العدد : ١٧٠٧٨ - الأربعاء ٢٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٧٨ - الأربعاء ٢٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

مقالات

الإبادة الثقافية... كيف ولماذا!!!

الأحد ١٤ يوليو ٢٠٢٤ - 02:00

في‭ ‬كتابه‭ ‬الموسوعي‭ ‬‮«‬أمريكا‭ ‬والإبادات‭ ‬الثقافية،‭ ‬لعنة‭ ‬كنعان‭ ‬الإنجليزية‮«‬‭ (‬رياض‭ ‬الريس‭ ‬للكتب‭ ‬والنشر‭- ‬يوليو‭ ‬2009‭) ‬يستعرض‭ ‬المؤرخ‭ ‬السوري،‭ ‬استاذ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬بجامعة‭ ‬سفوك‭- ‬بوسطن،‭ ‬الدكتور‭ ‬منير‭ ‬العَكْش،‭ ‬دور‭ ‬الإنجليز‭ ‬أو‭ ‬‮«‬الزنابير‭- ‬WASPS‮»‬‭ (‬وهو‭ ‬الاسم‭ ‬المختصر‭ ‬والمتداول‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬للبيض‭ ‬الأنجلوسكسون‭ ‬البروتستانت‭) ‬في‭ ‬إبادة‭ ‬الهنود‭ ‬الحمر،‭ ‬السكان‭ ‬الأصليين‭ ‬للقارة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬مستعيناً‭ ‬بآلاف‭ ‬الوثائق‭ ‬في‭ ‬صناديق‭ ‬الوثائق‭ ‬الحكومية‭ ‬الأمريكية‭ (‬وثائق‭ ‬المحفوظات‭ ‬الوطنية‭ ‬National‭ ‬Archive،‭ ‬وثائق‭ ‬سجلات‭ ‬مفوضي‭ ‬الشؤون‭ ‬الهندية،‭ ‬محفوظات‭ ‬الكونغرس‭ ‬والمنظمات‭ ‬التاريخية‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬وجد‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬أوراق،‭ ‬بل‭ ‬شريط‭ ‬مصور‭ ‬من‭ ‬‮»‬مأساة‭ ‬تعجز‭ ‬كل‭ ‬مخيلات‭ ‬الرعب‭ ‬عن‭ ‬محاكاتها‭....‬‮«‬؛‭ ‬أبطالها‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬الحقيقيين،‭ ‬سقطوا‭ ‬كأوراق‭ ‬الشجر‭ ‬وكنستهم‭ ‬رياح‭ ‬التاريخ،‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬لشعب‭ ‬فلسطين‭ ‬في‭ ‬نكبة‭ ‬1948،‭ ‬وما‭ ‬يحدث،‭ ‬أمام‭ ‬أعين‭ ‬العالم،‭ ‬لشعب‭ ‬غزة‭ ‬منذ‭ ‬7‭ ‬أكتوبر‭ ‬2023‭ ‬حتى‭ ‬تاريخه‭. ‬

ضمن‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬مؤلفاته‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬الإبادة‭ ‬البشرية‭ ‬التي‭ ‬حصلت‭ ‬للشعب‭ ‬الأمريكي‭ ‬الأصلي،‭ ‬يتناول‭ ‬الدكتور‭ ‬العكش‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬المذكور‭ ‬دراسة‭ ‬بحثية‭ ‬موَثّقة‭ ‬حول‭ ‬فكرة‭ ‬رئيسية،‭ ‬وهي‭ ‬إنه‭ ‬لم‭ ‬يغب‭ ‬عن‭ ‬‮»‬أنبياء‭ ‬فكرة‭ ‬أمريكا‭ ‬وجنرالاتها‭ ‬أن‭ ‬احتلال‭ ‬الأرض‭ ‬والإبادة‭ ‬الجسدية‭ ‬ليست‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬وإنه‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬كسر‭ ‬}العمود‭ ‬الفقري{‭ ‬لضحيتهم،‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬لغتهم‭ ‬وثقافتهم‭ ‬وتراثهم‭ ‬الروحي‮«‬،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬عمليات‭ ‬القتل‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تسير‭ ‬بموازاة‭ ‬عملية‭ ‬مسح‭ ‬هوية‭ ‬وتاريخ‭ ‬الضحية‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬الإبادة‭ ‬الثقافية،‭ ‬لفناء‭ ‬الضحية‭ ‬من‭ ‬الوجود،‭ ‬ولضمان‭ ‬عدم‭ ‬عودته‭ ‬الى‭ ‬الحياة‭. ‬

ونشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬كافة‭ ‬الاقتباسات‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬موسوعة‭ ‬الدكتور‭ ‬منير‭ ‬العكش،‭ ‬المذكورة‭ ‬أعلاه،‭ ‬‮»‬أمريكا‭ ‬والإبادات‭ ‬الثقافية‮«‬‭.  ‬

يؤكد‭ ‬مؤرخنا‭ ‬أن‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬خمسمائة‭ ‬سنة‭ ‬تعرّض‭ ‬فيها‭ ‬شعب‭ ‬أمريكا‭ ‬الأصلي‭ ‬للغزو‭ ‬الأوروبي‭ (‬الإسباني،‭ ‬البرتغالي،‭ ‬الفرنسي،‭ ‬الهولندي‭ ‬والانجليزي‭)‬،‭ ‬عاش‭ ‬خلالها‭ ‬شتى‭ ‬أنواع‭ ‬التدمير‭ ‬الإنساني‭ ‬والقتل‭ ‬والاحتقار‭ ‬لكيانه‭ ‬ولغاته‭ ‬وأديانه،‭ ‬لكن‭ ‬الإنجليز‮»‬‭ ‬وحدهم‭ ‬كانوا‭ ‬الأكثر‭ ‬عنجهية‭ ‬وعدوانية‭ ‬وإصراراً‭ ‬على‭ ‬تدمير‭ ‬الحياة‭ ‬الهندية‭ ‬واقتلاعها‭ ‬من‭ ‬الذاكرة‭ ‬الإنسانية‭. ‬وحدهم‭ ‬جاءوا‭ ‬بفكرة‭ ‬مسبقة‭ ‬عن‭ ‬أمريكا،‭ ‬نسجوها‭ ‬من‭ ‬لحم‭ ‬فكرة‭ ‬إسرائيل‭ ‬التاريخية‭ (‬المقدسة‭)‬؛‭ ‬فكرة‭ ‬احتلال‭ ‬أرض‭ ‬الغير،‭ ‬واستبدال‭ ‬شعب‭ ‬بشعب،‭ ‬وثقافة‭ ‬بثقافة،‭ ‬وتاريخ‭ ‬بتاريخ‭....‬‮«‬‭ (‬وصل‭ ‬الانجليز‭ ‬إلى‭ ‬أمريكا‭ ‬عام‭ ‬1607م‭). ‬وأن‭ ‬هذا‭ ‬الفكر‭ ‬الإنجليزي‭ ‬أرسى‭ ‬خمسة‭ ‬ثوابت‭ ‬تاريخية‭ ‬مقدّسة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬تاريخ‭ ‬أمريكا،‭ ‬وهي‭: ‬‮«‬1‭ - ‬المعنى‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬لأمريكا،‭ ‬2‭ -‬عقيدة‭ ‬الاختيار‭ ‬الإلهي‭ ‬والتفوق‭ ‬العرقي‭ ‬الثقافي،‭ ‬3-‭ ‬الدور‭ ‬الخلاصي‭ ‬للعالم،‭ ‬4‭- ‬قدرية‭ ‬التوسع‭ ‬اللانهائي،‭ ‬5‭- ‬حق‭ ‬التضحية‭ ‬بالآخر‮»‬‭. ‬

تاريخيا‭ ‬تشير‭ ‬وقائع‭ ‬نشوء‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬وحروبها‭ ‬الداخلية‭ ‬والخارجية،‭ ‬المباشرة‭ ‬وغير‭ ‬المباشرة،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تتوقف‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬الى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الثوابت‭ ‬الخمسة‭ ‬تُجدد‭ ‬‮«‬لغتها‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬إلى‭ ‬جيل‮»‬،‭ ‬وتُطور‭ ‬ذرائعها‭ ‬مع‭ ‬‮«‬كل‭ ‬تطور‭ ‬جديد‭ ‬كالثورة‭ ‬الصناعية،‭ ‬ومع‭ ‬كل‭ ‬نظرية‭ ‬علمية‭ ‬جديدة‭ ‬كنظرية‭ ‬التطور‭... ‬لكن‭ ‬جوهرها‭ ‬ومعناها‭ ‬وأهدافها‭ ‬لازمت‭ ‬المستعمرين‭ ‬الانجليز‭ ‬وقناعاتهم‭ ‬وتاريخهم‭ ‬وسياساتهم،‭ ‬واستحوذت‭ ‬على‭ ‬ألبابهم‭ ‬وعقولهم‭....‬‮»‬،‭ ‬لذلك‭ ‬بقيت‭ ‬مُلازِمَة‭ ‬لسياسات‭ ‬جميع‭ ‬الإدارات‭ ‬الأمريكية‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬الحقب‭ ‬الزمنية،‭ ‬كما‭ ‬لازمت‭ ‬التاريخ‭ ‬الاستعماري‭ ‬الإنجليزي‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬أربعة‭ ‬قرون‭ ‬انتشرت‭ ‬هيمنته‭ ‬خلالها‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬بقاع‭ ‬وشعوب‭ ‬العالم‭ ‬تحت‭ ‬شعار‭ ‬‮«‬الحضارة‮»‬،‭ ‬إنعاشاً‭ ‬لأسطورة‭ ‬‮«‬لعنة‭ ‬كنعان‮»‬‭ (‬أسطورة‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬سفر‭ ‬التكوين،‭ ‬تَذكر‭ ‬أن‭ ‬‮«‬حام‮»‬‭ ‬ابن‭ ‬النبي‭ ‬نوح‭ ‬قام‭ ‬بفعل‭ ‬مخزٍ،‭ ‬فلعنه‭ ‬والده‭ ‬النبي‭ ‬نوح‭ ‬بأن‭ ‬يصبح‭ ‬حفيده‭ ‬كنعان‭ /‬ابن‭ ‬حام‭/ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬البشرة‭ ‬السوداء،‭ ‬وتم‭ ‬طرده‭ ‬إلى‭ ‬إفريقيا،‭ ‬ليبقى‭ ‬عبداً‭ ‬لعمه‭ ‬‮«‬سام‮»‬‭ ‬وأقوامه‭ ‬التالية‭...)‬،‭ ‬وقد‭ ‬نسجوا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الاسطورة‭ ‬هاجس‭ ‬تدمير‭ ‬البلدان‭ ‬والأمم‭ (‬من‭ ‬غير‭ ‬ذوي‭ ‬البشرة‭ ‬البيضاء‭) ‬بعنجهية‭ ‬‮«‬الجلاد‭ ‬المقدس،‭ ‬ومسخ‭ ‬الآخر،‭ ‬وعبادة‭ ‬الذات،‭ ‬وتقديس‭ ‬الجريمة‮»‬‭.‬

 

‮«‬التطهير‭ ‬الثقافي‮»‬‭  ‬و«التعليم‭ ‬بهدف‭ ‬الإبادة‮»‬‭ ‬

بدأ‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬فصوله‭ ‬بسرد‭ ‬وثائقي‭ ‬حول‭ ‬ما‭ ‬تعرَّض‭ ‬له‭ ‬الشعب‭ ‬الأمريكي‭ ‬الأصلي‭ (‬الهنود‭) ‬بعد‭ ‬احتلال‭ ‬الإنجليز‭ ‬لأرضهم،‭ ‬وهو‭ ‬تاريخ‭ ‬دموي‭ ‬طويل،‭ ‬يصفه‭ ‬مَن‭ ‬نجوا‭ ‬منه‭ ‬بأعجوبة‭ ‬بأنه‭ ‬كان‭ ‬‮«‬أطول‭ ‬حرب‭ ‬وأدمى‭ ‬إبادة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬البشري‭...‬‮»‬‭.‬

استعان‭ ‬المحتل‭ ‬الإنجليزي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الإبادة‭ ‬ببعض‭ ‬الهنود‭ ‬النكرة‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الشعب‭ ‬الأصليين‭ ‬ليتولوا‭ ‬عمليات‭ ‬التطهير‭ ‬الثقافي‭ ‬بسلاح‭ ‬‮«‬التعليم‭ ‬والتمدين‮»‬،‭ ‬عبر‭ ‬مؤسسات‭ ‬تم‭ ‬تأسيسها‭ ‬لهذا‭ ‬الهدف‭... ‬فتم‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1806‭ ‬انشاء‭ ‬‮«‬مكتب‭ ‬الشؤون‭ ‬الهندية‭ ‬Bureau‭ ‬of‭ ‬Indian‭ ‬Affairs‮»‬‭ ‬لتكون‭ ‬هي‭ ‬السلطة‭ ‬الهندية‭ ‬الملحقة‭ ‬بوزارة‭ ‬الحرب‭ ‬ثم‭ ‬الداخلية‭ ‬الأمريكية،‭ ‬ولتكون‭ ‬هي‭ ‬الذراع‭ ‬الرئيسية‭ ‬في‭ ‬تنفيذ‭ ‬برنامج‭ ‬الإبادة‭ ‬الثقافية‭ ‬للشعب‭ ‬الأمريكي‭ ‬الهندي‭. ‬هذا‭ ‬بجانب‭ ‬ما‭ ‬استعانوا‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬أسلحة‭ ‬نارية‭ ‬وسلاح‭ ‬الحصار‭ ‬وسلاح‭ ‬الجراثيم،‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬لهذا‭ ‬الشعب‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬استمرت‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬قرنين‭ ‬من‭ ‬الزمن‭.‬

ولأن‭ ‬الأطفال‭ ‬هم‭ ‬مستقبل‭ ‬أي‭ ‬أمة‭ ‬وذاكرتها،‭ ‬جعل‭ ‬المحتل‭ ‬الجديد‭ ‬أطفال‭ ‬الهنود‭ ‬الحمر‭ ‬هدفاً،‭ ‬ليكونوا‭ ‬مادة‭ ‬رئيسية‭ ‬لسياسات‭ ‬‮«‬التطهير‭ ‬الثقافي‮»‬،‭ ‬واجتثاث‭ ‬الشعب‭ ‬من‭ ‬جذوره‭ ‬وتاريخه،‭ ‬باستخدام‭ ‬كل‭ ‬الأدوات‭ ‬والوسائل،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬العنف‭ ‬والخطف‭ ‬لاقتلاع‭ ‬أطفال‭ ‬الهنود‭ ‬من‭ ‬أحضان‭ ‬أمهاتهم‭ ‬وثقافاتهم‭ ‬في‭ ‬أصغر‭ ‬سن‭ ‬ممكنة‭ (‬سن‭ ‬الرابعة‭) ‬وشحنهم‭ ‬إلى‭ ‬معسكرات‭ ‬أشغال‭ ‬شاقة‭ ‬سُميّت‭ ‬تجاوزاً‭ ‬بالمدارس‭....‬‮»‬‭ (‬Indian‭ ‬Boarding‭ ‬School‭)... ‬وفُرضت‭ ‬عليهم‭ ‬برامج‭ ‬خاصة‭ ‬للتعليم،‭ ‬كانت‭ ‬تعبيراً‭ ‬خالصاً‭ ‬‮«‬لفكرة‭ ‬أمريكا‮»‬،‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬‮«‬فكرة‭ ‬احتلال‭ ‬أرض‭ ‬الغير،‭ ‬واستبدال‭ ‬شعب‭ ‬بشعب،‭ ‬وثقافة‭ ‬بثقافة‭ ‬وتاريخ‭ ‬بتاريخ‮»‬،‭ ‬واستبدال‭ ‬لغتهم‭ ‬ودينهم‭ ‬بلغة‭ ‬وأخلاق‭ ‬وأديان‭ ‬جديدة،‭ ‬ولتدريب‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأطفال‭ ‬على‭ ‬الاشمئزاز‭ ‬من‭ ‬أنفسهم‭ ‬وأبويهم،‭ ‬وقومهم‭ ‬ولغتهم،‭ ‬واحتقار‭ ‬قوميتهم‭. ‬

كان‭ ‬غسل‭ ‬الأدمغة‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬جراحات‭ ‬دماغية،‭ ‬تم‭ ‬خلالها‭ ‬اقتلاع‭ ‬وإخضاع‭ ‬وتعرية‭ ‬ثقافة‭ ‬هذا‭ ‬الشعب،‭ ‬حيث‭ ‬جعل‭ ‬الإنسان‭ ‬الهندي‭ ‬‮«‬مادة‭ ‬مؤذية‭ ‬للإنسان‭ ‬والطبيعة،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬تطهيرها‮»‬،‭ ‬وتم‭ ‬مسخ‭ ‬جسده‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬قذارة‭ ‬أحط‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬القذارات،‭ ‬وحثالات‭ ‬دميمة‭ ‬تدُب‭ ‬مع‭ ‬الهوام‭ ‬والحشرات‭ ‬ولابد‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬صابون‭ ‬الحضارة‮»‬،‭ ‬رغم‭ ‬إن‭ ‬هنود‭ ‬أمريكا‭ ‬يغتسلون‭ ‬يومياً‭ ‬تعبيراً‭ ‬عن‭ ‬معتقداتهم‭ ‬إن‭ ‬‮«‬النظافة‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الإيمان‮»‬،‭ ‬وكانت‭ ‬الروائح‭ ‬النتنة‭ ‬للأوروبيين،‭ ‬بسبب‭ ‬عدم‭ ‬استحمامهم‭ ‬لفترات‭ ‬طويلة،‭ ‬مصدر‭ ‬اشمئزاز‭ ‬للشعب‭ ‬الهندي‭ ‬الأمريكي‭. ‬

في‭ ‬تلك‭ ‬المدارس‭ ‬تم‭ ‬‮«‬تطهير‮»‬‭ ‬أولئك‭ ‬الأطفال‭ ‬من‭ ‬أسمائهم‭ ‬وأخلاقهم‭ ‬وثقافاتهم‭ ‬ولغتهم،‭ ‬وجعلهم‭ ‬يرفضون‭ ‬تسميتهم‭ ‬بأسمائهم‭ ‬الأصيلة،‭ ‬ليستعيروا‭ ‬الأسماء‭ ‬التي‭ ‬يطلقها‭ ‬عليهم‭ ‬المحتل،‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬الأسماء‭ ‬قاسية‭ ‬وبشعة‭ ‬في‭ ‬الدلالات‭ ‬والأوصاف،‭ ‬وأن‭ ‬يلقنوها‭ ‬لأبنائهم‭ ‬وأحفادهم،‭ ‬ومع‭ ‬التاريخ‭ ‬تصبح‭ ‬البشاعة‭ ‬من‭ ‬‮«‬أبرز‭ ‬خصائص‭ ‬هويتهم‮»‬‭.‬

وهكذا‭ ‬كان‭ ‬التطهير‭ ‬الثقافي‭ ‬باتاً‭ ‬وحاداً‭ ‬ببشاعته‭ ‬وقذارته‭ ‬وتركيزه‭ ‬على‭ ‬عقول‭ ‬اطفال‭ ‬الهنود،‭ ‬وبوسائل‭ ‬يقشعر‭ ‬الإنسان‭ ‬العادي‭ ‬لذكرها‭ ‬ووصفها،‭ ‬حتى‭ ‬تم‭ ‬إجبارهم‭ ‬على‭ ‬التحول‭ ‬إلى‭ ‬محاربين‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أهداف‭ ‬المحتل،‭ ‬مؤمنين‭ ‬بأن‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬لهم‭ ‬هو‭ ‬‮«‬القدر‭ ‬المتجلي‮»‬‭ (‬مصطلح‭ ‬يعني‭ ‬الإيمان‭ ‬الثقافي‭ ‬بما‭ ‬يعمله‭ ‬الرجل‭ ‬الأبيض‭)‬،‭ ‬و«قَدَرٌ‭ ‬مقدس‮»‬‭ ‬قضى‭ ‬‮«‬بزحف‭ ‬الحضارة‭ ‬فوق‭ ‬كل‭ ‬أراضي‭ ‬وأرواح‭ ‬الهنود‮»‬،‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬لقومهم‭ ‬ووطنهم‭ ‬كان‭ ‬‮«‬مواجهة‭ ‬بين‭ ‬البربرية‭ ‬والحضارة،‭ ‬وأن‭ ‬لا‭ ‬خيار‭ ‬أمامهم‭ ‬ولا‭ ‬أمل‭ ‬لديهم‭ ‬إلا‭ ‬الإذعان‮»‬‭...‬

 

ثقافة‭ ‬‮«‬استباحة‭ ‬الجسد‮»‬

تسرد‭ ‬الوثائق‭ ‬في‭ ‬كتابنا‭ ‬المرجعي‭ ‬كيف‭ ‬استباح‭ ‬المستوطنون‭ ‬البيض‭ ‬جسد‭ ‬الهندي،‭ ‬بأن‭ ‬جعلوه‭ ‬في‭ ‬أساطيرهم‭ ‬أجساداً‭ ‬مدنسة‭ ‬لشعب‭ ‬‮«‬كنعان‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬‮«‬أحل‭ ‬الله‭ ‬لشعبه‭ (‬الإنجليزي‭) ‬أن‭ ‬يفعل‭ ‬بها‭ ‬ما‭ ‬يشاء‮»‬،‭ ‬وأن‭ ‬مدارس‭ (‬معسكرات‭) ‬الاطفال‭ ‬تم‭ ‬تسليمها‭ ‬إلى‭ ‬إرساليات‭ ‬التبشير،‭ ‬التي‭ ‬بدورها‭ ‬استأجرت‭ ‬‮«‬حثالات‭ ‬المجتمع‭ ‬الأمريكي‭ (‬very‭ ‬dregs‭ ‬of‭ ‬the‭ ‬society‭)‬،‭ ‬من‭ ‬متخرجي‭ ‬السجون‭ ‬وأصحاب‭ ‬السوابق‭ ‬والساديين‭ ‬ومغتصبي‭ ‬الأطفال‭ (‬pedophiles‭) ‬والمتقاعدين‭ ‬العسكريين‭ ‬والأمنيين‭....‬‮»‬‭ ‬للإشراف‭ ‬على‭ ‬المدارس‭ ‬وإدارتها‭ ‬لتمدين‭ ‬أطفال‭ ‬الهنود‭ ‬الحمر،‭ ‬‮«‬لهذا‭ ‬لم‭ ‬تخل‭ ‬مدرسة‭ ‬واحدة،‭ ‬وبنسب‭ ‬متفاوتة،‭ ‬من‭ ‬الاغتصاب‭ ‬الجنسي‭. ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬بعض‭ ‬الآباء‭ ‬امتنعوا‭ ‬عن‭ ‬الإنجاب‭ ‬خوفاً‭ ‬من‭ ‬جلادي‭ ‬المدارس‭ ‬الداخلية‭...‬‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬يبدأ‭ ‬الناظر،‭ ‬والآخرون،‭ ‬مناهج‭ ‬التمدين‭ ‬منذ‭ ‬اليوم‭ ‬الأول‭ ‬بافتراس‭ ‬الطفل‭ ‬جنسيا،‭ ‬حتى‭ ‬تحولت‭ ‬المدارس‭ ‬إلى‭ ‬مؤسسات‭ ‬للإرهاب‭ ‬الجنسي‭ ‬‮«‬وأوكار‭ ‬لاغتصاب‭ ‬الغلمان‭ (‬pedophilia‭)‬‮»‬،‭ ‬والإذلال،‭ ‬حتى‭ ‬جعلوا‭ ‬أولئك‭ ‬الصغار‭ ‬يؤمنون‭ ‬بأن‭ ‬من‭ ‬‮«‬مسلمات‭ ‬حياتهم‭ ‬الجديدة‭ ‬أن‭ ‬يتعرضوا‭ ‬لهذا‭ ‬العدوان‭ ‬في‭ ‬أية‭ ‬لحظة‭ ‬لأنه‭ ‬حق‭ ‬من‭ ‬حقوق‭ ‬مفترسيهم‭ ‬الذين‭ ‬يعملون‭ ‬ناظرين‭ ‬ومشرفين‭ ‬ومعلمين‭ ‬ومبشرين‭ ‬ووكلاء‭ ‬عن‭ ‬الله‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬دراسات‭ ‬احصائية‭ ‬أمريكية‭ ‬حديثة‭ ‬نسبياً‭ ‬حول‭ ‬‮«‬ظاهرة‭ ‬الاغتصاب‭ ‬في‭ ‬مدارس‭ ‬الهنود‮»‬‭ ‬في‭ ‬أمريكا،‭ ‬ومنها‭ ‬تقرير‭ ‬وزارة‭ ‬الصحة‭ ‬لعام‭ ‬1993،‭ ‬تأكيدات‭ ‬موثقة‭ ‬بأن‭ ‬‮«‬نسبة‭ ‬اغتصاب‭ ‬الأطفال‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬هذه‭ ‬المدارس،‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬أعوام‭ ‬1950‭ ‬و1980،‭ ‬كانت‭ ‬عامّة‭ ‬طامّة‭ (‬100%‭)‬،‭ ‬لم‭ ‬يَستثن‭ ‬أحداً‭ ‬منهم‭ ‬أو‭ ‬منهن‮»‬‭.‬

ويتحدّث‭ ‬تقرير‭ ‬صدر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1890‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬‮«‬راهبات‭ ‬إنجيليات‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬Moose‭ ‬Factory‭ ‬Indian‭ ‬Residential‭ ‬School‭ ‬كُن‭ ‬يُدخلن‭ (‬أطفال‭ ‬الهمجية‭) ‬معهن‭ ‬إلى‭ ‬الحمام‭ (...‬إلخ‭)‬‮»‬‭ ‬ليعلمنهم‭ ‬دروساً‭ ‬في‭ ‬المدنية‭... ‬وقد‭ ‬استعانت‭ ‬التقارير‭ ‬باعترافات‭ ‬مخزية‭ ‬صدرت‭ ‬في‭ ‬لجان‭ ‬التحقيق‭ ‬التي‭ ‬شكلها‭ ‬الإنجليز‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬التسعينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬بعد‭ ‬زيادة‭ ‬انتشار‭ ‬الدعاوى‭ ‬والفضائح‭ ‬حول‭ ‬هذه‭ ‬المدارس،‭ ‬لتؤكد‭ ‬بأن‭ ‬الاغتصابات‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المدارس‭ ‬استمرت‭ ‬إلى‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن،‭ ‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬التقارير‭ ‬خلصت‭ ‬كعادتها‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬هذه‭ ‬الحوادث‭ ‬فردية‭ ‬منعزلة‭ ‬غريبة‭ ‬عن‭ ‬طريقة‭ ‬الحياة‭ ‬الأمريكية‮»‬‭... ‬وهي‭ ‬نفس‭ ‬النتائج‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬اليها‭ ‬المحاكم‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬تحقيقات‭ ‬فضائح‭ ‬التعذيب‭ ‬في‭ ‬السجون‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬أبوغريب‭- ‬العراق‭ (‬2004‭)‬،‭ ‬بينما‭ ‬أُسدل‭ ‬الستار‭ ‬الحديدي‭ ‬إعلامياً‭ ‬على‭ ‬فضائح‭ ‬الجيش‭ ‬الأمريكي‭ ‬في‭ ‬حروب‭ ‬كثيرة،‭ ‬مثل‭ ‬حرب‭ ‬فيتنام‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬والبلقان‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين،‭ ‬واستباحة‭ ‬قنص‭ ‬الأفارقة‭ ‬والاتجار‭ ‬بهم‭ ‬في‭ ‬أسواق‭ ‬العبودية،‭ ‬واستملاكهم‭ ‬واستعبادهم‭ ‬بأقبح‭ ‬وأسوأ‭ ‬الظروف‭ ‬اللاإنسانية‭ ‬في‭ ‬أراضي‭ ‬الإقطاع‭ ‬الأمريكية‭... ‬وغيرها،‭ ‬وهي‭ ‬فضائح‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬‮«‬استباحة‭ ‬جسد‮»‬‭ ‬الآخر،‭ ‬وحريته‭ ‬ودينه‭ ‬ورزقه‭ ‬وأرضه‭ ‬تعد‭ ‬ثقافة‭ ‬مركزية‭ ‬في‭ ‬أساطير‭ ‬الإنجلوسكسون،‭ ‬وفي‭ ‬‮«‬أي‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭ ‬زحف‭ ‬إليه‭ ‬الشعب‭ ‬الإنجليزي‭ ‬المختار‮»‬،‭ ‬بهدف‭ ‬تمدين‭ ‬شعوب‭ ‬الأرض‭ ‬‮«‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬ألوانهم‭ ‬وأصقاعهم،‭ ‬من‭ ‬أستراليا‭ ‬ونيوزيلنده‭ ‬إلى‭ ‬ألاسكا‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬جنوب‭ ‬إفريقيا‭ ‬إلى‭ ‬العراق‭.‬

وتؤكد‭ ‬الوثائق‭ ‬الأمريكية‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬أخطر‭ ‬نتائج‭ ‬سياسات‭ ‬استباحة‭ ‬الجسد‭ ‬الهندي‭ ‬الأمريكي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المعسكرات‭ ‬البشعة‭ ‬هو‭ ‬لجوء‭ ‬أولئك‭ ‬الأطفال‭ ‬إلى‭ ‬الانتحار‭ ‬منذ‭ ‬أعمار‭ ‬مبكرة،‭ ‬وفي‭ ‬أعمار‭ ‬مختلفة،‭ ‬ووصل‭ ‬أعداد‭ ‬المنتحرين‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المدارس‭ ‬إلى‭ ‬الأعداد‭ ‬الكاملة،‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬عمرية‭ ‬متفرقة،‭ ‬واستمر‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬خروجهم‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المدارس‭. ‬

بجانب‭ ‬هذا‭ ‬السرد‭ ‬المؤلم‭ ‬للوحشية‭ ‬الإنجليزية‭ ‬في‭ ‬استباحة‭ ‬جسد‭ ‬أطفال‭ ‬الشعب‭ ‬الهندي‭ ‬الأمريكي،‭ ‬هناك‭ ‬فصل‭ ‬كامل‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬يؤكد‭ ‬بالوثائق‭ ‬على‭ ‬قضايا‭ ‬استباحتهم‭ ‬سلخ‭ ‬جلود‭ ‬من‭ ‬يقتلون‭ ‬من‭ ‬الهنود،‭ ‬وأكل‭ ‬أكبادهم،‭ ‬وفي‭ ‬حالات‭ ‬معينة‭ ‬يأكلون‭ ‬لحومهم،‭ ‬بينما‭ ‬دأب‭ ‬الإنجليز‭ ‬على‭ ‬إسقاط‭ ‬تهمة‭ ‬أكل‭ ‬لحوم‭ ‬البشر‭ (‬Cannibalism‭) ‬على‭ ‬الهندي‭ ‬الأمريكي،‭ ‬كما‭ ‬تم‭ ‬إسقاطه‭ ‬لاحقاً‭ ‬على‭ ‬الشعب‭ ‬الاسترالي‭ ‬الاصلي‭ ‬عند‭ ‬وصول‭ ‬المستعمر‭ ‬الإنجليزي‭ ‬إلى‭ ‬قارتهم؛‭ ‬وتكررت‭ ‬بشاعات‭ ‬ذلك‭ ‬الاستعمار‭ ‬مع‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الشعوب‭ ‬في‭ ‬المستعمرات‭ ‬الانجليزية‭ ‬التي‭ ‬غطت‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬25%‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬العالم‭ ‬حتى‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭... ‬وللتاريخ‭ ‬يجب‭ ‬التذكير‭ ‬بأن‭ ‬هذه‭ ‬التهم‭ ‬البشعة‭ ‬واللاإنسانية‭ ‬زورها‭ ‬المستعمر‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية،‭ ‬وبالأخص‭ ‬الثوار‭ ‬منهم،‭ ‬كما‭ ‬تم‭ ‬تزوير‭ ‬روايات‭ ‬بشعة‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬بعض‭ ‬الشعوب‭ ‬الإفريقية‭ ‬كآكلة‭ ‬للحوم‭ ‬البشر‭... ‬وغيرهم‭.‬

مقابل‭ ‬كل‭ ‬هذا،‭ ‬يذكر‭ ‬الدكتور‭ ‬العكش‭ ‬نقلاً‭ ‬عن‭ ‬ديفيد‭ ‬ستانارد،‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬أعلام‭ ‬الدراسات‭ ‬الأمريكية،‭ ‬قوله‭: ‬إن‭ ‬الإنجليز‭ ‬لا‭ ‬يملّون‭ ‬من‭ ‬التبجح‭ ‬بأنهم‭ ‬‮«‬أكثر‭ ‬أهل‭ ‬الأرض‭ ‬تحضراً،‭ ‬وأن‭ ‬لديهم‭ ‬إيماناً‭ ‬لا‭ ‬يتزعزع‭ ‬بقول‭ ‬أوليفر‭ ‬كرومويل‭: ‬إن‭ ‬الله‭ ‬رجل‭ ‬إنجليزي‭ ‬God to be an Englishman (David A. Stannard, American Holocaust, p. 98)‮»‬.

 

الحرب‭ ‬البيولوجية‭ ‬الأولى‭... ‬إبادة‭ ‬هنود‭ ‬أمريكا‭.  ‬

كانت‭ ‬حروب‭ ‬الإنجليز‭ ‬ضد‭ ‬السكان‭ ‬الأصليين‭ ‬متنوعة‭ ‬ومرعبة‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أربعة‭ ‬قرون؛‭ ‬ومازال‭ ‬التاريخ‭ ‬يتذكر،‭ ‬ويذكر،‭ ‬الحرب‭ ‬البيولوجية‭ ‬التي‭ ‬استخدم‭ ‬فيها‭ ‬الانجليز‭ ‬بطانيات‭ ‬ملوثة‭ ‬بجراثيم‭ ‬الجدري‭ ‬والطاعون‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬الوبائية‭ ‬التي‭ ‬جلبها‭ ‬المستعمر‭ ‬إلى‭ ‬القارة‭ ‬الجديدة،‭ ‬والتي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعرفها‭ ‬الشعب‭ ‬الأمريكي‭ ‬الأصلي،‭ ‬فلم‭ ‬يملكوا‭ ‬المناعة‭ ‬ضدها‭... ‬حيث‭ ‬تم‭ ‬بعد‭ ‬توقيع‭ ‬إحدى‭ ‬اتفاقيات‭ ‬السلام‭ ‬بين‭ ‬الطرفين،‭ ‬أن‭ ‬أهدى‭ ‬الانجليز‭ ‬أعداداً‭ ‬من‭ ‬البطانيات‭ ‬الملوثة‭ ‬إلى‭ ‬الهنود‭ ‬لحمايتهم‭ ‬من‭ ‬برد‭ ‬الطريق‭ ‬الممتد‭ ‬إلى‭ ‬مئات‭ ‬الكيلومترات،‭ ‬أثناء‭ ‬تهجيرهم‭ ‬سيراً‭ ‬على‭ ‬الأقدام‭ ‬من‭ ‬الساحل‭ ‬الشرقي‭ ‬إلى‭ ‬الساحل‭ ‬الغربي‭ ‬في‭ ‬بلادهم،‭ ‬حيث‭ ‬تساقط‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الدرب‭ ‬الطويل‭ ‬الألوف‭ ‬منهم،‭ ‬بعد‭ ‬معاناة‭ ‬المرض،‭ ‬ليتناوب‭ ‬الأحياء‭ ‬منهم‭ ‬استخدام‭ ‬بطانيات‭ ‬الميتين،‭ ‬فم‭ ‬ينجو‭ ‬منهم‭ ‬سوى‭ ‬اعداد‭ ‬قليلة‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ (‬تم‭ ‬توثيق‭ ‬هذه‭ ‬الحقائق،‭ ‬لأول‭ ‬مرة،‭ ‬بواسطة‭ ‬المؤرخ‭ ‬الأمريكي‭ ‬فرانسيس‭ ‬باركمان‭ ‬Francis‭ ‬Parkman‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭).‬

 

الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬والثقافية‭ ‬مع‭ ‬عقيدة‭ ‬‮«‬كنعنة‮»‬‭ ‬الضحايا

ونقلاً‭ ‬عن‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المراجع‭ ‬لمؤرخين‭ ‬أمريكيين،‭ ‬يسرد‭ ‬الدكتور‭ ‬العكش،‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬التاريخ‭ ‬الإنجلو‭-‬أمريكي‭ ‬تم‭ ‬استعارة‭ ‬رمز‭ ‬‮«‬كنعان‮»‬‭ ‬لإضفاء‭ ‬القدسية‭ ‬على‭ ‬حروبهم،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬الحرب‭ ‬الاستعمارية‭ ‬الانجليزية‭ ‬الأولى‭ ‬على‭ ‬الإيرلنديين،‭ ‬ثم‭ ‬حرب‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬للشعب‭ ‬الهندي‭ ‬الأمريكي،‭ ‬وقرصنة‭ ‬الشعب‭ ‬الإفريقي‭ ‬واصطياده‭ ‬كالحيوانات‭ ‬والمتاجرة‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬أسواق‭ ‬العبيد‭... ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬حروبهم‭ ‬اللاحقة‭.‬

إن‭ ‬عقيدة‭ ‬‮«‬كنعنة‭ ‬الضحية‮»‬‭ ‬استمرت‭ ‬في‭ ‬فكر‭ ‬الإنجليز‭ ‬كسلاح‭ ‬رئيسي‭ ‬في‭ ‬حروبهم،‭ ‬حتى‭ ‬أُطلق‭ ‬عليها‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬ميتافيزياء‭ ‬كراهية‭ ‬الهنود‭ ‬The‭ ‬Metaphysics‭ ‬of‭ ‬Indian‭-‬Hating‮»‬،‭ ‬تعبيراً‭ ‬عن‭ ‬شدة‭ ‬الكراهية‭ ‬التي‭ ‬حملها‭ ‬الإنجليز‭ ‬للشعب‭ ‬الهندي‭ ‬الأمريكي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬‮«‬مراحل‭ ‬بناء‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الأمريكية‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬لازم‭ ‬الرجل‭ ‬الأبيض‭ ‬الأنجلو‭-‬أمريكي‭ ‬منذ‭ ‬ما‭ ‬قبل،‭ ‬وطوال،‭ ‬تاريخ‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬وسياساتها‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬والخارج‭... (‬رغم‭ ‬محاولات‭ ‬التقليل‭ ‬من‭ ‬الأعداد‭ ‬الحقيقية‭ ‬للهنود‭ ‬الحمر،‭ ‬وتضارب‭ ‬المعلومات‭ ‬حول‭ ‬هذه‭ ‬الاعداد‭ ‬عند‭ ‬وصول‭ ‬المستعمرين،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬المصادر‭ ‬الأمريكية‭ ‬تعترف‭ ‬إن‭ ‬العدد‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬112‭ ‬مليونا،‭ ‬مكونة‭ ‬من‭ ‬400‭ ‬أمة‭ ‬وشعب،‭ ‬لم‭ ‬يبق‭ ‬منهم‭ ‬مع‭ ‬بدايات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬سوى‭ ‬ربع‭ ‬مليون‭).‬

صاغ‭ ‬الرحالة‭ ‬ومؤسسو‭ ‬المستعمرات‭ ‬الانجليزية‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬تصوراً‭ ‬عاماً‭ ‬حول‭ ‬‮«‬احتكار‭ ‬الانجليز‭ ‬للحضارة‭ ‬مقابل‭ ‬همجية‭ ‬ووحشية‭ ‬من‭ ‬عداهم‭ ‬من‭ ‬الشعوب‮»‬،‭ ‬واعتبار‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬‮«‬الاختيار‭ ‬الإلهي‮»‬‭ ‬للشعب‭ ‬الانجليزي؛‭ ‬وهو‭ ‬التصور‭ ‬الذي‭ ‬انعكس‭ ‬في‭ ‬سياساتهم‭ ‬الاستعمارية‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬أربعة‭ ‬قرون،‭ ‬وحتى‭ ‬بدايات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭.‬

 

تطوير‭ ‬الذرائع‭ ‬الاستعمارية

وعلى‭ ‬وقع‭ ‬التغيير‭ ‬في‭ ‬السياسات‭ ‬الدولية،‭ ‬بدأ‭ ‬الانجليز‭ ‬بتغيير‭ ‬مصطلحاتهم‭ ‬من‭ ‬‮«‬الاختيار‭ ‬الإلهي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬بدأوا‭ ‬به‭ ‬متطلبات‭ ‬فلسفة‭ ‬‮«‬الثغور‭ ‬الحربية‮»‬‭ ‬الاستعمارية،‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬البقاء‭ ‬للأصلح‮»‬‭ ‬مع‭ ‬ظهور‭ ‬نظريات‭ ‬التطور‭ ‬لداروين،‭ ‬لتتحول‭ ‬مع‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية،‭ ‬ثم‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬إلى‭ ‬شعارات‭ ‬‮«‬الديمقراطية‮»‬‭ ‬وحوار‭ ‬الحضارات‭ ‬وقبول‭ ‬الآخر‭ ‬والتعايش‭... ‬شعارات‭ ‬جعلت‭ ‬العالم‭ ‬برمته‭ ‬ثغراً‭ ‬حربياً‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬مع‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬الواحد‭ ‬والعشرين‭ ‬الميلادي،‭ ‬محملة‭ ‬بفكرة‭ ‬أمريكا‭ ‬التي‭ ‬جاء‭ ‬بها‭ ‬المستوطنون‭ ‬الإنجليز‭ ‬الأوائل‭ ‬للقارة‭ ‬الجديدة،‭ ‬‮«‬احتلال‭ ‬أرض‭ ‬الغير،‭ ‬واستبدال‭ ‬شعب‭ ‬بشعب،‭ ‬وثقافة‭ ‬بثقافة‭ ‬وتاريخ‭ ‬بتاريخ»؛‭ ‬وهي‭ ‬الفكرة‭ ‬التي‭ ‬تمارسها‭ ‬أمريكا‭ ‬بأخلاقيات‭ ‬الانجلوسكسون‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬يرافقها‭ ‬من‭ ‬شعارات‭ ‬مهذبة‭ ‬مثل‭ ‬الحريات‭ ‬الليبرالية،‭ ‬أو‭ ‬التبادل‭ ‬الثقافي‭ ‬والتسامح‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬شعارات‭ ‬الخديعة‭ ‬الكبرى،‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬استخدامها‭ ‬بذكاء‭ ‬وحرفية‭ ‬في‭ ‬استراتيجية‭ ‬كسب‭ ‬العقول‭ ‬والقلوب‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة‭ ‬المؤلمة‭ ‬لعقيدة‭ ‬الاستعمار،‭ ‬وهي‭ ‬ذات‭ ‬العقيدة‭ ‬والمبادئ‭ ‬والأخلاقيات‭ ‬الفجة‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬سحق‭ ‬غزة‭ ‬وكافة‭ ‬المدن‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬وشعبها‭ ‬وهويتها‭ ‬وتاريخها‭ ‬وثقافتها،‭ ‬منذ‭ ‬7‭ ‬أكتوبر‭ ‬2023،‭ ‬ومنذ‭ ‬نكبة‭ ‬1948‭.‬

 

sr@sameerarajab‭.‬net

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا