العدد : ١٧٠٩٩ - الأربعاء ١٥ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ١٥ رجب ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٩٩ - الأربعاء ١٥ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ١٥ رجب ١٤٤٦هـ

أخبار البحرين

الآثار الاقتصادية للأمراض النفسية.. حقائق وأرقام مفزعة

تحقيق: محمد الساعي

الأحد ٢٧ أكتوبر ٢٠٢٤ - 02:00

37.5 مليون يوم إنتاجي و3.5 مليارات دولار خسائر دول الخليج سنـــويا بــســـبـب الأمـراض النفسية

القلق والاكتئاب والوسواس والرهاب أكثر الأعراض النفسية انتشارا في بيئات العمل في دولنا

دراسة: من يعانون اضطرابات نفسية يفقدون 10 سنوات من مسيرتهم المهنية

وأخرى: برامج تعزيز الصحة النفسية في بيئة العمل تزيد الإنتاجية بنسبة 80%

تداعيات الأعراض النفسية تؤدي إلى تدهور الأداء المعرفي والإنتاجي والتركيز والانتباه والذاكرة والتفكير الإبداعي

أقل من ثلاثة أطباء نفسيين لكل 100 ألف شخص في المنطقة

د. طارق المعداوي: 40% من كل شعب يحتاجون إلى علاج نفسي 5% منهم فقط يلجأون إلى العيادات المختصة

د. أكبر جعفري: السبب الرئيسي لتدهور الحالة النفسية للموظف وإنتاجيته هو المدير النرجسي والميكافيلي


أكدت‭ ‬دراسةٌ‭ ‬نشرتَها‭ ‬‮«‬فوربس‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‮»‬‭ ‬أن‭ ‬دولَ‭ ‬مجلسِ‭ ‬التعاون‭ ‬الخليجي‭ ‬تفقدُ‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬عن‭ ‬37‭.‬5‭ ‬مليونَ‭ ‬يوم‭ ‬إنتاجي‭ ‬سنويًّا‭ ‬إثر‭ ‬تداعيات‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية،‭ ‬بما‭ ‬يعادل‭ ‬3‭.‬5‭ ‬مليارات‭ ‬دولار‭ ‬من‭ ‬خسائر‭ ‬الإنتاجية،‭ ‬وهي‭ ‬تكلفةٌ‭ ‬باهظة‭ ‬للغاية‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬تجاهلُها،‭ ‬وتعد‭ ‬تهديدًا‭ ‬خفيًّا‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يقوض‭ ‬تقدم‭ ‬دول‭ ‬المنطقة‭ ‬ويلقي‭ ‬بظلاله‭ ‬على‭ ‬الاقتصاد‭. ‬

ولفتت‭ ‬الدراسةُ‭ ‬التي‭ ‬أعدتها‭ ‬شركة‭ ‬برايس‭ ‬ووترهاوس‭ ‬كوبرز،‭ ‬إحدى‭ ‬أكبر‭ ‬شركات‭ ‬الخدمات‭ ‬المهنية‭ ‬ومراجعة‭ ‬الحسابات‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نحو‭ ‬15‭% ‬من‭ ‬السكان‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬مجلس‭ ‬التعاون‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬اضطراباتٍ‭ ‬نفسية‭ ‬كل‭ ‬عام‭. ‬وبالمقابل‭ ‬تواجه‭ ‬المنطقةُ‭ ‬نقصًا‭ ‬حادًا‭ ‬في‭ ‬المختصين‭ ‬بمجال‭ ‬الصحة‭ ‬النفسية،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬سوى‭ ‬2‭.‬85‭ ‬طبيب‭ ‬نفسي‭ ‬لكل‭ ‬100‭ ‬ألف‭ ‬شخص‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬مجلس‭ ‬التعاون‭ ‬الخليجي‭ ‬الست‭.‬

فيما‭ ‬تتجاوز‭ ‬الخسائر‭ ‬العالمية‭ ‬بسبب‭ ‬الحالات‭ ‬النفسية‭ ‬كالاكتئاب‭ ‬والقلق‭ ‬والتوترات‭ ‬تريليون‭ ‬دولار‭ ‬سنويًّا‭.‬

من‭ ‬جانب‭ ‬آخر،‭ ‬أكد‭ ‬تقرير‭ ‬لشركة‭ ‬الخدمات‭ ‬المهنية‭ ‬العالمية‭ ‬‮«‬ديلويت‭ ‬توش‭ ‬توهماتسو‮»‬‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬دولار‭ ‬يُستثمر‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬شاملة‭ ‬من‭ ‬التدخلات‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الصحة‭ ‬النفسية‭ ‬يعود‭ ‬بفوائد‭ ‬صحية‭ ‬واقتصادية‭ ‬تبلغ‭ ‬24‭ ‬دولارًا‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬80‭ ‬عامًا‭.‬

فيما‭ ‬كشفت‭ ‬دراسة‭ ‬حديثة‭ ‬أجرتها‭ ‬جامعة‭ ‬أرهوس‭ ‬الدنماركية‭ ‬وشملت‭ ‬بيانات‭ ‬5‭ ‬ملايين‭ ‬شخص،‭ ‬أن‭ ‬الأشخاص‭ ‬الذين‭ ‬يعانون‭ ‬اضطرابات‭ ‬نفسية‭ ‬يضيّعون‭ ‬سنوات‭ ‬عمل‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬حياتهم‭ ‬المهنية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يستوجب‭ ‬تقديم‭ ‬الدعم‭ ‬لهم،‭ ‬تفاديا‭ ‬لأن‭ ‬يتفاقم‭ ‬الوضع‭ ‬داخل‭ ‬بيئة‭ ‬العمل،‭ ‬لأن‭ ‬من‭ ‬يعانون‭ ‬اضطرابات‭ ‬نفسية،‭ ‬يفقدون‭ ‬ما‭ ‬معدله‭ ‬10‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬مسيرتهم‭ ‬المهنية‭.‬

وهذا‭ ‬ما‭ ‬تؤكده‭ ‬أرقام‭ ‬منظمة‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية‭ ‬والتي‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬يخسر‭ ‬12‭ ‬مليار‭ ‬يوم‭ ‬عمل‭ ‬في‭ ‬السنة،‭ ‬بسبب‭ ‬اضطرابات‭ ‬الصحة‭ ‬النفسية‭ ‬للموظفين‭ ‬والعمال‭.‬

ليس‭ ‬هذا‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الباحثين‭ ‬وجدوا‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬علاقة‭ ‬بين‭ ‬الضغوط‭ ‬النفسية‭ ‬لدى‭ ‬الموظف‭ ‬والعامل‭ ‬وارتكابه‭ ‬التخريب‭ ‬المتعمد‭ ‬سواء‭ ‬بالأجهزة‭ ‬الإلكترونية‭ ‬أو‭ ‬الإسراف‭ ‬في‭ ‬الاستهلاك‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬كالورق‭ ‬والمستلزمات‭ ‬المكتبية‭ ‬وغيرها‭. ‬كما‭ ‬يتسم‭ ‬الموظف‭ ‬الذي‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬ضغوطات‭ ‬نفسية‭ ‬بالغضب‭ ‬السريع‭ ‬والسخرية‭ ‬والاستهزاء‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيء‭.‬

وإلى‭ ‬جانب‭ ‬العوامل‭ ‬الخارجية‭ ‬التي‭ ‬تؤثر‭ ‬في‭ ‬الصحة‭ ‬النفسية‭ ‬للموظف،‭ ‬يلخص‭ ‬المختصون‭ ‬عددا‭ ‬من‭ ‬النقاط‭ ‬المرتبطة‭ ‬ببيئة‭ ‬العمل‭ ‬والتي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تسبب‭ ‬تداعيات‭ ‬نفسية‭ ‬تنعكس‭ ‬سلبا‭ ‬على‭ ‬الإنتاجية،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬ظروف‭ ‬العمل‭ ‬المادية‭ ‬غير‭ ‬الآمنة،‭ ‬عدم‭ ‬وضوح‭ ‬الدور‭ ‬الوظيفي،‭ ‬الافتقار‭ ‬إلى‭ ‬الترقيات‭ ‬أو‭ ‬المبالغة‭ ‬فيها،‭ ‬نقص‭ ‬المهارات‭ ‬الكافية‭ ‬للعمل،‭ ‬أعباء‭ ‬العمل‭ ‬المفرطة‭ ‬أو‭ ‬العمل‭ ‬ساعات‭ ‬طويلة‭ ‬وعدم‭ ‬المرونة،‭ ‬وجود‭ ‬ثقافة‭ ‬تكرس‭ ‬السلوكيات‭ ‬السلبية‭ ‬في‭ ‬المؤسسة،‭ ‬غياب‭ ‬الدعم‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الإدارة‭ ‬أو‭ ‬الزملاء،‭ ‬انعدام‭ ‬الأمان‭ ‬الوظيفي،‭ ‬عدم‭ ‬كفاية‭ ‬الأجور،‭ ‬ضعف‭ ‬الاستثمار‭ ‬في‭ ‬التطوير‭ ‬الوظيفي‭.‬

نماذج‭ ‬من‭ ‬الواقع

أرقام‭ ‬ودراسات‭ ‬أقل‭ ‬ما‭ ‬توصف‭ ‬بأنها‭ ‬مقلقة‭ ‬ومخيفة،‭ ‬لاسيما‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالعلاقة‭ ‬ببين‭ ‬الحالة‭ ‬النفسية‭ ‬وتراجع‭ ‬الإنتاجية‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬الخسائر‭ ‬التي‭ ‬تتكبدها‭ ‬المؤسسة‭. ‬

خلاصة‭ ‬محاولاتنا‭ ‬لتقصي‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع،‭ ‬كانت‭ ‬مفاجئة‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬أغلب‭ ‬الأشخاص‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬الأعراض‭ ‬ومن‭ ‬نقص‭ ‬الإنتاجية‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬يعترفون‭ ‬بأنها‭ ‬تداعيات‭ ‬نفسية‭. ‬فيما‭ ‬أقر‭ ‬آخرون‭ ‬بأنهم‭ ‬يشعرون‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬علاج‭ ‬نفسي‭ ‬فعلا‭ ‬وأنهم‭ ‬غير‭ ‬راضين‭ ‬عن‭ ‬أدائهم‭ ‬وإنتاجيتهم‭.‬

أحد‭ ‬المواطنين‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬مسؤولَ‭ ‬مبيعات‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬الشركات‭ ‬الكبرى،‭ ‬تسلم‭ ‬المنصب،‭ ‬وكان‭ ‬سعيدا‭ ‬به‭ ‬وواثقا‭ ‬من‭ ‬قدراته‭. ‬يشرح‭ ‬مشكلته‭ ‬قائلا‭: ‬‮«‬طلبت‭ ‬الإدارة‭ ‬مني‭ ‬تحقيق‭ ‬مبيعات‭ ‬جيدة‭. ‬وبالفعل‭ ‬خلال‭ ‬عامين‭ ‬استطعت‭ ‬تحقيق‭ ‬ارتفاع‭ ‬في‭ ‬المبيعات‭ ‬تجاوز‭ ‬200%‭. ‬وتوقعت‭ ‬أن‭ ‬ألقى‭ ‬الإشادة‭ ‬الكافية‭ ‬والمكافآت‭ ‬السخية‭. ‬ولكن‭ ‬خلال‭ ‬اجتماعي‭ ‬مع‭ ‬الإدارة،‭ ‬وبعد‭ ‬الإشادة‭ ‬بجهودي،‭ ‬صدمت‭ ‬بأنهم‭ ‬طلبوا‭ ‬مني‭ ‬تحقيق‭ ‬ارتفاع‭ ‬في‭ ‬المبيعات‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬عن‭ ‬400%‭. ‬من‭ ‬دون‭ ‬خطة‭ ‬واضحة‭ ‬ولا‭ ‬استراتيجية‭ ‬مرسومة،‭ ‬أي‭ ‬ألقوا‭ ‬المسؤولية‭ ‬على‭ ‬كاهلي‭ ‬فقط‭. ‬

ومنذ‭ ‬ذلك‭ ‬الحين‭ ‬بدأت‭ ‬أعاني‭ ‬من‭ ‬ضغط‭ ‬شديد‭ ‬نتيجة‭ ‬الشعور‭ ‬بالمسؤولية‭ ‬والقلق‭ ‬المتزايد‭. ‬وتدريجيا‭ ‬صرت‭ ‬أشعر‭ ‬بأن‭ ‬أدائي‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬انخفض‭ ‬وأنني‭ ‬غير‭ ‬قادر‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬ذات‭ ‬الإنتاجية‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬عليها‭. ‬ومع‭ ‬تفاقم‭ ‬الحالة‭ ‬النفسية‭ ‬وكره‭ ‬العمل،‭ ‬اتخذت‭ ‬قرارا‭ ‬جريئا‭ ‬وتقاعدت‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬تماما‭!‬‮»‬‭. ‬

مسؤول‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬مواقع‭ ‬العمل،‭ ‬يعاني‭ ‬منذ‭ ‬ستة‭ ‬أشهر‭ ‬من‭ ‬مشاكل‭ ‬في‭ ‬النوم،‭ ‬وراجع‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬العيادات‭. ‬حصل‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬العلاج‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬جدوى‭. ‬المشكلة‭ ‬كما‭ ‬يؤكد‭ ‬المسؤول‭ ‬أنه‭ ‬منذ‭ ‬بدأت‭ ‬المشكلة‭ ‬صار‭ ‬يلمس‭ ‬تراجعا‭ ‬في‭ ‬إنتاجيته‭ ‬بشكل‭ ‬مقلق،‭ ‬حيث‭ ‬يعجز‭ ‬عن‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬قسط‭ ‬كاف‭ ‬من‭ ‬النوم،‭ ‬وعندما‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬التركيز‭ ‬بالشكل‭ ‬الكافي‭. ‬واليوم‭ ‬باتت‭ ‬إنتاجيته‭ ‬كما‭ ‬يؤكد‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬20%‭ ‬مما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭. ‬وبعد‭ ‬هذه‭ ‬الأشهر‭ ‬اقتنع‭ ‬أنه‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬مشكلة‭ ‬نفسية،‭ ‬ومع‭ ‬مراجعة‭ ‬الطبيب‭ ‬المختص‭ ‬اكتشف‭ ‬أنه‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬اضطراب‭ ‬القلق،‭ ‬وبعد‭ ‬هذه‭ ‬المدة‭ ‬الطويلة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬علاج‭ ‬مناسب‭ ‬تحولت‭ ‬المشكلة‭ ‬إلى‭ ‬مرض‭ ‬مزمن‭. ‬

الترقية‭ ‬هي‭ ‬السبب‭!‬

حالة‭ ‬غريبة‭ ‬أخرى،‭ ‬وعلى‭ ‬عكس‭ ‬العادة‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬المشكلة‭ ‬حصول‭ ‬الموظف‭ ‬على‭ ‬إنذار‭ ‬أو‭ ‬توبيخ‭ ‬أو‭ ‬جزاء‭ ‬في‭ ‬وظيفته،‭ ‬بل‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬ترقية‭. ‬ولكن‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الترقية‭ ‬سببا‭ ‬كافيا‭ ‬لأن‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬العيادة‭ ‬النفسية‭. ‬فنتيجة‭ ‬للشعور‭ ‬بالمسؤولية‭ ‬والقلق‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬تحملها،‭ ‬تحول‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬أعراض‭ ‬نفسية‭ ‬بدأت‭ ‬تتفاقم،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬صار‭ ‬يؤثر‭ ‬في‭ ‬إنتاجية‭ ‬هذا‭ ‬الموظف‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬واعيا‭ ‬بشكل‭ ‬جيد‭ ‬ولجأ‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬مبكر‭ ‬إلى‭ ‬الاستشاري‭ ‬النفسي‭.‬

وعلى‭ ‬الوتيرة‭ ‬ذاتها،‭ ‬تشكو‭ ‬موظفة‭ ‬في‭ ‬السابعة‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬عمرها‭ ‬من‭ ‬تأثر‭ ‬صحتها‭ ‬الجسدية‭ ‬والنفسية‭ ‬وتبعا‭ ‬لذلك‭ ‬إنتاجيتها‭. ‬تقول‭ ‬محدثتنا‭: ‬‮«‬أقضي‭ ‬غالبية‭ ‬وقتي‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬وطبيعة‭ ‬العمل‭ ‬مليئة‭ ‬بالضغوط‭ ‬النفسية‭ ‬التي‭ ‬تؤثر‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭ ‬في‭ ‬صحتي‭ ‬الجسدية،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يدفعني‭ ‬إلى‭ ‬تبني‭ ‬عادات‭ ‬غير‭ ‬صحية‭ ‬مثل‭ ‬التدخين‭ ‬وتناول‭ ‬الطعام‭ ‬غير‭ ‬الصحي‭ ‬وبكثرة‭ ‬بسبب‭ ‬التوتر‭. ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬أدى‭ ‬بي‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬الشعور‭ ‬بالاكتئاب‭ ‬والعزلة‭. ‬وكل‭ ‬هذه‭ ‬العوامل‭ ‬معًا‭ ‬أثرت‭ ‬سلبًا‭ ‬في‭ ‬إنتاجيتي‭. ‬وأحيانا‭ ‬أضطر‭ ‬إلى‭ ‬أخذ‭ ‬إجازة‭ ‬مرضية‭ ‬بسبب‭ ‬ما‭ ‬أعانيه‭ ‬من‭ ‬توتر،‭ ‬عدا‭ ‬تحول‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬مشكلات‭ ‬صحية‭ ‬أبرزها‭ ‬تضرر‭ ‬في‭ ‬المعدة‮»‬‭.‬

وتشرح‭ ‬لنا‭ ‬مسؤولة‭ ‬بإحدى‭ ‬المؤسسات‭ ‬التعليمية‭ ‬حالتها‭ ‬النفسية،‭ ‬لافتة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬عدم‭ ‬انسجامها‭ ‬مع‭ ‬بيئة‭ ‬العمل‭ ‬انعكس‭ ‬على‭ ‬أخلاقها‭ ‬ليس‭ ‬مع‭ ‬زملائها‭ ‬فحسب‭ ‬وإنما‭ ‬حتى‭ ‬مع‭ ‬أصدقائها‭ ‬وعائلتها‭. ‬ومع‭ ‬تفاقم‭ ‬المشكلة‭ ‬أصبحت‭ ‬على‭ ‬قناعة‭ ‬بأنها‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬اضطراب‭ ‬القلق‭ ‬المزمن‭. ‬والمشكلة‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬تحقيق‭ ‬إنجاز‭ ‬يذكر‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬تراجعت‭ ‬إنتاجيتها‭ ‬بشكل‭ ‬ملحوظ‭ ‬مقارنة‭ ‬بالسنوات‭ ‬والوظائف‭ ‬السابقة‭.‬

الواقع‭ ‬أسوأ

عقب‭ ‬هذه‭ ‬الجولة‭ ‬والرحلة‭ ‬بين‭ ‬الدراسات‭ ‬والبحوث‭ ‬والحالات‭ ‬الواقعية،‭ ‬نعود‭ ‬إلى‭ ‬المختصين‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭ ‬لتحليل‭ ‬المشكلة‭ ‬والعلاقة‭ ‬بين‭ ‬الحالة‭ ‬النفسية‭ ‬والإنتاجية‭. ‬وكانت‭ ‬وجهتنا‭ ‬الأولى‭ ‬عيادة‭ ‬استشاري‭ ‬الطب‭ ‬النفسي‭ ‬الدكتور‭ ‬طارق‭ ‬المعداوي،‭ ‬لنسأله‭ ‬عما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬الإحصائيات‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬دول‭ ‬المنطقة‭ ‬تفقد‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬عن‭ ‬37‭.‬5‭ ‬مليون‭ ‬يوم‭ ‬إنتاجي‭ ‬سنويًّا‭ ‬و3‭.‬5‭ ‬مليارات‭ ‬دولار‭ ‬بسبب‭ ‬تداعيات‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية،‭ ‬هي‭ ‬أرقام‭ ‬مبالغ‭ ‬فيها،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬أجاب‭ ‬عنه‭ ‬قائلا‭: ‬‮«‬أبدا،‭ ‬ليس‭ ‬فيها‭ ‬أي‭ ‬مبالغة،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬العكس‭ -‬يجيبنا‭ ‬الدكتور‭ ‬طارق‭ ‬مباشرة،‭ ‬ويضيف‭: ‬أن‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬لها‭ ‬تكلفة‭ ‬مباشرة‭ ‬وأخرى‭ ‬غير‭ ‬مباشرة،‭ ‬فمثلا‭ ‬المستشفيات‭ ‬والأدوية‭ ‬والتحاليل‭ ‬والفحوصات‭ ‬تكون‭ ‬تكلفة‭ ‬مباشرة‭. ‬ولكن‭ ‬التكلفة‭ ‬غير‭ ‬المباشرة‭ ‬تكون‭ ‬أكبر،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬عدم‭ ‬الانتظام‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬وعدم‭ ‬الإنتاج‭ ‬والتأثير‭ ‬في‭ ‬الأسرة‭ ‬وعلى‭ ‬المحيطين‭. ‬فوجود‭ ‬مريض‭ ‬نفسي‭ ‬واحد‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الأسرة‭ ‬كلها‭ ‬تعاني‭ ‬وليس‭ ‬هو‭ ‬فقط،‭ ‬والأمر‭ ‬نفسه‭ ‬ينسحب‭ ‬على‭ ‬بيئة‭ ‬العمل‭. ‬

علما‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬أنواع‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية،‭ ‬فهناك‭ ‬الأمراض‭ ‬العقلية‭ ‬مثل‭ ‬الذهان‭ ‬والاضطراب‭ ‬ثنائي‭ ‬القطب،‭ ‬وهي‭ ‬أمراض‭ ‬شديدة‭ ‬تتسبب‭ ‬في‭ ‬تدهور‭ ‬شخصية‭ ‬المريض‭ ‬وتجعله‭ ‬منفصلا‭ ‬عن‭ ‬الواقع‭ ‬ولا‭ ‬يتواصل‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭. ‬وهنا‭ ‬تكون‭ ‬النتائج‭ ‬معروفة،‭ ‬فغالبا‭ ‬من‭ ‬يعاني‭ ‬هذه‭ ‬الأعراض‭ ‬لا‭ ‬يعمل‭ ‬ولا‭ ‬ينتج‭ ‬ويكون‭ ‬منعزلا‭.‬

ولكن‭ ‬المشكلة‭ ‬في‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬تؤثر‭ ‬في‭ ‬إنتاجية‭ ‬الشخص‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬يعتبر‭ ‬موظفا‭ ‬وينتظر‭ ‬منه‭ ‬إنتاجية،‭ ‬مثل‭ ‬اضطراب‭ ‬القلق‭ ‬والرهاب‭ ‬والاكتئاب‭ ‬والوسواس‭ ‬القهري‭. ‬فمن‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأعراض‭ ‬تتأثر‭ ‬ذاكرته‭ ‬وتركيزه‭. ‬وبالتالي‭ ‬يعد‭ ‬ذهابه‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬من‭ ‬عدمه‭ ‬سواء،‭ ‬أي‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬وجد‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬فإن‭ ‬إنتاجيته‭ ‬متدهورة‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬إنتاجية‭ ‬إطلاقا،‭ ‬ولو‭ ‬أعطيته‭ ‬مهمة‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬ساعة‭ ‬قد‭ ‬يتطلب‭ ‬الأمر‭ ‬منه‭ ‬أياما‭ ‬لأنه‭ ‬يفتقد‭ ‬إلى‭ ‬التركيز‭. ‬

وتزداد‭ ‬المشكلة‭ ‬مع‭ ‬الاكتئاب‭ ‬والرهاب‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وهذا‭ ‬الأخير‭ ‬تحديدا‭ ‬يجعل‭ ‬الشخص‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الآخرين،‭ ‬فكيف‭ ‬ننتظر‭ ‬منه‭ ‬إنجازا‭. ‬وهي‭ ‬حالات‭ ‬للأسف‭ ‬منتشرة‭ ‬لدينا‮»‬‭.‬

5%‭ ‬فقط‭!‬

يتابع‭ ‬الدكتور‭ ‬طارق‭: ‬‮«‬البحوث‭ ‬العلمية‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬40%‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شعب‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬علاج‭ ‬نفسي،‭ ‬ولكن‭ ‬للأسف‭ ‬من‭ ‬يتجه‭ ‬إلى‭ ‬الطبيب‭ ‬النفسي‭ ‬فعلا‭ ‬هو‭ ‬5%‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬ولذلك‭ ‬لأسباب،‭ ‬منها‭ ‬وجود‭ ‬وصمة‭ ‬أو‭ ‬نظرة‭ ‬سيئة‭ ‬للمريض‭ ‬النفسي‭. ‬والأمر‭ ‬الآخر‭ ‬أن‭ ‬المرض‭ ‬النفسي‭ ‬يبدأ‭ ‬بأعراض‭ ‬عضوية‭. ‬فمثلا‭ ‬70%‭ ‬من‭ ‬أعراض‭ ‬مرض‭ ‬الاكتئاب‭ ‬تبدأ‭ ‬بآلام‭. ‬أي‭ ‬أن‭ ‬الآلام‭ ‬أحد‭ ‬أعراض‭ ‬الاكتئاب‭ ‬مثل‭ ‬الصداع‭ ‬والقولون‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬المريض‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬الطبيب‭ ‬العام‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬ويحصل‭ ‬على‭ ‬علاجات‭ ‬ولكن‭ ‬السبب‭ ‬موجود‭ ‬وبالتالي‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬تحسن‭.‬

هنا‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬نسبة‭ ‬كبيرة‭ ‬تتجه‭ ‬إلى‭ ‬المعالجين‭ ‬الروحانيين،‭ ‬وأحيانا‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬يتعاملون‭ ‬بالسحر‭. ‬وهذه‭ ‬مشكلة‭ ‬عالمية‭. ‬وقد‭ ‬تستغرق‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬مدة‭ ‬طولية‭ ‬تتجاوز‭ ‬أحيانا‭ ‬العام‭ ‬أو‭ ‬العامين،‭ ‬بحيث‭ ‬يصبح‭ ‬المرض‭ ‬مزمنا‭. ‬وهنا‭ ‬يقتنع‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬عليه‭ ‬التوجه‭ ‬إلى‭ ‬الطبيب‭ ‬النفسي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬باتت‭ ‬تداعيات‭ ‬الأعراض‭ ‬النفسية‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تدهور‭ ‬الأداء‭ ‬المعرفي‭ ‬والإنتاجي‭ ‬والتركيز‭ ‬والانتباه‭ ‬والذاكرة‭ ‬والتفكير‭ ‬الإبداعي‭.‬

*‭ ‬ما‭ ‬أكثر‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬انتشارا‭ ‬في‭ ‬بيئات‭ ‬العمل‭ ‬لدينا‭ ‬والتي‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬واضحة‭ ‬للجميع؟

**‭ ‬كما‭ ‬أسلفت،‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬الأعراض‭ ‬النفسية‭ ‬هو‭ ‬اضطرابات‭ ‬القلق،‭ ‬والاكتئاب،‭ ‬ثم‭ ‬يأتي‭ ‬الرهاب‭ ‬الذي‭ ‬يمثل‭ ‬مشكلة‭ ‬حقيقية‭ ‬لموظفين،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬الحالات‭ ‬انتشارا،‭ ‬حيث‭ ‬يشعر‭ ‬الشخص‭ ‬فجأة‭ ‬بضيق‭ ‬التنفس‭ ‬والاختناق‭ ‬وخفقان‭ ‬القلب‭ ‬والدوار‭ ‬ويتم‭ ‬نقله‭ ‬بالإسعاف،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬يتم‭ ‬تشخيص‭ ‬أي‭ ‬مرض‭ ‬عضوي‭. ‬وهذا‭ ‬الرهاب‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يؤثر‭ ‬في‭ ‬الإنتاجية،‭ ‬وهو‭ ‬يعد‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬القلق‭ ‬الحاد‭. ‬

وهناك‭ ‬أيضا‭ ‬الوسواس‭ ‬القهري‭ ‬الذي‭ ‬له‭ ‬تداعيات‭ ‬نفسية‭ ‬تؤثر‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭ ‬على‭ ‬الإنتاجية‭.‬

*‭ ‬مع‭ ‬التسليم‭ ‬بخطورة‭ ‬التداعيات‭ ‬النفسية‭ ‬على‭ ‬الإنتاجية،‭ ‬ما‭ ‬أسباب‭ ‬انتشار‭ ‬هذه‭ ‬الأعراض‭ ‬لدى‭ ‬الموظفين‭ ‬بشكل‭ ‬عام؟‭ ‬هل‭ ‬هي‭ ‬بيئات‭ ‬العمل‭ ‬مثلا؟‭ ‬أو‭ ‬ضغوطات‭ ‬الحياة؟‭.‬

**‭ ‬المرض‭ ‬النفسي‭ ‬يعد‭ ‬مرضا‭ ‬عضويا‭ ‬بالمقام‭ ‬الأول،‭ ‬وأعني‭ ‬بذلك‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لدى‭ ‬الشخص‭ ‬استعداد‭ ‬عضوي‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬استعداد‭ ‬وراثي‭ ‬أو‭ ‬مشاكل‭ ‬في‭ ‬الجينات‭ ‬مثل‭ ‬خلل‭ ‬كيميائي‭. ‬ثم‭ ‬تأتي‭ ‬الظروف‭ ‬التي‭ ‬يمر‭ ‬بها‭ ‬الإنسان‭ ‬بدءا‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬حياته‭ ‬الأولى‭ ‬وطبيعة‭ ‬البيئة‭ ‬الأسرية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬والصدمات‭ ‬التراكمية‭ ‬التي‭ ‬تعرض‭ ‬لها‭.‬

وبالتالي‭ ‬ينشأ‭ ‬المرض‭ ‬النفسي‭ ‬في‭ ‬مراحل،‭ ‬أولها‭ ‬الاستعداد‭ ‬الجيني‭ ‬البيولوجي‭ ‬والوراثي،‭ ‬ثم‭ ‬تأتي‭ ‬التراكمات‭ ‬السيكولوجية،‭ ‬ويتبع‭ ‬ذلك‭ ‬حادث‭ ‬أو‭ ‬موقف‭. ‬لذلك‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬نجد‭ ‬مرضى‭ ‬يؤكدون‭ ‬أنهم‭ ‬أصيبوا‭ ‬بحالة‭ ‬اكتئاب‭ ‬أو‭ ‬اضطراب‭ ‬القلق‭ ‬نتيجة‭ ‬فقد‭ ‬أحد‭ ‬الأقارب‭ ‬أو‭ ‬موقف‭ ‬معين‭. ‬وعند‭ ‬الغور‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الشخص‭ ‬والتاريخ‭ ‬المرضي‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬تراكميات‭ ‬منذ‭ ‬الطفولة‭ ‬مثل‭ ‬مشاكل‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬والأسرة‭ ‬وغيرها،‭ ‬مع‭ ‬وجود‭ ‬استعداد‭ ‬بيولوجي‭ ‬أو‭ ‬جيني،‭ ‬ثم‭ ‬يأتي‭ ‬الحدث‭ ‬الأخير‭ ‬وهو‭ ‬فقدان‭ ‬القريب‭ ‬الذي‭ ‬فجر‭ ‬المشكلة‭ ‬وأدى‭ ‬إلى‭ ‬ظهور‭ ‬الأعراض‭.‬

والأمر‭ ‬نفسه‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الموظف‭. ‬فقد‭ ‬تكون‭ ‬تراكمات‭ ‬الحياة‭ ‬هيأت‭ ‬المشكلة،‭ ‬ثم‭ ‬تأتي‭ ‬إشكالية‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬أظهرت‭ ‬تلك‭ ‬الأعراض‭. ‬هل‭ ‬تتصور‭ ‬أن‭ ‬الترقية‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬سببا‭ ‬في‭ ‬اضطراب‭ ‬القلق؟‭ ‬فهناك‭ ‬حالات‭ ‬مرضية‭ ‬تراجعني‭ ‬بسبب‭ ‬الترقية‭ ‬وليس‭ ‬العقاب،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬الشعور‭ ‬بالمسؤولية‭ ‬يضاعف‭ ‬حالة‭ ‬القلق،‭ ‬ومع‭ ‬تفاقم‭ ‬هذا‭ ‬الشعور‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬أعراض‭ ‬نفسية‭ ‬تؤثر‭ ‬في‭ ‬صحة‭ ‬الفرد‭ ‬وبالتالي‭ ‬في‭ ‬إنتاجيته‭.‬

لذلك‭ ‬ننصح‭ ‬أرباب‭ ‬العمل‭ ‬دائما‭ ‬أن‭ ‬يركزوا‭ ‬على‭ ‬خلق‭ ‬ظروف‭ ‬عمل‭ ‬لينة‭ ‬ومرنة،‭ ‬وأن‭ ‬يهيئوا‭ ‬الموظف‭ ‬بشكل‭ ‬كاف‭ ‬لأي‭ ‬موقف‭ ‬أو‭ ‬حدث‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الترقيات‭ ‬والجزاءات‭. ‬فالعقوبة‭ ‬تتطلب‭ ‬الجلوس‭ ‬مع‭ ‬الموظف‭ ‬وشرح‭ ‬الأسباب‭ ‬والسماح‭ ‬له‭ ‬بالتعبير‭ ‬عن‭ ‬وجهة‭ ‬نظره،‭ ‬حتى‭ ‬يخرج‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يشعر‭ ‬بالظلم‭ ‬الذي‭ ‬ينعكس‭ ‬على‭ ‬نفسيته،‭ ‬ومع‭ ‬الأيام‭ ‬على‭ ‬إنتاجيته‭.‬

فمراعاة‭ ‬الجانب‭ ‬النفسي‭ ‬والإنساني‭ ‬أساس‭ ‬في‭ ‬سلامة‭ ‬بيئة‭ ‬العمل،‭ ‬لذلك‭ ‬نجد‭ ‬دولة‭ ‬كاليابان‭ ‬مثلا،‭ ‬تخصص‭ ‬المؤسسات‭ ‬فيها‭ ‬برامج‭ ‬نفسية‭ ‬ممنهجة‭ ‬لكل‭ ‬الموظفين،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬ممارسة‭ ‬الرياضة‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬العمل‭. ‬فالدراسات‭ ‬العلمية،‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬الرياضة‭ ‬تزيد‭ ‬من‭ ‬الإنتاجية‭ ‬الفكرية‭ ‬50%،‭ ‬لذلك‭ ‬نجدهم‭ ‬يوقفون‭ ‬العمل‭ ‬ويطلبون‭ ‬من‭ ‬الموظفين‭ ‬ممارسة‭ ‬الرياضة‭ ‬فترة‭ ‬محددة‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬العمل‭ ‬نفسه‭. ‬

كما‭ ‬تخصص‭ ‬تلك‭ ‬المؤسسات‭ ‬برامج‭ ‬دعم‭ ‬نفسي‭. ‬لأن‭ ‬الدراسات‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬الإنتاجية‭ ‬ترتبط‭ ‬مباشرة‭ ‬بالحالة‭ ‬النفسية،‭ ‬وكلما‭ ‬تأثرت‭ ‬الحالة‭ ‬النفسية‭ ‬تدهورت‭ ‬الإنتاجية،‭ ‬والعكس‭ ‬صحيح‭. ‬فكل‭ ‬الوظائف‭ ‬فيها‭ ‬ضغوط‭ ‬ومتطلبات،‭ ‬وكلما‭ ‬كان‭ ‬الموظف‭ ‬مدعوما‭ ‬نفسيا‭ ‬أمكنه‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬التحديات‭ ‬بسلاسة‭. ‬

كما‭ ‬تؤكد‭ ‬التجارب‭ ‬والأبحاث‭ ‬أن‭ ‬برامج‭ ‬تعزيز‭ ‬الصحة‭ ‬النفسية‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬العمل‭ ‬تزيد‭ ‬من‭ ‬الإنتاجية‭ ‬بنسبة‭ ‬80%‭. ‬

ومما‭ ‬يدعم‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬هو‭ ‬الوضوح‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬العمل‭ ‬ووجود‭ ‬قواعد‭ ‬ثابتة‭ ‬وليست‭ ‬مزاجية،‭ ‬بحيث‭ ‬يكون‭ ‬الموظف‭ ‬على‭ ‬دراية‭ ‬كافية‭ ‬بالعقوبات‭ ‬وبالحوافز‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬قيامه‭ ‬بأي‭ ‬عمل‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬خطأ‭. ‬أي‭ ‬هذا‭ ‬الخطأ‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬العقاب،‭ ‬وهذا‭ ‬الإنجاز‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬المكافأة‭. ‬وأسوأ‭ ‬ما‭ ‬يقع‭ ‬فيه‭ ‬الموظف‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬فريسة‭ ‬لفرضية‭ (‬ماذا‭ ‬لو؟‭)‬،‭ ‬بمعنى‭ ‬ألا‭ ‬يكون‭ ‬رد‭ ‬الفعل‭ ‬الإداري‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬المسؤول‭ ‬واضحا‭.‬

في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬نغفل‭ ‬عن‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬العلاجات‭ ‬المناسبة‭ ‬عند‭ ‬وجود‭ ‬بوادر‭ ‬مشاكل‭ ‬نفسية‭ ‬أو‭ ‬إنتاجية،‭ ‬مثل‭ ‬العلاجات‭ ‬الجمعية‭ ‬والمحاضرات‭ ‬التوعوية‭ ‬بالأمراض‭ ‬النفسية‭. ‬

*‭ ‬بماذا‭ ‬تختلف‭ ‬شخصية‭ ‬الموظف‭ ‬المنتج‭ ‬عن‭ ‬غيره؟

**‭ ‬أولا‭ ‬الثقة‭ ‬بالنفس‭. ‬وثانيا‭ ‬الاستقرار‭ ‬النفسي‭ ‬نتيجة‭ ‬المعرفة‭ ‬الكافية‭ ‬ببيئة‭ ‬العمل‭ ‬ووضوح‭ ‬الرؤية‭ ‬والقواعد‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الثواب‭ ‬والعقاب‭. ‬وكذلك‭ ‬يتميز‭ ‬بأنه‭ ‬يعرف‭ ‬قيمة‭ ‬العمل‭ ‬الذي‭ ‬يؤديه‭ ‬وما‭ ‬ينتجه‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬ننصح‭ ‬به‭ ‬دائما‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬يقتنع‭ ‬العامل‭ ‬بأن‭ ‬إنتاجه‭ ‬مفيد‭ ‬له‭ ‬ولأسرته‭ ‬ولمجتمعه‭ ‬ولوطنه‭. ‬وهذا‭ ‬الشعور‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬الإنتاجية‭. ‬

علما‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬بعض‭ ‬المؤسسات‭ ‬وحتى‭ ‬المدارس‭ ‬والجامعات‭ ‬لدينا‭ ‬تضم‭ ‬أخصائيين‭ ‬اجتماعيين‭ ‬ونفسيين‭ ‬يتابعون‭ ‬حالة‭ ‬الموظفين‭ ‬ويحولونهم‭ ‬إلى‭ ‬الطبيب‭ ‬النفسي‭ ‬مباشرة‭. ‬وهذا‭ ‬أمر‭ ‬نفخر‭ ‬به‭ ‬فعلا‭ ‬ونتمنى‭ ‬أن‭ ‬تعمم‭ ‬التجربة،‭ ‬فالحرص‭ ‬على‭ ‬الصحة‭ ‬النفسية‭ ‬للموظفين‭ ‬أمر‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬الأهمية‭ ‬للعمل‭ ‬وللموظف‭.. ‬وهذا‭ ‬دور‭ ‬تتحمل‭ ‬مسؤوليته‭ ‬إدارات‭ ‬الموارد‭ ‬البشرية‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير،‭ ‬وهي‭ ‬مسؤولية‭ ‬وطنية‭. ‬فمن‭ ‬جانب‭ ‬الموظف‭ ‬في‭ ‬الأخير‭ ‬مواطن‭. ‬ومن‭ ‬جانب‭ ‬آخر‭ ‬إن‭ ‬السلامة‭ ‬النفسية‭ ‬وزيادة‭ ‬الإنتاجية‭ ‬ينعكس‭ ‬على‭ ‬الاقتصاد‭ ‬وعلى‭ ‬الوطن‭ ‬إجمالا‭. ‬

*‭ ‬ما‭ ‬نصيحتك‭ ‬لمن‭ ‬يشعر‭ ‬بأنه‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬تداعيات‭ ‬نفسية‭ ‬تؤثر‭ ‬في‭ ‬إنجازه‭ ‬وإنتاجه‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬وفي‭ ‬الحياة‭ ‬بشكل‭ ‬عام؟

**‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬العلاج‭ ‬مباشرة‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬تأخير‭. ‬فالاكتشاف‭ ‬المبكر‭ ‬وسرعة‭ ‬التدخل‭ ‬تسهل‭ ‬الحل‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬وهو‭ ‬أول‭ ‬طرق‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬إشكالية‭ ‬انخفاض‭ ‬الإنتاجية‭. ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬تجاهل‭ ‬العلاج‭ ‬يؤدي‭ ‬كما‭ ‬أشرت‭ ‬إلى‭ ‬أمراض‭ ‬مزمنة‭ ‬ومتشعبة‭ ‬وقد‭ ‬يتطلب‭ ‬أن‭ ‬نواصل‭ ‬العلاج‭ ‬طوال‭ ‬العمر‭. ‬ومن‭ ‬المهم‭ ‬تأكيد‭ ‬أن‭ ‬العلاجات‭ ‬النفسية‭ ‬لا‭ ‬تؤدي‭ ‬كما‭ ‬يتصور‭ ‬البعض‭ ‬إلى‭ ‬الإدمان‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬انعكاسات‭ ‬سلبية‭ ‬أخرى‭ ‬طالما‭ ‬تؤخذ‭ ‬بإشراف‭ ‬الطبيب‭ ‬المختص‭ ‬بالطريقة‭ ‬السليمة‭. ‬فمن‭ ‬المشاكل‭ ‬التي‭ ‬نواجهها‭ ‬أن‭ ‬ننصح‭ ‬المريض‭ ‬بكورس‭ ‬علاج‭ ‬مدة‭ ‬ستة‭ ‬أشهر‭ ‬مثلا،‭ ‬ولكنه‭ ‬يتوقف‭ ‬بقرار‭ ‬شخصي‭ ‬بعد‭ ‬مدة‭ ‬نتيجة‭ ‬سماعه‭ ‬أقاويل‭ ‬أو‭ ‬تصورات‭ ‬خاطئة‭ ‬عن‭ ‬العلاجات‭ ‬النفسية‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬يضطر‭ ‬إلى‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬العلاجات‭ ‬لا‭ ‬يستجيب‭ ‬لها‭ ‬لأنه‭ ‬بات‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬أدوية‭ ‬أقوى‭ ‬بسبب‭ ‬الانتكاسة‭.‬

وإجمالا‭ ‬يمكنني‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬المريض‭ ‬النفسي‭ ‬وللأسف‭ ‬الشديد‭ ‬مظلوم‭ ‬في‭ ‬دولنا‭ ‬بسبب‭ ‬النظرة‭ ‬السلبية‭ ‬الخاطئة‭ ‬إليه‭. ‬وهنا‭ ‬تكمن‭ ‬المشكلة‭. ‬فالمرض‭ ‬النفسي‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬مرض‭ ‬عضوي‭ ‬آخر‭.‬

هل‭ ‬تعلم‭ ‬أن‭ ‬قائمة‭ ‬منظمة‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية‭ ‬حول‭ ‬أسباب‭ ‬الإعاقة‭ ‬عالميا،‭ ‬كان‭ ‬السبب‭ ‬الأول‭ ‬هو‭ ‬الاكتئاب؟‭ ‬وليس‭ ‬السرطان‭ ‬أو‭ ‬أمراض‭ ‬القلب‭ ‬والضغط‭ ‬وغيرها‭. ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬قائمة‭ ‬أكبر‭ ‬عشرة‭ ‬أسباب‭ ‬تقود‭ ‬إلى‭ ‬الإعاقة،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬أربعة‭ ‬منها‭ ‬نفسية‭. ‬وهذه‭ ‬أرقام‭ ‬مخيفة‭ ‬ومقلقة‭ ‬يجب‭ ‬التوقف‭ ‬عندها‭ ‬مطولا‭. ‬من‭ ‬هنا‭ ‬نحن‭ ‬لا‭ ‬نتحدث‭ ‬فقط‭ ‬عن‭ ‬انخفاض‭ ‬إنتاجية‭ ‬الفرد‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬وإنما‭ ‬ضياع‭ ‬وانخفاض‭ ‬الإنتاجية‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الأسرة‭ ‬والمجتمع‭ ‬والعمل‭ ‬والعلاقات‭ ‬الاجتماعية‭.‬

أرقام‭ ‬متحفظة

يرتبط‭ ‬الموضوع‭ ‬بشقين،‭ ‬الشق‭ ‬النفسي‭ ‬والآخر‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والإنتاجي،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬دفعنا‭ ‬إلى‭ ‬نقاش‭ ‬الأمر‭ ‬مع‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬وخبير‭ ‬الإدارة‭ ‬الإنتاجية،‭ ‬المدير‭ ‬التنفيذي‭ ‬لمؤسسة‭ ‬جفكون‭ ‬لتحسين‭ ‬الإنتاجية‭ ‬الدكتور‭ ‬أكبر‭ ‬جعفري‭. ‬ونبدأ‭ ‬معه‭ ‬بالسؤال‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬طرحناه‭ ‬على‭ ‬الدكتور‭ ‬طارق‭ ‬المعداوي،‭ ‬هل‭ ‬تجد‭ ‬أن‭ ‬أرقام‭ ‬الدراسة‭ ‬حول‭ ‬منطقة‭ ‬دول‭ ‬مجلس‭ ‬التعاون‭ ‬مبالغ‭ ‬فيها‭ ‬أم‭ ‬تعكس‭ ‬الواقع‭ ‬بدقة‭. ‬

يجيبنا‭ ‬الدكتور‭ ‬جعفري‭: ‬‮«‬في‭ ‬اعتقادي‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأرقام‭ ‬متحفظة‭ ‬نوعا‭ ‬ما،‭ ‬وهي‭ ‬تعكس‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬رصده‭ ‬فقط،‭ ‬والواقع‭ ‬أسوأ‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬الأمر‭ ‬مبطّن‭ ‬ومتشعب‭. ‬فمع‭ ‬الأسف‭ ‬الشديد‭ ‬إن‭ ‬الحالة‭ ‬النفسية‭ ‬في‭ ‬مواقع‭ ‬العمل‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬الاهتمام‭ ‬بها‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬بشكل‭ ‬خفيف‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬منظمة‭ ‬العمل‭ ‬الدولية‭ ‬أو‭ ‬الشركات‭ ‬أو‭ ‬المسؤولين‭. ‬فمنظمة‭ ‬العمل‭ ‬الدولية‭ ‬مثلا‭ ‬تضع‭ ‬حوالي‭ ‬44‭ ‬معيارا‭ ‬مؤثرا‭ ‬في‭ ‬الإنتاجية،‭ ‬نجد‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬ثلاثة‭ ‬عوامل‭ ‬فقط‭ ‬تتعلق‭ ‬بالحالة‭ ‬النفسية‭ ‬وبشكل‭ ‬خجول،‭ ‬وتركز‭ ‬على‭ ‬تأثير‭ ‬رتابة‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬نفسية‭ ‬العامل‭. ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الأدلة‭ ‬العملية‭ ‬الدامغة‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬علاقة‭ ‬طردية‭ ‬مباشرة‭ ‬وقوية‭ ‬بين‭ ‬الحالة‭ ‬النفسية‭ ‬للموظف‭ ‬وإنتاجيته،‭ ‬ولكن‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬الآثار‭ ‬مبطنة‭ ‬وغير‭ ‬مكشوفة‭. ‬علما‭ ‬بأن‭ ‬معدل‭ ‬تدهور‭ ‬الإنتاجية‭ ‬يبلغ‭ ‬72%‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬مواقع‭ ‬العمل،‭ ‬وتمثل‭ ‬الأسباب‭ ‬النفسية‭ ‬بين‭ ‬40%-60%‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬النسبة‭. ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬حوادث‭ ‬العمل‭ ‬يعود‭ ‬40%‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬أسباب‭ ‬نفسية‭.‬

وهنا‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬أن‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أحد‭ ‬أسباب‭ ‬هذا‭ ‬القصور‭ ‬في‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالجوانب‭ ‬النفسية‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬بيئة‭ ‬العمل‭ ‬تعد‭ ‬بيئة‭ ‬دخيلة‭ ‬على‭ ‬البشرية‭ ‬ولا‭ ‬يتجاوز‭ ‬عمرها‭ ‬أربعة‭ ‬قرون‭. ‬فأول‭ ‬شركة‭ ‬أسست‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬كانت‭ ‬شركة‭ ‬الهند‭ ‬الشرقية‭ ‬الهولندية‭ ‬المتحدة‭ ‬عام‭ ‬1602‭. ‬وهي‭ ‬تمثل‭ ‬الجناح‭ ‬التجاري‭ ‬للاستعمار‭ ‬الهولندي،‭ ‬وكان‭ ‬أغلب‭ ‬الإداريين‭ ‬في‭ ‬الشركة‭ ‬عسكريين‭. ‬وبالتالي‭ ‬تمت‭ ‬إدارتها‭ ‬بنمط‭ ‬عسكري‭. ‬للأسف‭ ‬مازال‭ ‬النمط‭ ‬العسكري‭ ‬هو‭ ‬السائد‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الشركات‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المنطقة‭ ‬فحسب‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬كله‭. ‬

وفي‭ ‬1907‭ ‬وضع‭ ‬خبير‭ ‬فرنسي‭ (‬هنري‭ ‬فايول‭) ‬والذي‭ ‬يعد‭ ‬من‭ ‬علماء‭ ‬الإدارة،‭ ‬نموذجا‭ ‬من‭ ‬14‭ ‬عاملا‭ ‬لتحسين‭ ‬الإنتاجية‭ ‬وأيضا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬عامل‭ ‬واحد‭ ‬يتعلق‭ ‬بالجوانب‭ ‬النفسية‭. ‬وفي‭ ‬1943‭ ‬بدأ‭ ‬ابراهام‭ ‬مازالوا‭ ‬بالحديث‭ ‬عن‭ ‬تأثير‭ ‬العوامل‭ ‬النفسية‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬أن‭ ‬خبرة‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬بيئة‭ ‬العمل‭ ‬تعد‭ ‬قليلة‭ ‬مقارنة‭ ‬بالعلوم‭ ‬الأخرى‭ ‬كالطب‭ ‬والجغرافيا‭ ‬والعلوم‭ ‬وغيرها‭. ‬

المسؤول‭ ‬النرجسي

وهنا‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬الشركات‭ ‬تركز‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬المادي‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بتحسين‭ ‬الإنتاجية،‭ ‬وحتى‭ ‬لو‭ ‬تحدثت‭ ‬عن‭ ‬الجانب‭ ‬النفسي‭ ‬نجدها‭ ‬تتحدث‭ ‬في‭ ‬قمة‭ ‬الهرم‭ ‬عن‭ ‬إدراك‭ ‬الذات‭ ‬والقيمة‭ ‬الذاتية‭. ‬ولكن‭ ‬نادرا‭ ‬ما‭ ‬نجد‭ ‬تفهما‭ ‬واعيا‭ ‬لطبيعة‭ ‬ذلك‭. ‬بل‭ ‬حتى‭ ‬الدورات‭ ‬وورش‭ ‬العمل‭ ‬المتقدمة‭ ‬نجدها‭ ‬تركز‭ ‬على‭ ‬الاستراتيجيات‭ ‬المادية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬المدير‭ ‬والمسؤول‭ ‬الذي‭ ‬يشارك‭ ‬فيها‭ ‬يكون‭ ‬أسوأ‭ ‬عندما‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬خطط‭ ‬عمل‭ ‬واستراتيجيات‭ ‬تركز‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬المادي‭ ‬مع‭ ‬غياب‭ ‬الجانب‭ ‬الأهم‭ ‬وهو‭ ‬الجانب‭ ‬الإنساني‭ ‬والوجداني‭ ‬الذي‭ ‬يعد‭ ‬رأس‭ ‬الهرم‭ ‬في‭ ‬الأولويات‭. ‬

أمام‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬تدهور‭ ‬الإنتاجية‭ ‬يعود‭ ‬بشكل‭ ‬أساسي‭ ‬إلى‭ ‬الجوانب‭ ‬النفسية‭ ‬والوجدانية‭ ‬والإدراكية‭. ‬وهي‭ ‬جوانب‭ ‬شبه‭ ‬مهملة،‭ ‬فيما‭ ‬يطغى‭ ‬النظام‭ ‬الفني‭ ‬والمادي‭ ‬على‭ ‬بيئة‭ ‬العمل،‭ ‬مع‭ ‬سيادة‭ ‬نظام‭ ‬السيطرة‭ ‬المطلقة‭ ‬التي‭ ‬يتبعها‭ ‬التخوف‭ ‬والقلق‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الموظفين‭. ‬وكما‭ ‬أشرت‭ ‬هذه‭ ‬مشكلة‭ ‬عامة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬دول‭ ‬العالم‭. ‬

والمشكلة‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المشكلة‭ ‬أصبحت‭ ‬ظاهرة‭ ‬مقبولة‭ ‬في‭ ‬بيئات‭ ‬العمل،‭ ‬وتحول‭ ‬الوظيفة‭ ‬إلى‭ ‬عبودية‭ ‬ولكن‭ ‬بشكل‭ ‬مزّين‭ ‬ومنمق‭. ‬

وهنا‭ ‬يمكنني‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬السبب‭ ‬الرئيسي‭ ‬لتدهور‭ ‬الحالة‭ ‬النفسية‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬الإنتاجية‭ ‬هو‭ ‬المدير‭ ‬النرجسي‭ ‬والميكافيلي‭. (‬الشخص‭ ‬الذي‭ ‬يتميز‭ ‬بسلوكيات‭ ‬غير‭ ‬مقبولة‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬الانتهازية‭ ‬والتضليل‭ ‬والسيطرة‭ ‬على‭ ‬الآخرين‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬تحقق‭ ‬الغايات‭ ‬أو‭ ‬المصالح‭ ‬الشخصية‭). ‬فمثل‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭ ‬ليس‭ ‬لديه‭ ‬اعتبار‭ ‬للجوانب‭ ‬الإنسانية‭ ‬وإنما‭ ‬يركز‭ ‬على‭ ‬الإنتاج‭ ‬بأي‭ ‬ثمن‭. ‬ويدير‭ ‬العمل‭ ‬بمزاجية‭ ‬وبقرارات‭ ‬فوقية‭ ‬غير‭ ‬قابلة‭ ‬للنقاش‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النمط‭ ‬قد‭ ‬يحقق‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬إنتاجية‭ ‬عالية،‭ ‬ولكنها‭ ‬نتائج‭ ‬مرحلية‭ ‬غير‭ ‬مستدامة‭. ‬لذلك‭ ‬تجد‭ ‬أن‭ ‬الشركات‭ ‬الخاسرة‭ ‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬تتميز‭ ‬بهذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الإدارة‭. ‬

لذلك‭ ‬كما‭ ‬نحاول‭ ‬أن‭ ‬نحمي‭ ‬العاملين‭ ‬من‭ ‬حوادث‭ ‬العمل،‭ ‬يفترض‭ ‬أن‭ ‬نوفر‭ ‬لهم‭ ‬الحماية‭ ‬النفسية‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬العمل‭. ‬وهذا‭ ‬يكون‭ ‬بالقانون‭ ‬للحد‭ ‬من‭ ‬التصرفات‭ ‬النرجسية‭ ‬للإدارات‭ ‬لأن‭ ‬الإساءة‭ ‬النفسية‭ ‬أسوأ‭ ‬من‭ ‬الإساءة‭ ‬البدنية‭. ‬ومتى‭ ‬ما‭ ‬وفرنا‭ ‬الأمان‭ ‬والاستقرار‭ ‬النفسي‭ ‬سنلمس‭ ‬تطور‭ ‬الإنتاجية‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭. ‬

فيمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الموظف‭ ‬هو‭ ‬الحلقة‭ ‬الأضعف‭ ‬وهو‭ ‬الضحية‭ ‬في‭ ‬الغالب‭. ‬وطالما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مقصرا‭ ‬في‭ ‬عمله‭ ‬بشكل‭ ‬تعمدي‭ ‬وبيّن،‭ ‬فإننا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نلومه‭ ‬على‭ ‬تدني‭ ‬الإنتاجية،‭ ‬بل‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نبحث‭ ‬في‭ ‬طبيعة‭ ‬بيئة‭ ‬العمل‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬ادعاءات‭ ‬المديرين‭ ‬بأنه‭ ‬كسول‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬منتج‭.‬

*‭ ‬أشرت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬المشكلة‭ ‬عالمية‭ ‬وليست‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬فقط‭. ‬ولكن‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬قارنا‭ ‬الوضع‭ ‬النفسي‭ ‬في‭ ‬بيئات‭ ‬العمل‭ ‬لدينا‭ ‬بالدول‭ ‬الأخرى،‭ ‬هل‭ ‬تجده‭ ‬أفضل‭ ‬أم‭ ‬أسوأ؟

**‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬أفضل‭ ‬نوعا‭ ‬ما‭ ‬بسبب‭ ‬الأخلاقيات‭ ‬والتعاليم‭ ‬الدينية‭ ‬وليس‭ ‬بسبب‭ ‬الإدارات‭. ‬فدول‭ ‬المنطقة‭ ‬تصنف‭ ‬ضمن‭ ‬ثاني‭ ‬أفضل‭ ‬مجموعة‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬بعد‭ ‬الدول‭ ‬الاسكندنافية،‭ ‬ولكن‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬نقارن‭ ‬أنفسنا‭ ‬بمن‭ ‬هو‭ ‬أسوأ‭. ‬

ثم‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬العوامل‭ ‬الأخلاقية‭ ‬تعد‭ ‬عوامل‭ ‬خارجية‭ ‬وليست‭ ‬ضمن‭ ‬جوهر‭ ‬الإدارة‭ ‬في‭ ‬مواقع‭ ‬العمل،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬نفتقره‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭. ‬نعم‭ ‬هناك‭ ‬مبادرات‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬بعض‭ ‬الشركات‭ ‬المعروفة‭ ‬في‭ ‬البحرين،‭ ‬ولكنها‭ ‬تبقى‭ ‬جهود‭ ‬غير‭ ‬ممنهجة،‭ ‬ولا‭ ‬تركز‭ ‬على‭ ‬إلغاء‭ ‬أسلوب‭ ‬أو‭ ‬عقلية‭ ‬المدير‭ ‬النرجسي‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تحارب‭ ‬وتلغى‭ ‬تماما‭.‬

*‭ ‬ولكن‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الموظفين‭ ‬يشكون‭ ‬من‭ ‬عوامل‭ ‬أخرى‭ ‬قبل‭ ‬الجانب‭ ‬النفسي،‭ ‬مثل‭ ‬ضغط‭ ‬العمل‭ ‬أو‭ ‬ضغوطات‭ ‬الحياة؟

**‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬العمل‭ ‬الصحية‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بضغط‭ ‬العمل،‭ ‬وحتى‭ ‬هذه‭ ‬المشكلة‭ ‬تعود‭ ‬في‭ ‬الأخير‭ ‬إلى‭ ‬نمط‭ ‬المدير‭ ‬النرجسي‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ينعكس‭ ‬في‭ ‬الأخير‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬النفسي‭. ‬فالوضع‭ ‬الطبيعي‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يستمتع‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬وليس‭ ‬العكس‭. ‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬يستمتع‭ ‬بعمله‭ ‬فهذا‭ ‬مؤشر‭ ‬على‭ ‬وجود‭ ‬خلل‭ ‬في‭ ‬البيئة‭ ‬أو‭ ‬المسؤول‭.‬

نعم‭ ‬العوامل‭ ‬الخارجية‭ ‬تلعب‭ ‬دورا‭ ‬أيضا‭ ‬وقد‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬التحكم‭ ‬فيها،‭ ‬ولكن‭ ‬الدراسات‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬العوامل‭ ‬الداخلية‭ ‬في‭ ‬المؤسسة‭ ‬تؤثر‭ ‬في‭ ‬إنتاجية‭ ‬الفرد‭ ‬بشكل‭ ‬أكبر‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬العوامل‭ ‬الخارجية‭. ‬وإذا‭ ‬ما‭ ‬ركزنا‭ ‬على‭ ‬بيئة‭ ‬العمل‭ ‬يمكن‭ ‬تحقيق‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الصحة‭ ‬النفسية‭ ‬لأن‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يشعر‭ ‬بالرحة‭ ‬النفسية‭ ‬ينتج‭ ‬أكثر،‭ ‬وبالمقابل‭ ‬الفرد‭ ‬المنتج‭ ‬يكون‭ ‬مستقرا‭ ‬بشكل‭ ‬أكبر،‭ ‬بل‭ ‬يكون‭ ‬مسالما‭ ‬بشكل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬غيره،‭ ‬وبالتالي‭ ‬من‭ ‬صالح‭ ‬أي‭ ‬مؤسسة‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬العامل‭ ‬منتجا‭ ‬بأسلوب‭ ‬صحيح‭ ‬وليس‭ ‬بأسلوب‭ ‬ميكافيلي،‭ ‬لأنك‭ ‬لو‭ ‬تتبعت‭ ‬حالات‭ ‬تغيير‭ ‬الوظيفة‭ ‬تجد‭ ‬أن‭ ‬الموظف‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الحالات‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬مديره‭ ‬وليس‭ ‬الوظيفة‭ ‬ذاتها‭.‬

ومن‭ ‬خلال‭ ‬الدراسات‭ ‬التي‭ ‬نجريها‭ ‬على‭ ‬الشركات‭ ‬في‭ ‬البحرين،‭ ‬يتضح‭ ‬أن‭ ‬أولويات‭ ‬العامل‭ ‬التي‭ ‬تدعم‭ ‬الحالة‭ ‬النفسية‭ ‬بشكل‭ ‬ينعكس‭ ‬على‭ ‬إنتاجيته،‭ ‬أولها‭ ‬إدراك‭ ‬القيمة‭ ‬الذاتية،‭ ‬والتقدير‭ ‬والاحترام،‭ ‬العلاقات‭ ‬الإنسانية‭ ‬والوجدانية،‭ ‬حسن‭ ‬التواصل‭. ‬وللأسف‭ ‬أغلب‭ ‬هذه‭ ‬الأولويات‭ ‬نجدها‭ ‬غائبة‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬يمثل‭ ‬جوهر‭ ‬دور‭ ‬إدارات‭ ‬الموارد‭ ‬البشرية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الإدارات‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬أدوار‭ ‬إدارية‭ ‬تنظيمية‭ ‬وفنية‭ ‬فقط‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬الجوانب‭ ‬الوجدانية‭ ‬الحسية‭. ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬ربحية‭ ‬الشركة‭ ‬وإنتاجيتها‭ ‬يعتمد‭ ‬كما‭ ‬ذكرت‭ ‬على‭ ‬الحالة‭ ‬النفسية‭ ‬للموظفين،‭ ‬فمثلا‭ ‬64%‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬نجاح‭ ‬الشركة‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬العاملين‭ ‬السليمين‭ ‬نفسيا،‭ ‬والنسبة‭ ‬الباقية‭ ‬هي‭ ‬للجوانب‭ ‬المادية‭ ‬والفنية‭ ‬والبنى‭ ‬التحتية،‭ ‬و80%‭ ‬من‭ ‬جودة‭ ‬أداء‭ ‬العاملين‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬الجوانب‭ ‬النفسية‭. ‬في‭ ‬حين‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬التركيز‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬مواقع‭ ‬العمل‭ ‬يركز‭ ‬على‭ ‬الجوانب‭ ‬الفنية‭ ‬والمالية‭.‬

وحتى‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬محاولات‭ ‬فإنها‭ ‬للأسف‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬بالأسلوب‭ ‬الصحيح‭. ‬لأن‭ ‬التفاصيل‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬أهمية‭ ‬عن‭ ‬الخطوة‭ ‬نفسها‭. ‬فمثلا‭ ‬خلال‭ ‬الاستشارات‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬الشركات،‭ ‬نصحتهم‭ ‬أن‭ ‬يقدموا‭ ‬وجبة‭ ‬غداء‭ ‬لجميع‭ ‬العاملين‭ ‬والموظفين‭ ‬كنوع‭ ‬من‭ ‬التقدير‭ ‬وكسر‭ ‬الروتين‭. ‬وتمت‭ ‬الموافقة‭ ‬على‭ ‬الأمر‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الإدارة‭. ‬ولكن‭ ‬فوجئت‭ ‬أنه‭ ‬تم‭ ‬توزيع‭ ‬قسائم‭ (‬فوجرات‭) ‬على‭ ‬الموظفين‭! ‬فأخبرتهم‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الخطوة‭ ‬ستاتي‭ ‬بنتائج‭ ‬عكسية‭ ‬لأنها‭ ‬تعد‭ ‬إساءة‭ ‬للموظف‭ ‬وليس‭ ‬تقديرا‭. ‬وبالفعل‭ ‬كانت‭ ‬النتائج‭ ‬عكسية،‭ ‬وأغلب‭ ‬الموظفين‭ ‬لم‭ ‬يستخدموا‭ ‬القسيمة‭ ‬لأنهم‭ ‬اعتبروها‭ ‬إهانة‭ ‬لهم‭.‬

أحد‭ ‬المسؤولين‭ ‬كان‭ ‬يشتكي‭  ‬من‭ ‬أنه‭ ‬صرف‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المبالغ‭ ‬على‭ ‬تطوير‭ ‬المرافق‭ ‬والأجهزة‭ ‬في‭ ‬مؤسسته‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬تخصيص‭ ‬أماكن‭ ‬للاستراحة‭ ‬والخدمات،‭ ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬يحصد‭ ‬نتائج‭ ‬إيجابية‭ ‬في‭ ‬ارتفاع‭ ‬إنتاجية‭ ‬الموظفين،‭ ‬وكان‭ ‬يتذمر‭ ‬منهم‭ ‬ويؤكد‭ ‬أنهم‭ ‬لا‭ ‬يستحقون‭ ‬ما‭ ‬صرفه‭ ‬عليهم‭. ‬وعندما‭ ‬أصر‭ ‬على‭ ‬معرفة‭ ‬رأيي،‭ ‬أجبته‭ ‬بأن‭ ‬الأب‭ ‬الذي‭ ‬يكون‭ ‬جميع‭ ‬أبنائه‭ ‬غير‭ ‬سويين،‭ ‬تكون‭ ‬المشكلة‭ ‬فيه‭ ‬هو‭ ‬وفي‭ ‬أسلوب‭ ‬تعامله‭ ‬وعلاقته‭ ‬معهم‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬أبنائه‭. ‬هنا‭ ‬فهم‭ ‬الرسالة‭ ‬المبطنة‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬الخلل‭ ‬فيه‭ ‬هو‭ ‬وعلاقته‭ ‬مع‭ ‬موظفيه‭ ‬وأسلوب‭ ‬إدارة‭ ‬المؤسسة،‭ ‬وكل‭ ‬تلك‭ ‬الكماليات‭ ‬المادية‭ ‬لن‭ ‬تؤثر‭ ‬طالما‭ ‬هناك‭ ‬مشكلة‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬الإنساني‭ ‬والنفسي‭ ‬للموظفين‭.‬

وبالتالي‭ ‬الحل‭ ‬باختصار‭ ‬هو‭ ‬خلق‭ ‬بيئة‭ ‬عمل‭ ‬مسالمة‭ ‬وإنسانية‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬رب‭ ‬العمل‭. ‬فمن‭ ‬مصلحته‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬نفسية‭ ‬الموظف‭ ‬مرتاحة‭ ‬ومستقرة‭ ‬لأن‭ ‬ذلك‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬إنتاجيته‭. ‬

***

حصيلة‭ ‬نقاشاتنا‭ ‬هذه‭ ‬تمثل‭ ‬رسالة‭ ‬إلى‭ ‬جميع‭ ‬المسؤولين‭ ‬في‭ ‬مواقع‭ ‬العمل،‭ ‬خلاصتها‭ ‬أن‭ ‬الاستثمار‭ ‬في‭ ‬الصحة‭ ‬النفسية‭ ‬للموظفين‭ ‬يعد‭ ‬استثمارا‭ ‬في‭ ‬إنتاجيات‭ ‬العمل‭ ‬والعائدات،‭ ‬وليست‭ ‬ترفا‭ ‬أو‭ ‬تكاليف‭ ‬إضافية‭. ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬رسالة‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬فرد‭: ‬‮«‬لا‭ ‬تتردد‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تجد‭ ‬نفسك‭ ‬داخل‭ ‬عيادة‭ ‬نفسية‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬شعرت‭ ‬بأية‭ ‬أعراض‭ ‬تتعلق‭ ‬بالصحة‭ ‬النفسية‭ ‬أو‭ ‬تدني‭ ‬الإنتاجية،‭ ‬بادر‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬المشكلة‭ ‬مرضا‭ ‬مزمنا‮»‬‭.‬

 


 

 

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا