آباء يختارون مستقبل أبنائهم رغما عنهم وآخرون يحرمونهم من طموحاتهم
تحقيق: فاطمة اليوسف
“ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟”.. من منّا لم يُسأل هذا السؤال؟
طُرح علينا جميعًا بالطبع، ومنا من أعلن رغباته ومنا من أعلن للملأ ما أخبره أبواه البوح به أمام الآخرين للتباهي والتفاخر بمهنة ابنهم أو ابنتهم مستقبلاً.
فيصبح وكأنه ملزم أمامهم وأمام الجيران والمقربين والأصدقاء بهذه التوقعات، مما يجعله في حالة صراع بين نفسه وبين قدراته وطموحاته. حالة صراع بين تحقيق أحلامه وبين تحقيق أحلام والديه. فكثيرا ما يكون هناك بون شاسع بين ما يرغب به الابن.. وبين ما يطمح إليه الأب أو الأم.
بالتأكيد سيكون لحالة الصراع هذه انعكاساتها السلبية سواء على نفسية الشخص أو مستقبله إذا ما اضطر إلى أن يرضخ لطموحات والديه وينساق إلى التخصص الذي يرغبون به هم.. لا إلى ما سعى اليه هو.
عمدنا هنا إلى أن نقف عند حالات مرت بهذه التجربة، ومرت عليها السنون.. ولكنها لم تزل تعاني من آثار هذا التحكم في مستقبل الابن.
ضحية الأهل
البداية مع عيسى. وهو شاب تأثر برأي والده الذي أجبره على العزوف عن رغبته بدراسة الطيران، مستخدما معه أساليب التشويق تارة.. والترهيب والتخويف تارة أخرى. ووصل الامر الى التهديد بالطرد من المنزل في حال إصراره على دراسة ذلك التخصص.
قال لنا عيسى وهو يسترجع ذكريات ذلك الموقف وكأنه حدث بالأمس القريب: حاولت مرارًا وتكرارًا إقناع والدي برغبتي الملحة في دراسة الطيران لكنه رفض رفضًا صارمًا وهددني بإعلان براءته مني لو عصيته.
وأضاف عيسى قائلاً: بعد الانتهاء من المرحلة الإعدادية نويت الالتحاق بالمسار العلمي أيضًا ولكن الأهل تدخلوا وأغروني للالتحاق بالمسار الأدبي. وفي المرحلة الثانوية حصلت على بعثة خارجية بدولة اجنبية بسبب تفوقي، ولكن أيضا منعني والدي مرة أخرى من قبولها بحجة الخوف على التزامي الديني، ثم التحقت بإحدى الجامعات بدولة خليجية وبقيت سنة كاملة لا أعرف أي تخصص أختار خصوصا وأن رغبتي الأولى قد مُنعت منها، وليس لدي أي تفضيلات أخرى وشعرت أنني عاجز وقد أغلقت الأبواب في وجهي. فالتحقت بتخصص عشوائي، ثم غيرت التخصص، وبعد فصلين دراسيين غيرت التخصص مرة أخرى لعدم رغبتني واقتناعي بأي تخصص آخر غير الذي كنت أحلم به.
مرت السنوات وتخرجت بتفوق، وعملت بشهادتي، ولكن مازالت الغصة تؤلمني، وما زلت أشعر أنني أستحق مستقبلا أفضل ولكن كنت ضحية تدخل الأهل في اختيار المستقبل.
حلم.. ولكن
لم يكن عيسى الضحية الوحيدة لتدخل أسرته في اختيار تخصصه بل هناك الكثير من القصص المشابهة التي قد تكون أكثر مرارة منه.
التقينا دانة التي أقسمت أنها منذ المرحلة الابتدائية لم تكن ترى نفسها إلا صحفية أو إعلامية تترك بصمتها أينما وُجدت. وكانت تمارس ذلك كله في الطابور المدرسي منذ الصف الخامس الابتدائي وكبرت وكبر معها حلمها وكان أهلها بالمنزل يظنونها تمزح بداية فتركوها وخيالها الواسع.
إلى أن جاءت اللحظة الحاسمة التي أخبرتنا عنها قائلة: بعد الانتهاء من المرحلة الإعدادية قررت الالتحاق بالمسار الأدبي لأنني أعلم أنه يخدم ميولي ورغبتي في الإعلام ولأنني أعشق اللغة العربية كثيرًا لكن والدي أجبراني على الالتحاق بالمسار التجاري الذي رفضته تماما لأنني لا أرى ذاتي فيه وبقيت الليل باكية لأنني لا أرى نفسي إلا بالصحافة أو الإعلام، لكن والدي كانت لهما نظرتهما في ذلك فرضخت لطلبهما والتحقت بالمسار الذي خططاه لي ثم أنهيت الدراسة الثانوية وفي الجامعة أيضًا اختارا لي تخصصًا إداريًا، لم أتعثر دراسيًا لكنني كنت أشعر أنني في دوامة عظمى.
أنهيت المرحلة الجامعية وعملت بإحدى الشركات المالية لكنني مازلت أُمني نفسي بذاك الحلم الذي سُرق مني.
حرمان من الدراسة
كثيرة هي الأحلام التي تُراودنا جميعًا ومنا من يتمسك بحلمه حتى آخر لحظة متحديًا الظروف ومنا من يرضخ لأحلام ذويه خوفًا من المشاكل.
فاطمة سيدة في السابعة والأربعين من عمرها قابلتنا بوجه بشوش تخفي وراءه ابتسامة منكسرة، أخبرتنا عن حلمها الأول فقالت: حين كنت في المرحلة الابتدائية كنت مهتمة بحصص الموسيقى والرسم كثيرًا وكان أحدهما حلمي الذي كنت أنوي السعي له فكلاهما فن يأسرني وبعد انتهاء المرحلة الثانوية وبعد علم أهلي بما كنت أنويه إما كلية الفنون أو الالتحاق بأحد المعاهد الخارجية لدراسة الموسيقى قامت الدنيا فوق رأسي ولم تقعد.
هُددت بالحرمان من الدراسة لو لم أعدل عمّا أفكر فيه وأجبرت على الالتحاق بكلية التربية لأكون مدرسة تربية إسلامية فكان لهم ما أرادوا لكنني لم أتمكن من مزاولة المهنة كثيرًا لأن ميولي فنية، واليوم كوني أمًّا فقد تركت مُطلق الحرية لبناتي لاختيار التخصص الذي يرغبن فيه، واجبي نصحهن لكنني لا أتدخل بشغفهن ولا أمنعهن منه أبدًا.
التجارب دائما ما تنضج العقول وتجعلها أكثر وعيًا، والإنسان بطبيعته يكتسب خبرته إما من خلال تجربة عاشها أو من خلال تجارب الآخرين وهناك من يكتسبها من علم توسع فيه وزاوله.
فبالمقابل، الكثير من الآباء وأولياء الأمور يتنازلون هم عن أحلامهم المتعلقة بأبنائهم، ويرضخون مسرورين لرغبة الأبناء وطموحاتهم.
أمل محمد منذ سمعت عن عنوان موضوعنا هذا أبدت رغبتها بالمشاركة رغم كثرة انشغالها. وحرصت على توجيه النصيحة فقد أخبرتنا أنها تؤمن بأن للرأي تأثيرًا قوياً في المجتمعات.
أخبرتنا أمل بأنها ترفض مسألة إجبار الأبناء على دراسة تخصص لا يتناسب مع ميولهم ورغباتهم، وأضافت بأنه من حق ولي الأمر أن يؤخذ رأيه ليقوم بدوره بنصح وإرشاد الأبناء وتوجيههم ولكنها ضد الإجبار وأكدت أن ميول الأبناء في اختيار التخصص تعكس أفكارهم وطموحاتهم لذا يجب على الوالدين تشجيعهم على اختيار التخصص الذي يرون أنهم يحققون من خلاله أهدافهم المرجوة.
وأضافت أمل أن إجبار الآباء أبناءهم على دراسة تخصص لا يميلون اليه قد يتسبب بإلقاء اللوم على الوالدين مستقبلا، وترى أن لذلك تأثيرا سلبيا على مستقبل الأبناء المهني لأن عملية الانتاج الحقيقية والتطور المهني تعتمد على الرغبة النابعة من الذات وطالما التخصص لا يتناسب وميولهم فلن يكونوا قادرين على التميز والعطاء.
ونصحت أمل محمد، الآباء بضرورة عدم إجبار أبنائهم على دراسة تخصص معين لما قد يترتب على ذلك من سلبيات كثيرة كالتي ذكرتها سابقا.
وفي السياق ذاته قال لنا طبيب الأسنان الدكتور صادق شرف: أنا أب ديمقراطي لا أجبر أبنائي على دراسة تخصص معين أبدا وعلى سبيل المثال فإحدى بناتي ترغب بدراسة الهندسة المعمارية فلم أمانعها بل شجعتها ومازلت أدعمها وهذا هو الحال مع جميع أبنائي، وأكد الدكتور أن التوافق الفكري بين ولي الأمر والأبناء يعزز اختياراتهم من دون تخبط ومن دون إجبار.
واختتم الدكتور كلامه بالقول: ابني شرف يدرس حاليا طب أسنان، لم أجبره أبدا على التخصص لكنني وجهته فرأيت أنه كان مستعدا لذلك أساسا ولو فرضا كانت له نية أخرى فلن أمانع أبدا، لأنني كما أخبرتكم بأنني أب ديمقراطي أؤمن بأن الإنسان لن يبدع أبدا ولن يتميز إلا في مهنة يحبها لذا فإنني حريص جدا على دعم ميول أبنائي والوقوف معهم في اختياراتهم.
و قال لنا أ. خالد عبدالمجيد، مدير مدرسة متقاعد: قد يشعر الأبناء بالإحباط وعدم الرضا إذا كانوا مجبرين على دراسة تخصص لا يتوافق مع اهتماماتهم أو ميولهم مما يؤدي الى انخفاض انتاجيتهم مستقبلًا ويؤثر أيضا على نفسيتهم بالإضافة إلى تأثير ذلك على العلاقة بين الأبناء والوالدين والذي قد ينشأ التوتر والصراع بين الأبناء والوالدين بسبب الخلافات وذلك بسبب شعور الأبناء بأن آرائهم ورغباتهم لا تُؤخذ بعين الاعتبار، مما يؤدي إلى فقدان الثقة في العلاقة الأسرية ونصح بأهمية التواصل بين الآباء والأبناء لفهم اهتماماتهم وميولهم وتشجيعهم مؤكدًا على ضرورة تقديم النصح والإرشاد والمعلومات بدلاً من الإجبار، مع الأخذ بعين الاعتبار رغباتهم ومستوى قدراتهم.
العولمة غيرت التوجهات
نعيش في عصر مليء بالتحديات على جميع الأصعدة هكذا استهلت الأستاذة سيما حاجي حديثها معنا قائلة: أتاحت العولمة للجيل الحالي الانفتاح على مصراعيه من جميع النواحي وهذا ما يجب علينا الانتباه اليه كأولياء أمور كي لا ندفع الثمن غاليا فيما بعد.
وواصلت حاجي بالقول: أنا كـ”ولية أمر” أرى أن لغة الحوار يجب أن تكون مفتوحة بين ولي الأمر وأبنائه ومن الضروري نصحه بأهم التخصصات المطلوبة في الوقت الراهن، وأضافت أن ولي الأمر القريب من أبنائه يدرك ميولهم وقدراتهم الشخصية وبإمكانه وضع خطة متكاملة لمستقبل ابنه دون استخدام لغة الإجبار.
وفيما يتعلق بتعاملها مع ابنتها قالت السيدة حاجي: لست من الأمهات اللاتي يجبرن أبناءهن على دراسة تخصص معين وأحرص على الجلوس مع ابنتي للحديث عن مستقبلها المهني وأحاول التوضيح لها عن متطلبات سوق العمل والتخصصات التي تحظى بإقبال في الوقت الراهن، لكنني مستحيل ان أجبرها على دراسة الطب أو الهندسة مثلا كما يفعل البعض، لأن لكل فرد قدراته وميوله ولكنني بالطبع لن أمانع لو جاءت وأخبرتني برغبتها في دراسة الطب أو الهندسة مثلا وبالعكس سوف أشجعها وأقف معها وأدعمها.
وتؤكد أ. سيما أنها دائما تدعم فكريا ذوي الشغف، ولكن هناك بعض الوظائف تتعارض مع البيئة المجتمعية للعوائل والأسر والعادات والتقاليد، مضيفة أن بعض التخصصات قد تتقبل دراستها لو أصرت ابنتها مثلا على ذلك، ولكن من غير الممكن أن تسمح لابنتها بتطبيقها كمهنة مستقبلية، كالميكانيكا على سبيل المثال، وأكدت حاجي أنها لا تنتقص من المهنة أبدا ولكنها كولية أمر لن تسمح لابنتها أن تمارس الميكانيكا وهي بنت حيث إن ذلك يتعارض مع البيئة المجتمعية وعادات وتقاليد الأسرة.
وأضافت حاجي أنها تؤمن بالمساواة بين الرجل والمرأة ولكن هناك بعض الوظائف لا تناسب طبيعة المرأة، مؤكدة أنها دائما توضح لأبنائها الفرق بين الهواية والشغف وبين مسار العمل قائلة: لو رأيت أن ابنتي لديها شغف بــ “الميك أب” مثلا فلن أدفن ميولها ولكنني سأطلب منها اختيار تخصص رئيسي للحصول على شهادة تعمل بها كوظيفة رئيسية وفيما يتعلق بحب الميك أب سوف ألحقها بدورات لتعزيز هوايتها وتنمية شغفها فقط.
وأكدت سيما حاجي أن انتشار العولمة والذكاء الاصطناعي والسوشيال ميديا أثرت بشكل كبير على توجهات الجيل الحالي، ما أثر على توجهاتهم لتحقيق الربح السريع كالوظائف التي تتعلق بالتسويق و”البلوجرز” فالشباب الآن يقارن كثيرا بين راتب الموظف الذي يعمل 8 ساعات متواصلة وبين (طلعة واحدة) لأحد المشاهير التي يحقق منها ما يفوق راتب الموظف بثلاثة أضعاف أو أكثر، وللأسف هذا هو تفكير الكثير من شباب الجيل الحالي وليس الكل بالطبع، فهناك أيضا الكثير ولله الحمد مازالوا يفكرون جيدا ويسعون لوظائف تليق بقدراتهم وميولهم ويسعون للتطور الوظيفي.
تخصص عقيم
هذا الموضوع ناقشناه مع المستشار الأسري والتربوي حمد الخان الذي أكد تأكيدًا تامًا بأن إجبار الأبناء على دراسة تخصص لا يتناسب مع ميولهم بمثابة دراسة تخصص عقيم لأنه يضيع سنوات من عمر الأبناء ويفقدهم هويتهم الخاصة بسبب السعي لتحقيق آمال وأحلام الوالدين، وأضاف الخان أن ذلك يفقد الأبناء شعور تحمل المسؤولية لأن الطالب يحتاج أن يعتمد على نفسه ويختبر نفسه بالتجارب ويكتشف ما يميزه عن غيره ويركز عليه ويطوره، ولكن للأسف بعض الآباء أو الأمهات لا يتركون للشاب هذه المساحة الخاصة حتى يتعلم ويختبر نفسه وينطلق فيما يرغب فيه.
وأضاف الخان أنه يؤيد بشدة توجيه ونصح الأبناء من دون محاولة فرض الرأي عليهم موضحًا أن إجبار الأبناء على اختيار تخصصات معينة دون السؤال عن رغباتهم أو ميولهم سينعكس سلباً على إنتاجيتهم وأدائهم بحيث يفكر في العمل للعمل فقط ولا يفكر كيف يساعد مجتمعه أو يترك بصمته أو يكون له أثر مميز ولن يكون قادرًا على تطوير ذاته ما دام يعمل فيما لا يتناسب وشغفه واهتماماته وميوله، وربما يصبح كارهًا لعمله أو لوضعه بعد التخرج بسبب دراسته تخصصا لم يختره أساساً.
وفي السياق ذاته ذكر لنا الخان، حالة كانت لأم ألزمت ابنتها دراسة الطب بحجة أن اخوانها أو اخواتها أطباء، وأكد أن هذه العقدة النفسية لازالت موجودة لدى البعض، عقدة التشابه، كونهم أسرة يجب أن يتشابهون في كل شيء وهناك من يرون أن دراسة تخصص معين دون سواه سيجعل الناس تحترمهم أكثر.
أما الحالة الثانية التي ذكرها فكانت لأب لم يستطع إكمال دراسته الجامعية وأجبر ابنه على استكمال الدراسة في تخصص لا يتناسب مع قدرات الشاب، وكل ذلك لأن الأب كان يرى أن التخصص مطلوب في سوق العمل وأنه مهم، ولكن ما فعله الشاب هو أنه ترك الجامعة بعد سنتين من الدراسة لأن دراسة ذلك التخصص كانت صعبة بالنسبة له ولم يتمكن من المواصلة ولا يرغب فيه، مما تسبب بغضب الأب الذي لا يزال يذكره فيه مرارا لأنه لم يحقق ما أراده منه.
واختتم الخان كلامه ناصحًا أولياء الأمور بضرورة إلحاق أبنائهم بالمعسكرات والأنشطة الصيفية لأن ذلك سيساعدهم على اكتشاف مهارتهم وميولهم وقدراتهم ويمكنهم من شق طريقهم كما أكد ضرورة التركيز مع الأبناء على ثلاثة أمور وهي الرغبة والفرص في سوق العمل والقدرة، ويجب التركيز دومًا على أن هذه هي حياتهم ومسيرتهم ومستقبلهم ومسؤوليتهم، لذا يجب عدم حرمانهم منها بفرض أي رأي أو سيطرة. جولة مختلفة من الآراء أحصيناها لكم من خلال هذا الموضوع الذي أكد لنا خلاله ذوو التجارب والخبرة وأهل الاختصاص أن الحل الأمثل هو الحوار والنصح وتقديم المشورة بدلا من الإجبار وحقيقة فالكثير من الأسر تعتقد أن التخصصات الصعبة هي المعيار الذي يجعل الأبناء ناجحين مهنيا، وهذا الاعتقاد يضع الابن أو الابنة في صندوق مغلق مليء بالحِمل والثقل والصعوبات، مما يؤدي إلى التدني الواضح في المستوى التعليمي لديهم والأداء المهني مستقبلاً.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك