37.5 مليون يوم إنتاجي و3.5 مليارات دولار خسائر دول الخليج سنـــويا بــســـبـب الأمـراض النفسية
القلق والاكتئاب والوسواس والرهاب أكثر الأعراض النفسية انتشارا في بيئات العمل في دولنا
دراسة: من يعانون اضطرابات نفسية يفقدون 10 سنوات من مسيرتهم المهنية
وأخرى: برامج تعزيز الصحة النفسية في بيئة العمل تزيد الإنتاجية بنسبة 80%
تداعيات الأعراض النفسية تؤدي إلى تدهور الأداء المعرفي والإنتاجي والتركيز والانتباه والذاكرة والتفكير الإبداعي
أقل من ثلاثة أطباء نفسيين لكل 100 ألف شخص في المنطقة
د. طارق المعداوي: 40% من كل شعب يحتاجون إلى علاج نفسي 5% منهم فقط يلجأون إلى العيادات المختصة
د. أكبر جعفري: السبب الرئيسي لتدهور الحالة النفسية للموظف وإنتاجيته هو المدير النرجسي والميكافيلي
أكدت دراسةٌ نشرتَها «فوربس الشرق الأوسط» أن دولَ مجلسِ التعاون الخليجي تفقدُ ما لا يقل عن 37.5 مليونَ يوم إنتاجي سنويًّا إثر تداعيات الأمراض النفسية، بما يعادل 3.5 مليارات دولار من خسائر الإنتاجية، وهي تكلفةٌ باهظة للغاية ولا يمكن تجاهلُها، وتعد تهديدًا خفيًّا من شأنه أن يقوض تقدم دول المنطقة ويلقي بظلاله على الاقتصاد.
ولفتت الدراسةُ التي أعدتها شركة برايس ووترهاوس كوبرز، إحدى أكبر شركات الخدمات المهنية ومراجعة الحسابات في العالم، إلى أن نحو 15% من السكان في دول مجلس التعاون يعانون من اضطراباتٍ نفسية كل عام. وبالمقابل تواجه المنطقةُ نقصًا حادًا في المختصين بمجال الصحة النفسية، حيث لا يوجد سوى 2.85 طبيب نفسي لكل 100 ألف شخص في دول مجلس التعاون الخليجي الست.
فيما تتجاوز الخسائر العالمية بسبب الحالات النفسية كالاكتئاب والقلق والتوترات تريليون دولار سنويًّا.
من جانب آخر، أكد تقرير لشركة الخدمات المهنية العالمية «ديلويت توش توهماتسو» أن كل دولار يُستثمر في مجموعة شاملة من التدخلات في مجال الصحة النفسية يعود بفوائد صحية واقتصادية تبلغ 24 دولارًا على مدى 80 عامًا.
فيما كشفت دراسة حديثة أجرتها جامعة أرهوس الدنماركية وشملت بيانات 5 ملايين شخص، أن الأشخاص الذين يعانون اضطرابات نفسية يضيّعون سنوات عمل طويلة من حياتهم المهنية، وهو ما يستوجب تقديم الدعم لهم، تفاديا لأن يتفاقم الوضع داخل بيئة العمل، لأن من يعانون اضطرابات نفسية، يفقدون ما معدله 10 سنوات من مسيرتهم المهنية.
وهذا ما تؤكده أرقام منظمة الصحة العالمية والتي تشير إلى أن العالم يخسر 12 مليار يوم عمل في السنة، بسبب اضطرابات الصحة النفسية للموظفين والعمال.
ليس هذا فحسب، بل إن الباحثين وجدوا أن هناك علاقة بين الضغوط النفسية لدى الموظف والعامل وارتكابه التخريب المتعمد سواء بالأجهزة الإلكترونية أو الإسراف في الاستهلاك في العمل كالورق والمستلزمات المكتبية وغيرها. كما يتسم الموظف الذي يعاني من ضغوطات نفسية بالغضب السريع والسخرية والاستهزاء من كل شيء.
وإلى جانب العوامل الخارجية التي تؤثر في الصحة النفسية للموظف، يلخص المختصون عددا من النقاط المرتبطة ببيئة العمل والتي يمكن أن تسبب تداعيات نفسية تنعكس سلبا على الإنتاجية، ومن ذلك ظروف العمل المادية غير الآمنة، عدم وضوح الدور الوظيفي، الافتقار إلى الترقيات أو المبالغة فيها، نقص المهارات الكافية للعمل، أعباء العمل المفرطة أو العمل ساعات طويلة وعدم المرونة، وجود ثقافة تكرس السلوكيات السلبية في المؤسسة، غياب الدعم من قبل الإدارة أو الزملاء، انعدام الأمان الوظيفي، عدم كفاية الأجور، ضعف الاستثمار في التطوير الوظيفي.
نماذج من الواقع
أرقام ودراسات أقل ما توصف بأنها مقلقة ومخيفة، لاسيما فيما يتعلق بالعلاقة ببين الحالة النفسية وتراجع الإنتاجية ومن ثم الخسائر التي تتكبدها المؤسسة.
خلاصة محاولاتنا لتقصي هذا الأمر على أرض الواقع، كانت مفاجئة إذ إن أغلب الأشخاص يعانون من الأعراض ومن نقص الإنتاجية في كثير من الأحيان، ولكن لا يعترفون بأنها تداعيات نفسية. فيما أقر آخرون بأنهم يشعرون بحاجة إلى علاج نفسي فعلا وأنهم غير راضين عن أدائهم وإنتاجيتهم.
أحد المواطنين كان يعمل مسؤولَ مبيعات في إحدى الشركات الكبرى، تسلم المنصب، وكان سعيدا به وواثقا من قدراته. يشرح مشكلته قائلا: «طلبت الإدارة مني تحقيق مبيعات جيدة. وبالفعل خلال عامين استطعت تحقيق ارتفاع في المبيعات تجاوز 200%. وتوقعت أن ألقى الإشادة الكافية والمكافآت السخية. ولكن خلال اجتماعي مع الإدارة، وبعد الإشادة بجهودي، صدمت بأنهم طلبوا مني تحقيق ارتفاع في المبيعات لا يقل عن 400%. من دون خطة واضحة ولا استراتيجية مرسومة، أي ألقوا المسؤولية على كاهلي فقط.
ومنذ ذلك الحين بدأت أعاني من ضغط شديد نتيجة الشعور بالمسؤولية والقلق المتزايد. وتدريجيا صرت أشعر بأن أدائي في العمل انخفض وأنني غير قادر حتى على تحقيق ذات الإنتاجية التي كنت عليها. ومع تفاقم الحالة النفسية وكره العمل، اتخذت قرارا جريئا وتقاعدت عن العمل تماما!».
مسؤول في أحد مواقع العمل، يعاني منذ ستة أشهر من مشاكل في النوم، وراجع العديد من العيادات. حصل على بعض العلاج ولكن من دون جدوى. المشكلة كما يؤكد المسؤول أنه منذ بدأت المشكلة صار يلمس تراجعا في إنتاجيته بشكل مقلق، حيث يعجز عن الحصول على قسط كاف من النوم، وعندما يذهب إلى العمل لا يمكنه التركيز بالشكل الكافي. واليوم باتت إنتاجيته كما يؤكد لا تتجاوز 20% مما كانت عليه. وبعد هذه الأشهر اقتنع أنه يعاني من مشكلة نفسية، ومع مراجعة الطبيب المختص اكتشف أنه يعاني من اضطراب القلق، وبعد هذه المدة الطويلة من دون علاج مناسب تحولت المشكلة إلى مرض مزمن.
الترقية هي السبب!
حالة غريبة أخرى، وعلى عكس العادة. لم تكن المشكلة حصول الموظف على إنذار أو توبيخ أو جزاء في وظيفته، بل حصل على ترقية. ولكن كانت هذه الترقية سببا كافيا لأن يصل إلى العيادة النفسية. فنتيجة للشعور بالمسؤولية والقلق من عدم القدرة على تحملها، تحول الأمر إلى أعراض نفسية بدأت تتفاقم، وهذا ما صار يؤثر في إنتاجية هذا الموظف الذي كان واعيا بشكل جيد ولجأ في وقت مبكر إلى الاستشاري النفسي.
وعلى الوتيرة ذاتها، تشكو موظفة في السابعة والعشرين من عمرها من تأثر صحتها الجسدية والنفسية وتبعا لذلك إنتاجيتها. تقول محدثتنا: «أقضي غالبية وقتي في العمل، وطبيعة العمل مليئة بالضغوط النفسية التي تؤثر بشكل مباشر في صحتي الجسدية، وهذا ما يدفعني إلى تبني عادات غير صحية مثل التدخين وتناول الطعام غير الصحي وبكثرة بسبب التوتر. هذا الأمر أدى بي في النهاية إلى الشعور بالاكتئاب والعزلة. وكل هذه العوامل معًا أثرت سلبًا في إنتاجيتي. وأحيانا أضطر إلى أخذ إجازة مرضية بسبب ما أعانيه من توتر، عدا تحول الأمر إلى مشكلات صحية أبرزها تضرر في المعدة».
وتشرح لنا مسؤولة بإحدى المؤسسات التعليمية حالتها النفسية، لافتة إلى أن عدم انسجامها مع بيئة العمل انعكس على أخلاقها ليس مع زملائها فحسب وإنما حتى مع أصدقائها وعائلتها. ومع تفاقم المشكلة أصبحت على قناعة بأنها تعاني من اضطراب القلق المزمن. والمشكلة أنها لا تستطيع تحقيق إنجاز يذكر في العمل، وفي الوقت نفسه تراجعت إنتاجيتها بشكل ملحوظ مقارنة بالسنوات والوظائف السابقة.
الواقع أسوأ
عقب هذه الجولة والرحلة بين الدراسات والبحوث والحالات الواقعية، نعود إلى المختصين في هذا الشأن لتحليل المشكلة والعلاقة بين الحالة النفسية والإنتاجية. وكانت وجهتنا الأولى عيادة استشاري الطب النفسي الدكتور طارق المعداوي، لنسأله عما إذا كانت الإحصائيات هي أن دول المنطقة تفقد ما لا يقل عن 37.5 مليون يوم إنتاجي سنويًّا و3.5 مليارات دولار بسبب تداعيات الأمراض النفسية، هي أرقام مبالغ فيها، وهذا ما أجاب عنه قائلا: «أبدا، ليس فيها أي مبالغة، بل على العكس -يجيبنا الدكتور طارق مباشرة، ويضيف: أن الأمراض النفسية لها تكلفة مباشرة وأخرى غير مباشرة، فمثلا المستشفيات والأدوية والتحاليل والفحوصات تكون تكلفة مباشرة. ولكن التكلفة غير المباشرة تكون أكبر، ومن ذلك عدم الانتظام في العمل وعدم الإنتاج والتأثير في الأسرة وعلى المحيطين. فوجود مريض نفسي واحد يعني أن الأسرة كلها تعاني وليس هو فقط، والأمر نفسه ينسحب على بيئة العمل.
علما بأن هناك أنواع من الأمراض النفسية، فهناك الأمراض العقلية مثل الذهان والاضطراب ثنائي القطب، وهي أمراض شديدة تتسبب في تدهور شخصية المريض وتجعله منفصلا عن الواقع ولا يتواصل مع الآخرين. وهنا تكون النتائج معروفة، فغالبا من يعاني هذه الأعراض لا يعمل ولا ينتج ويكون منعزلا.
ولكن المشكلة في الأمراض النفسية الأخرى التي تؤثر في إنتاجية الشخص وفي الوقت نفسه يعتبر موظفا وينتظر منه إنتاجية، مثل اضطراب القلق والرهاب والاكتئاب والوسواس القهري. فمن يعاني من هذه الأعراض تتأثر ذاكرته وتركيزه. وبالتالي يعد ذهابه إلى العمل من عدمه سواء، أي حتى لو وجد في العمل فإن إنتاجيته متدهورة أو لا تكون هناك إنتاجية إطلاقا، ولو أعطيته مهمة تحتاج إلى ساعة قد يتطلب الأمر منه أياما لأنه يفتقد إلى التركيز.
وتزداد المشكلة مع الاكتئاب والرهاب الاجتماعي، وهذا الأخير تحديدا يجعل الشخص لا يستطيع التعامل مع الآخرين، فكيف ننتظر منه إنجازا. وهي حالات للأسف منتشرة لدينا».
5% فقط!
يتابع الدكتور طارق: «البحوث العلمية تؤكد أن 40% من كل شعب يحتاج إلى علاج نفسي، ولكن للأسف من يتجه إلى الطبيب النفسي فعلا هو 5% فقط من هؤلاء ولذلك لأسباب، منها وجود وصمة أو نظرة سيئة للمريض النفسي. والأمر الآخر أن المرض النفسي يبدأ بأعراض عضوية. فمثلا 70% من أعراض مرض الاكتئاب تبدأ بآلام. أي أن الآلام أحد أعراض الاكتئاب مثل الصداع والقولون. وهذا ما يعني أن المريض يذهب إلى الطبيب العام في البداية، ويحصل على علاجات ولكن السبب موجود وبالتالي لا يكون هناك تحسن.
هنا نجد أن نسبة كبيرة تتجه إلى المعالجين الروحانيين، وأحيانا إلى من يتعاملون بالسحر. وهذه مشكلة عالمية. وقد تستغرق هذه الرحلة مدة طولية تتجاوز أحيانا العام أو العامين، بحيث يصبح المرض مزمنا. وهنا يقتنع البعض أن عليه التوجه إلى الطبيب النفسي بعد أن باتت تداعيات الأعراض النفسية تؤدي إلى تدهور الأداء المعرفي والإنتاجي والتركيز والانتباه والذاكرة والتفكير الإبداعي.
* ما أكثر الأمراض النفسية انتشارا في بيئات العمل لدينا والتي قد لا تكون واضحة للجميع؟
** كما أسلفت، من أبرز الأعراض النفسية هو اضطرابات القلق، والاكتئاب، ثم يأتي الرهاب الذي يمثل مشكلة حقيقية لموظفين، وهو من أكثر الحالات انتشارا، حيث يشعر الشخص فجأة بضيق التنفس والاختناق وخفقان القلب والدوار ويتم نقله بالإسعاف، ولكن لا يتم تشخيص أي مرض عضوي. وهذا الرهاب من أكثر ما يؤثر في الإنتاجية، وهو يعد نوعا من أنواع القلق الحاد.
وهناك أيضا الوسواس القهري الذي له تداعيات نفسية تؤثر بشكل مباشر على الإنتاجية.
* مع التسليم بخطورة التداعيات النفسية على الإنتاجية، ما أسباب انتشار هذه الأعراض لدى الموظفين بشكل عام؟ هل هي بيئات العمل مثلا؟ أو ضغوطات الحياة؟.
** المرض النفسي يعد مرضا عضويا بالمقام الأول، وأعني بذلك أنه لا بد أن يكون لدى الشخص استعداد عضوي على شكل استعداد وراثي أو مشاكل في الجينات مثل خلل كيميائي. ثم تأتي الظروف التي يمر بها الإنسان بدءا من مراحل حياته الأولى وطبيعة البيئة الأسرية والاجتماعية التي عاشها والصدمات التراكمية التي تعرض لها.
وبالتالي ينشأ المرض النفسي في مراحل، أولها الاستعداد الجيني البيولوجي والوراثي، ثم تأتي التراكمات السيكولوجية، ويتبع ذلك حادث أو موقف. لذلك كثيرا ما نجد مرضى يؤكدون أنهم أصيبوا بحالة اكتئاب أو اضطراب القلق نتيجة فقد أحد الأقارب أو موقف معين. وعند الغور في حالة الشخص والتاريخ المرضي نجد أن هناك تراكميات منذ الطفولة مثل مشاكل في المدرسة والأسرة وغيرها، مع وجود استعداد بيولوجي أو جيني، ثم يأتي الحدث الأخير وهو فقدان القريب الذي فجر المشكلة وأدى إلى ظهور الأعراض.
والأمر نفسه بالنسبة إلى الموظف. فقد تكون تراكمات الحياة هيأت المشكلة، ثم تأتي إشكالية في العمل أو في الخارج أظهرت تلك الأعراض. هل تتصور أن الترقية قد تكون سببا في اضطراب القلق؟ فهناك حالات مرضية تراجعني بسبب الترقية وليس العقاب، حيث إن الشعور بالمسؤولية يضاعف حالة القلق، ومع تفاقم هذا الشعور يتحول إلى أعراض نفسية تؤثر في صحة الفرد وبالتالي في إنتاجيته.
لذلك ننصح أرباب العمل دائما أن يركزوا على خلق ظروف عمل لينة ومرنة، وأن يهيئوا الموظف بشكل كاف لأي موقف أو حدث بما في ذلك الترقيات والجزاءات. فالعقوبة تتطلب الجلوس مع الموظف وشرح الأسباب والسماح له بالتعبير عن وجهة نظره، حتى يخرج وهو لا يشعر بالظلم الذي ينعكس على نفسيته، ومع الأيام على إنتاجيته.
فمراعاة الجانب النفسي والإنساني أساس في سلامة بيئة العمل، لذلك نجد دولة كاليابان مثلا، تخصص المؤسسات فيها برامج نفسية ممنهجة لكل الموظفين، بما في ذلك ممارسة الرياضة خلال فترة العمل. فالدراسات العلمية، تؤكد أن الرياضة تزيد من الإنتاجية الفكرية 50%، لذلك نجدهم يوقفون العمل ويطلبون من الموظفين ممارسة الرياضة فترة محددة في موقع العمل نفسه.
كما تخصص تلك المؤسسات برامج دعم نفسي. لأن الدراسات تؤكد أن الإنتاجية ترتبط مباشرة بالحالة النفسية، وكلما تأثرت الحالة النفسية تدهورت الإنتاجية، والعكس صحيح. فكل الوظائف فيها ضغوط ومتطلبات، وكلما كان الموظف مدعوما نفسيا أمكنه التعامل مع تلك التحديات بسلاسة.
كما تؤكد التجارب والأبحاث أن برامج تعزيز الصحة النفسية في بيئة العمل تزيد من الإنتاجية بنسبة 80%.
ومما يدعم هذا الجانب هو الوضوح في بيئة العمل ووجود قواعد ثابتة وليست مزاجية، بحيث يكون الموظف على دراية كافية بالعقوبات وبالحوافز في حال قيامه بأي عمل أو أي خطأ. أي هذا الخطأ يؤدي إلى هذا العقاب، وهذا الإنجاز يؤدي إلى هذه المكافأة. وأسوأ ما يقع فيه الموظف هنا هو أن يكون فريسة لفرضية (ماذا لو؟)، بمعنى ألا يكون رد الفعل الإداري أو من المسؤول واضحا.
في الوقت نفسه يجب ألا نغفل عن اللجوء إلى العلاجات المناسبة عند وجود بوادر مشاكل نفسية أو إنتاجية، مثل العلاجات الجمعية والمحاضرات التوعوية بالأمراض النفسية.
* بماذا تختلف شخصية الموظف المنتج عن غيره؟
** أولا الثقة بالنفس. وثانيا الاستقرار النفسي نتيجة المعرفة الكافية ببيئة العمل ووضوح الرؤية والقواعد بما في ذلك الثواب والعقاب. وكذلك يتميز بأنه يعرف قيمة العمل الذي يؤديه وما ينتجه. وهذا ما ننصح به دائما وهو أن يقتنع العامل بأن إنتاجه مفيد له ولأسرته ولمجتمعه ولوطنه. وهذا الشعور يزيد من الإنتاجية.
علما بأن هناك بعض المؤسسات وحتى المدارس والجامعات لدينا تضم أخصائيين اجتماعيين ونفسيين يتابعون حالة الموظفين ويحولونهم إلى الطبيب النفسي مباشرة. وهذا أمر نفخر به فعلا ونتمنى أن تعمم التجربة، فالحرص على الصحة النفسية للموظفين أمر غاية في الأهمية للعمل وللموظف.. وهذا دور تتحمل مسؤوليته إدارات الموارد البشرية إلى حد كبير، وهي مسؤولية وطنية. فمن جانب الموظف في الأخير مواطن. ومن جانب آخر إن السلامة النفسية وزيادة الإنتاجية ينعكس على الاقتصاد وعلى الوطن إجمالا.
* ما نصيحتك لمن يشعر بأنه يعاني من تداعيات نفسية تؤثر في إنجازه وإنتاجه في العمل وفي الحياة بشكل عام؟
** اللجوء إلى العلاج مباشرة ومن دون أي تأخير. فالاكتشاف المبكر وسرعة التدخل تسهل الحل بشكل كبير وهو أول طرق التعامل مع إشكالية انخفاض الإنتاجية. في حين أن تجاهل العلاج يؤدي كما أشرت إلى أمراض مزمنة ومتشعبة وقد يتطلب أن نواصل العلاج طوال العمر. ومن المهم تأكيد أن العلاجات النفسية لا تؤدي كما يتصور البعض إلى الإدمان أو أي انعكاسات سلبية أخرى طالما تؤخذ بإشراف الطبيب المختص بالطريقة السليمة. فمن المشاكل التي نواجهها أن ننصح المريض بكورس علاج مدة ستة أشهر مثلا، ولكنه يتوقف بقرار شخصي بعد مدة نتيجة سماعه أقاويل أو تصورات خاطئة عن العلاجات النفسية. وبعد أن يضطر إلى العودة إلى العلاجات لا يستجيب لها لأنه بات بحاجة إلى أدوية أقوى بسبب الانتكاسة.
وإجمالا يمكنني القول إن المريض النفسي وللأسف الشديد مظلوم في دولنا بسبب النظرة السلبية الخاطئة إليه. وهنا تكمن المشكلة. فالمرض النفسي لا يختلف عن أي مرض عضوي آخر.
هل تعلم أن قائمة منظمة الصحة العالمية حول أسباب الإعاقة عالميا، كان السبب الأول هو الاكتئاب؟ وليس السرطان أو أمراض القلب والضغط وغيرها. ومن بين قائمة أكبر عشرة أسباب تقود إلى الإعاقة، نجد أن أربعة منها نفسية. وهذه أرقام مخيفة ومقلقة يجب التوقف عندها مطولا. من هنا نحن لا نتحدث فقط عن انخفاض إنتاجية الفرد في العمل وإنما ضياع وانخفاض الإنتاجية على مستوى الأسرة والمجتمع والعمل والعلاقات الاجتماعية.
أرقام متحفظة
يرتبط الموضوع بشقين، الشق النفسي والآخر الاقتصادي والإنتاجي، وهذا ما دفعنا إلى نقاش الأمر مع الاقتصادي، وخبير الإدارة الإنتاجية، المدير التنفيذي لمؤسسة جفكون لتحسين الإنتاجية الدكتور أكبر جعفري. ونبدأ معه بالسؤال نفسه الذي طرحناه على الدكتور طارق المعداوي، هل تجد أن أرقام الدراسة حول منطقة دول مجلس التعاون مبالغ فيها أم تعكس الواقع بدقة.
يجيبنا الدكتور جعفري: «في اعتقادي أن هذه الأرقام متحفظة نوعا ما، وهي تعكس ما تم رصده فقط، والواقع أسوأ من ذلك لأن الأمر مبطّن ومتشعب. فمع الأسف الشديد إن الحالة النفسية في مواقع العمل لم يتم الاهتمام بها حتى ولو بشكل خفيف سواء من قبل منظمة العمل الدولية أو الشركات أو المسؤولين. فمنظمة العمل الدولية مثلا تضع حوالي 44 معيارا مؤثرا في الإنتاجية، نجد من بينها ثلاثة عوامل فقط تتعلق بالحالة النفسية وبشكل خجول، وتركز على تأثير رتابة العمل في نفسية العامل. في حين أن الأدلة العملية الدامغة تؤكد أن هناك علاقة طردية مباشرة وقوية بين الحالة النفسية للموظف وإنتاجيته، ولكن قد تكون الآثار مبطنة وغير مكشوفة. علما بأن معدل تدهور الإنتاجية يبلغ 72% في كثير من مواقع العمل، وتمثل الأسباب النفسية بين 40%-60% من هذه النسبة. بل وحتى حوادث العمل يعود 40% منها إلى أسباب نفسية.
وهنا من الضروري أن نشير إلى أن أحد أسباب هذا القصور في الاهتمام بالجوانب النفسية هو أن بيئة العمل تعد بيئة دخيلة على البشرية ولا يتجاوز عمرها أربعة قرون. فأول شركة أسست في العالم كانت شركة الهند الشرقية الهولندية المتحدة عام 1602. وهي تمثل الجناح التجاري للاستعمار الهولندي، وكان أغلب الإداريين في الشركة عسكريين. وبالتالي تمت إدارتها بنمط عسكري. للأسف مازال النمط العسكري هو السائد في أغلب الشركات ليس على مستوى المنطقة فحسب وإنما في العالم كله.
وفي 1907 وضع خبير فرنسي (هنري فايول) والذي يعد من علماء الإدارة، نموذجا من 14 عاملا لتحسين الإنتاجية وأيضا لم يكن هناك عامل واحد يتعلق بالجوانب النفسية. وفي 1943 بدأ ابراهام مازالوا بالحديث عن تأثير العوامل النفسية. وهذا ما يفسر أن خبرة الإنسان في إدارة بيئة العمل تعد قليلة مقارنة بالعلوم الأخرى كالطب والجغرافيا والعلوم وغيرها.
المسؤول النرجسي
وهنا نجد أن الشركات تركز على الجانب المادي فيما يتعلق بتحسين الإنتاجية، وحتى لو تحدثت عن الجانب النفسي نجدها تتحدث في قمة الهرم عن إدراك الذات والقيمة الذاتية. ولكن نادرا ما نجد تفهما واعيا لطبيعة ذلك. بل حتى الدورات وورش العمل المتقدمة نجدها تركز على الاستراتيجيات المادية، وبالتالي المدير والمسؤول الذي يشارك فيها يكون أسوأ عندما يعود إلى أنه يعتمد على خطط عمل واستراتيجيات تركز على الجانب المادي مع غياب الجانب الأهم وهو الجانب الإنساني والوجداني الذي يعد رأس الهرم في الأولويات.
أمام ذلك كله نجد أن تدهور الإنتاجية يعود بشكل أساسي إلى الجوانب النفسية والوجدانية والإدراكية. وهي جوانب شبه مهملة، فيما يطغى النظام الفني والمادي على بيئة العمل، مع سيادة نظام السيطرة المطلقة التي يتبعها التخوف والقلق من قبل الموظفين. وكما أشرت هذه مشكلة عامة في كل دول العالم.
والمشكلة أن هذه المشكلة أصبحت ظاهرة مقبولة في بيئات العمل، وتحول الوظيفة إلى عبودية ولكن بشكل مزّين ومنمق.
وهنا يمكنني القول إن السبب الرئيسي لتدهور الحالة النفسية ومن ثم الإنتاجية هو المدير النرجسي والميكافيلي. (الشخص الذي يتميز بسلوكيات غير مقبولة قائمة على الانتهازية والتضليل والسيطرة على الآخرين في سبيل تحقق الغايات أو المصالح الشخصية). فمثل هذا الشخص ليس لديه اعتبار للجوانب الإنسانية وإنما يركز على الإنتاج بأي ثمن. ويدير العمل بمزاجية وبقرارات فوقية غير قابلة للنقاش. صحيح أن هذا النمط قد يحقق في البداية إنتاجية عالية، ولكنها نتائج مرحلية غير مستدامة. لذلك تجد أن الشركات الخاسرة غالبا ما تتميز بهذا النوع من الإدارة.
لذلك كما نحاول أن نحمي العاملين من حوادث العمل، يفترض أن نوفر لهم الحماية النفسية في بيئة العمل. وهذا يكون بالقانون للحد من التصرفات النرجسية للإدارات لأن الإساءة النفسية أسوأ من الإساءة البدنية. ومتى ما وفرنا الأمان والاستقرار النفسي سنلمس تطور الإنتاجية بشكل مباشر.
فيمكن القول إن الموظف هو الحلقة الأضعف وهو الضحية في الغالب. وطالما لم يكن مقصرا في عمله بشكل تعمدي وبيّن، فإننا لا يمكن أن نلومه على تدني الإنتاجية، بل يجب أن نبحث في طبيعة بيئة العمل مهما كانت ادعاءات المديرين بأنه كسول أو غير منتج.
* أشرت إلى أن المشكلة عالمية وليست في الخليج فقط. ولكن إذا ما قارنا الوضع النفسي في بيئات العمل لدينا بالدول الأخرى، هل تجده أفضل أم أسوأ؟
** قد يكون أفضل نوعا ما بسبب الأخلاقيات والتعاليم الدينية وليس بسبب الإدارات. فدول المنطقة تصنف ضمن ثاني أفضل مجموعة في التعامل بعد الدول الاسكندنافية، ولكن يجب ألا نقارن أنفسنا بمن هو أسوأ.
ثم إن هذه العوامل الأخلاقية تعد عوامل خارجية وليست ضمن جوهر الإدارة في مواقع العمل، وهذا ما نفتقره بشكل واضح. نعم هناك مبادرات من قبل بعض الشركات المعروفة في البحرين، ولكنها تبقى جهود غير ممنهجة، ولا تركز على إلغاء أسلوب أو عقلية المدير النرجسي التي يجب أن تحارب وتلغى تماما.
* ولكن كثير من الموظفين يشكون من عوامل أخرى قبل الجانب النفسي، مثل ضغط العمل أو ضغوطات الحياة؟
** في بيئة العمل الصحية يجب ألا يكون هناك ما يسمى بضغط العمل، وحتى هذه المشكلة تعود في الأخير إلى نمط المدير النرجسي. وهو ما ينعكس في الأخير على الجانب النفسي. فالوضع الطبيعي هو أن يستمتع الإنسان في العمل وليس العكس. وإذا لم يستمتع بعمله فهذا مؤشر على وجود خلل في البيئة أو المسؤول.
نعم العوامل الخارجية تلعب دورا أيضا وقد لا يمكن التحكم فيها، ولكن الدراسات تؤكد أن العوامل الداخلية في المؤسسة تؤثر في إنتاجية الفرد بشكل أكبر بكثير من العوامل الخارجية. وإذا ما ركزنا على بيئة العمل يمكن تحقيق كثير من الصحة النفسية لأن الإنسان الذي يشعر بالرحة النفسية ينتج أكثر، وبالمقابل الفرد المنتج يكون مستقرا بشكل أكبر، بل يكون مسالما بشكل أكثر من غيره، وبالتالي من صالح أي مؤسسة أن يكون العامل منتجا بأسلوب صحيح وليس بأسلوب ميكافيلي، لأنك لو تتبعت حالات تغيير الوظيفة تجد أن الموظف في كثير من الحالات يهدف إلى تغيير مديره وليس الوظيفة ذاتها.
ومن خلال الدراسات التي نجريها على الشركات في البحرين، يتضح أن أولويات العامل التي تدعم الحالة النفسية بشكل ينعكس على إنتاجيته، أولها إدراك القيمة الذاتية، والتقدير والاحترام، العلاقات الإنسانية والوجدانية، حسن التواصل. وللأسف أغلب هذه الأولويات نجدها غائبة.
وعلى الرغم من أن هذا الأمر يمثل جوهر دور إدارات الموارد البشرية، إلا أن هذه الإدارات تحولت إلى أدوار إدارية تنظيمية وفنية فقط بعيدا عن الجوانب الوجدانية الحسية. في حين أن ربحية الشركة وإنتاجيتها يعتمد كما ذكرت على الحالة النفسية للموظفين، فمثلا 64% من أسباب نجاح الشركة يعود إلى العاملين السليمين نفسيا، والنسبة الباقية هي للجوانب المادية والفنية والبنى التحتية، و80% من جودة أداء العاملين يعتمد على الجوانب النفسية. في حين نجد أن التركيز في أغلب مواقع العمل يركز على الجوانب الفنية والمالية.
وحتى لو كانت هناك محاولات فإنها للأسف قد لا تكون بالأسلوب الصحيح. لأن التفاصيل لا تقل أهمية عن الخطوة نفسها. فمثلا خلال الاستشارات في إحدى الشركات، نصحتهم أن يقدموا وجبة غداء لجميع العاملين والموظفين كنوع من التقدير وكسر الروتين. وتمت الموافقة على الأمر من قبل الإدارة. ولكن فوجئت أنه تم توزيع قسائم (فوجرات) على الموظفين! فأخبرتهم أن هذه الخطوة ستاتي بنتائج عكسية لأنها تعد إساءة للموظف وليس تقديرا. وبالفعل كانت النتائج عكسية، وأغلب الموظفين لم يستخدموا القسيمة لأنهم اعتبروها إهانة لهم.
أحد المسؤولين كان يشتكي من أنه صرف الكثير من المبالغ على تطوير المرافق والأجهزة في مؤسسته بما في ذلك تخصيص أماكن للاستراحة والخدمات، ولكنه لم يحصد نتائج إيجابية في ارتفاع إنتاجية الموظفين، وكان يتذمر منهم ويؤكد أنهم لا يستحقون ما صرفه عليهم. وعندما أصر على معرفة رأيي، أجبته بأن الأب الذي يكون جميع أبنائه غير سويين، تكون المشكلة فيه هو وفي أسلوب تعامله وعلاقته معهم وليس في أبنائه. هنا فهم الرسالة المبطنة وهي أن الخلل فيه هو وعلاقته مع موظفيه وأسلوب إدارة المؤسسة، وكل تلك الكماليات المادية لن تؤثر طالما هناك مشكلة في الجانب الإنساني والنفسي للموظفين.
وبالتالي الحل باختصار هو خلق بيئة عمل مسالمة وإنسانية من قبل رب العمل. فمن مصلحته أن تكون نفسية الموظف مرتاحة ومستقرة لأن ذلك يزيد من إنتاجيته.
***
حصيلة نقاشاتنا هذه تمثل رسالة إلى جميع المسؤولين في مواقع العمل، خلاصتها أن الاستثمار في الصحة النفسية للموظفين يعد استثمارا في إنتاجيات العمل والعائدات، وليست ترفا أو تكاليف إضافية. وفي الوقت نفسه، رسالة إلى كل فرد: «لا تتردد في أن تجد نفسك داخل عيادة نفسية إذا ما شعرت بأية أعراض تتعلق بالصحة النفسية أو تدني الإنتاجية، بادر قبل أن تصبح المشكلة مرضا مزمنا».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك