزمة جديدة في منطقة اليورو.
أخيرا، لا يبدو الدولار مهددا من استخدام العملات الرقمية الأساسية. هذه العملات لا يمكن أن تلعب حاليا دور بديل جدي للدولار، لا من ناحية قدرتها على الاحتفاظ بالقيمة ولا من ناحية حجم استخدامها في المعاملات الدولية. على العكس من ذلك، فإن العملات الرقمية الأساسية مرتبطة بالدولار، مما يحدث زيادة في القدرة التنافسية للدولار مقارنة ببقية العملات. أما العملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية، فإن درجة استخدامها المستقبلي في المعاملات مرتبط بالقوة الاقتصادية والمالية لهذه البلدان. تمثل الصين عنصرا مهما في هذا الإطار.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك