«الصيادون المحترفون»: ما يحدث اليوم هو نتيجة لما حذرنا منه قبل عشرين عاما!
تصوير - محمود بابا
الثروة السمكية في خطر. هي صرخة يطلقها الصيادون، ويثبتها واقع سوق السمك في البحرين. كميات متراجعة، أسعار مقلقة، قرارات متعاقبة. والنتيجة: استمرار تراجع الثروة وتزايد الأسعار بشكل مطرد.
الجهات الرسمية توجه اصابع الاتهام الى الصيادين والمخالفات والصيد الجائر. ولكن بالمقابل، دأب الصيادون على توجيه هجمات مرتدة، فمكمن الاشكالية بحسب وجهة نظرهم وتأكيداتهم على مر السنوات الماضية هو قرارات واجراءات وصفوها بغير المدروسة، ومن ذلك منح تراخيص تعادل اضعاف طاقة البحر، وقرارات الحظر، والتوسع العمراني واعمال الدفن والردم، وعدم الاختصاص في كثير من الأحيان، والاستناد الى دراسات غير وافية. ليس هذا فحسب، بل أكد الصيادون أن قرارا كالحظر اثبت انه يأتي بنتائج عكسية. ولا أدل على ذلك من وضع سمك الصافي واسعاره بعد رفع الحظر.
البداية من الربيان
«أخبار الخليج» فتحت الملف مرة أخرى ولكن بأوسع الأبواب. والتقت في ندوة متخصصة عددا من الصيادين المحترفين الذين توارثوا هذه المهنة أبا عن جد. وشاركنا في النقاش كل من: رئيس جمعية الصيادين المحترفين إبراهيم البوعينين، عبدالأمير المغني (نائب الرئيس)، أحمد علي يعقوب (الأمين المالي)، فايز العريس (الأمين المالي)، والأعضاء عبدالله اضرابوه، عبدالله العريس، جاسم الجيران، وعدد من الصيادين الذين فضلوا عدم ذكر أسمائهم.
سؤالنا المباشر لضيوفنا كان: ماهي حكاية الأسماك؟ لماذا يزداد الوضع سوءا وتزداد الأسعار ارتفاعا.. ويزداد المعروض تقلصا على الرغم من التصريحات والإجراءات التي تتخذ بهذا الشأن؟
لخص الصيادون المحترفون مشكلة ارتفاع أسعار الأسماك بجملة واحدة هي (قانون العرض والطلب). حيث إن العرض قليل والسمك غير متوافر، وبالمقابل هناك طلب كبير.
ولكن هذه الجملة جرتنا إلى الكثير والكثير من الدهاليز والتشعبات التي تتطلب الوقوف عندها طويلا وبتمعن، كونها ترتبط بجوانب بيئية وأخرى إدارية، وثالثة تشريعية، وغيرها قانونية وأخلاقية. وكل ذلك يستوجب علينا العودة الى سنوات مضت للوقوف على الحكاية.. من البداية. فما هي الحكاية التي يرويها لنا الصيادون؟
يقول محدثونا: هناك أسباب عديدة لتناقص المعروض، منها المناخ وارتفاع الحرارة وملوحة البحر، وهذه الأسباب عامة في منطقة الخليج وتؤثر سلبا على الثروة السمكية. ولكن هناك أيضا أسباب أخرى تمثل تحديات لقطاع الصيد وهي عديدة ومتنوعة. لعل في مقدمتها بعض القرارات التي يمكن اعتبارها غير مدروسة بدقة. فمثلا كنا نطرح قبل عام 2018 أكثر من 50 طنا من الروبيان، وكانت هذه الكميات تخلق توازنا في الطلب والعرض، لذلك لم نشهد ارتفاعا في أسعار الأسماك خاصة وان البحرين فيها أفضل مصائد الخليج نظرا الى طبيعة القاع الطينية.
ولكن بعد عام 2018 بعد ان تم منع الصيادين المحترفين من صيد الروبيان بناء على معلومات يمكن اعتبارها غير دقيقة وحجج منها تدهور المخزون السمكي، هنا زاد الضغط والطلب على الأسماك، وبدأت أسعارها ترتفع والكميات تتناقص تدريجيا.
لذلك نتساءل: الآن وبعد مرور أكثر من ست سنوات على إيقاف صيد الروبيان، ماهي نتيجة قرارات الحظر؟ هل تضاعفت كميات الروبيان؟ أم العكس؟ فما يمكننا التأكيد عليه ان من أسباب شح الثروة السمكية الان هو حظر صيد الروبيان، حيث زاد الطلب على الأسماك وتم استهداف حتى الأسماك الصغيرة لتلبية حاجات السوق.
وهنا - يتابع الصيادون المحترفون- ظهرت ظاهرة أخرى هي المخالفون. فالقوانين تمنع الصيادين المحترفين من صيد الروبيان، وهذا ما شجع الصيادين المخالفين على الصيد الجائر بممارسات غير قانونية. والغريب انه على الرغم من المنع فإننا نرى كميات كبيرة تطرح في الأسواق وتباع على مرأى ومسمع الجميع، وكلها تتم من قبل صيادين هواة لأنه لا يوجد تصريح رسمي لصيد الروبيان.
وما زاد الطين بلة هو العمالة الاسيوية غير النظامية التي يشغلها بحرينيون. أضف الى ذلك الصيد من قبل الهواة والصيد التجاري، وهؤلاء يمثلون آلافا يمارسون الصيد التجاري، وكل ذلك يساهم في استنزاف المخزون، ثم يوجه اللوم الى الصياد المحترف الذي عليه ان يدفع الثمن.
تقليص المساحات
يتابع ضيوفنا الجأر بما في جعبتهم من ملاحظات، ليتطرقوا هنا الى مشكلة أخرى وصفوها بتقليص مساحة الصيد، وهذا ما يشرحونه بقولهم: بات البحارة يتركزون في مساحات محدودة وصغيرة، وبالمقابل تزايدت اعداد التراخيص بعد عام 2002.
ثم تأتي مشكلة أخرى هي أعمال الردم وشفط الرمال والدفان والتوسع العمراني. فالدفان نتج عنه الإضرار بمعظم المصائد الساحلية وموئل الأسماك. والحفر نتج عنه تخريب قيعان مصائد الروبيان. ومخلفات الحفر والدفان اثرت على مساحات شاسعة وعلى الفشوت والمرجان ومصائد الأسماك، خاصة وأن عمليات الردم تتم في الغالب بالمناطق الصخرية او ما نسميه (الفشوت) بهدف تقليل الكلفة. حيث تكون الأرض صلبة وصالحة للردم وبناء المدن. وهذا ما ساهم في القضاء على بيئات الأسماك. وإلى جانب التوسع العمراني في البحر، نجد ان غسل الرمال أحد أبرز الأسباب في موت الشعب المرجانية التي تعتبر افضل بيئات تكاثر الاسماك. وهذا ما صرح به مسؤولون كبار. لذلك نجد في كل سنة يتقلص المخزون في البحرين.
* ولكن التصريحات الرسمية تؤكد ان الأمر يتم وفق دراسات، مع توفير البدائل من بيئات الأسماك؟
** لا ننكر أهمية المد العمراني، ولكن المشكلة انه لا يتم الاعتراف بتأثير ذلك على الثروات السمكية، بل يتم توجيه الاتهام الى الصيادين أنفسهم.
ففي السابق مثلا، كان لدينا مكانان اساسيان للصيد، هما حوض الخليج والسواحل. وعندما ننظر الى خارطة البحرين الآن نجد ان السواحل من رأس البر مرورا بالدور وعسكر وجو وسترة والمحرق والحد وغيرها تحولت الى شواطئ بسبب عمليات الدفان. وهذا التوسع قضى تماما على المصائد في هذه المناطق. وهنا زاد الضغط على حوض الخليج، وبالطبع يتسبب ذلك في استنزاف الثروات في هذه المنطقة المحدودة.
أما بالنسبة الى ما طرحته حول التصريحات، صحيح أن هناك تطمينات من جانب، ولكن على الجانب الاخر هناك الكثير من التصريحات الرسمية التي تؤكد ان عمليات شفط الرمال وتراخيص البناء ساهمت بضرر بلغ 100% على المخزون السمكي وعلى الصيادين.
كما أننا منذ عام 2002 طرحنا ملف الصيادين والثروة السمكية على النواب، وشكلت لجنة متخصصة عام 2006 للتحقيق بشأن التجاوزات الواقعة على البحر والسواحل. وخرجت بتقرير وتوصيات لم ينفذ أي منها. وأشار تقرير اللجنة الى ان الردم تسبب بآثار خطيرة، منها خسارة البيئات والموائل بشكل نهائي. وبين التقرير أن 90% من اعمال الدفان كانت لأفراد او مؤسسات خاصة. بل ان الدفان في بعض المناطق البحرين تم من دون الحصول على ترخيص من الجهات ذات العلاقة، كما ان الرمال البحرين تسحب من البحر من دون قيمة او مردود مالي مما يعد هدرا للمال العام وضياعا للثروة البحرية.
وبنفس الوقت اكدت الدراسات التي اجراها مركز البحرين للدراسات والبحوث ان عمليات الردم والحفر هي السبب الرئيسي لانخفاض المخزون السمكي. وكل ذلك يؤكد عدم صحة أي تصريح يسعى الى الطمأنة. والنتيجة هي انخفاض أنواع الأسماك من 400 الى اقل من 50 نوعا.
* تلقون اللوم على الجهات الأخرى، هل تنكرون ان الصيادين المحترفين لا يتجاوزن مثلا؟
** لا ننكر ذلك، فالمخالفون موجودون وبحاجة الى رادع، فهناك صيد جائز من البعض وعدم احترام للقوانين واستنزاف خطير.
ولكن السؤال هو: من الذي حفزهم واضطرهم الى ذلك؟ فعندما تخلق بيئة محفزة على التجاوز وتدفعهم الى ذلك، لا يمكن أن نلومهم فقط ونغفل عن لوم الأسباب. فالجميع مشترك في المسؤولية التي تسببت في انخفاض نسبة الصيد من 14 ألف طن الى اقل من 8 الاف.
* في تصريحات سابقة، أكدتم أن أحد ابعاد المشكلة هو اعتماد قرارات من مسؤولين ليس لديهم خلفية عن القطاع. ما الذي تقصدونه بذلك؟
** لا يخفى على أحد أن التخصص هو الأساس في أي مسؤولية وقرار يتخذ في أي قطاع. ولكن للأسف وبصراحة نجد ان الكثير من القرارات تتخذ من قبل اشخاص نحترمهم ولهم خبرتهم الإدارية المشهودة، ولكنهم غير متخصصين في هذا المجال، والأسوأ أنه يتم اعتماد مقترحاتهم من دون الرجوع الى أصحاب الخبرة، مثل الصيادين الذين يعمل بعضهم في البحر منذ أكثر من 60 عاما. وبالتالي تفرض علينا قرارات نحذر منها مسبقا ثم يتضح اننا على حق. لذلك ومنذ سنوات ونحن نعقد اجتماعات مع الجهات المعنية ونحذر من بعض الإجراءات وان النتيجة ستكون تدهور القطاع إذا لم يتم حل المشكلات بشكل علمي. ولكن لم نصل الى نتيجة إيجابية.
الحظر.. ليس حلا
* بالحديث عن القرارات، شهد هذا العام لأول مرة حظرا لأنواع من الأسماك هي الصافي والشعري والعندق. وبعد انتهاء فترة الحظر طرحت الأسماك بأسعار عالية غير معهودة. كيف تفسرون ذلك؟
** منذ البداية كنا نحذر من هذه النتائج. وهذا ما يعود بنا الى الحديث عن القرارات غير المدروسة. حيث كانت التأكيدات بأن الحظر سيؤدي الى تكاثر الأسماك وبالتالي طرح كميات أكبر في السوق.
ولكن الامر في الواقع مختلف. فببساطة، الأسماك لا تبقى في موقع واحد، بل تنتقل في كل موسم من منطقة الى أخرى ببحر الخليج العربي. ومع نهاية فترة الحظر تكون هذه الأسماك قد بدأت في تغيير موقعها الى بيئات أخرى مجاورة خاصة إذا كانت المنطقة تعاني من مشاكل، مثل نقص الغذاء وبيئات التكاثر المناسبة.
ثم ان فترة الحظر هي ذروة موسم الوفرة. في حين أن شهري يوليو واغسطس هما موسم جمرة القيض، وفيه تهاجر الأسماك الى مناطق أخرى من حوض الخليج الذي هو مشترك بين سبع دول.
وهنا نتساءل مرة أخرى: ألم تؤكد التصريحات اننا سنجد كميات وفيرة من الأسماك بعد الحظر؟ فأين تلك الكميات؟. قالوا ان صغار الأسماك ستكبر في هذه الفترة. فأين الأمهات؟ ما يعانيه السوق اليوم هو ما يجيب عن ذلك. فبعد الحظر اتضح صحة ما حذرنا منه وهو تفاقم المشكلة أكثر، لأن الصيادين بخبرتهم الطويلة يعرفون خط هجرة الأسماك. لذلك يمكن اعتبار بعض الإجراءات هي اهدار للثروة السمكية. وبعد ان كنا نطرح كل عام حوالي 300 طن من هذه الأسماك في شهر مايو، خسرنا هذه الكميات للأسف، حيث انتقلت الأسماك الى مياه أخرى.
وهناك جانب سلبي اخر للحظر يتعلق بالتوازن البيئي. فهذا المنع يتسبب في تزايد اعداد سرطان البحر الذي يأكل صغار الأسماك، وزادت اعداد (القبقب) بشكل كبير، مما خلق عدم توازن يضر بالثروة السمكية.
لذلك نطالب بوقف قرار حظر الصيد لمزيد من الدراسة والتشاور بعد ان أثبتت التجربة أنه جاء بنتائج عكسية.
* ماذا عن تراخيص الصيد التي كانت وما تزال محل سجال واتهام؟
** تراخيص الصيد أكبر بكثير من طاقة الثروة السمكية، ويضاف الى ذلك الصيادون الهواة. وهناك جانبان متعلقان بهذه الإشكالية، الأول ان تقليص عدد التصاريح يتطلب تعويضا مجزيا للصيادين مقابل الاضرار بمصالحهم.
والجانب الاخر هو ان هناك حاجة الى مراجعة ومحاسبة الأسباب التي أدت الى اغراق السوق بالتصاريح. فمثلا في الوقت الذي تؤكد الدراسات والتصريحات أن طاقة البحر لا تستوعب أكثر من 70 تصريحا فقط لصيد الروبيان، نجد ان الواقع مغاير، ففي عام 2006 صرح مدير إدارة الثروة السمكية ان هناك 250 رخصة روبيان، وفي 2009 صرح مسؤول بأن عدد التصاريح بلغ 300، وفي 2013 بلغ العدد 374.
وبالنسبة الى الأسماك، على الرغم من ان الدراسات والتصريحات الرسمية تؤكد ان العدد يجب الا يزيد على 700، نجده وصل إلى أكثر من 1350، وفي فترة من الفترات وصلت التراخيص الى حوالي 1700 ترخيص. وفي عام 2010 اكدت التصريحات وجود 1546 ترخيصا، وفي 2014 صرح مسؤول كبير بأن هناك 1630 ترخيص صيد للأسماك، منها 382 للروبيان. أي ان التصريحات تؤكد ان البحر لا يتحمل، وبنفس الوقت تزيد التراخيص. فمن المسؤول عن هذه الجريمة بحق الثروة السمكية؟. فهناك تشخيص للمشكلة ولكن لا يوجد علاج. فكيف نتوقع الا نصل الى ما وصلنا اليه اليوم. بل وقد نصل في وقت ما الى اننا نملك المال ولا نجد السمك في السوق!.
لذلك أطلقنا عدة صرخات استهدفنا بها التحذير من الوصول الى ما نحن عليه اليوم. ففي عام 2009، حذرنا من انخفاض مخزون الثروة السمكية. والوقفة الثانية كانت في يونيو 2010 حينما أطلقنا صرخة استغاثة لإصلاح قطاع الصيد. وأيضا لم نجد من يستجيب. وفي مارس 2015 قدمنا الى مجلس النواب استراتيجية من 14 بندا لحماية البقية الباقية من الثروة السمكية. وبقيت في الادراج.
مزارع الأسماك
* من الحلول التي وضعت هي مزارع الأسماك، وأنزال الاصبعيات في البحر بهدف دعم الثروة السمكية. ألم يساهم ذلك في تخفيف حدة المشكلة؟
** أولا نؤكد أن إنزال الاف الاصبعيات ليس حلا، لأن مصير اغلبها الموت خاصة في هذا الجو، أو تلتهمها الأسماك الأكبر. وحتى لو بقيت عندهم في الاحواض ستموت أيضا!.
أما بالنسبة الى الاستزراع، فمنذ سنوات اعتمد هذا الاجراء، وقد أكدت التصريحات بأنه سينتج 1500 طن في العام. علما بأن هذه الكميات كنا نطرحها في السوق في أيام. ولنا ان نتساءل اليوم: هل حلت المشكلة؟ هل زاد المخزون؟. ثم أين الروبيان المستزرع الذي وعدونا به؟
في الجزء الثاني من الموضوع، نستعرض آراء خبراء في البيئة ومصائد الأسماك، مع تعليق إدارة الثروة السمكية حول المشكلات التي يعاني منها القطاع وما أثاره الصيادون من نقاط تستوجب التوقف عندها طويلا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك