حاورها: علي الستراوي
أن تكون أمام امرأة، خبرت الطفولة بما حوتها من أحلام وهواجس، شاغلت روحها وفكره، فقدمتها لنا روائية بأعمال رائدة انشغلت فيها كامرأة ولدت بداخلها حروب صامتة ومنشغلة آناً.
مع الروائية والفنانة فتحية ناصر، التي كعادتها مبتسمة دائماً رحبة الصدر، منشغلة بهمها الصغير نحو هموم الآخرين، وحول هذا الانشغال كان هذا الحوار:
* بين الطفولة والصبا كيف وظفت فتحية سردياتها؟
- الطفولة حاضرة بكل سحرها وإحساسها في أغلب أعمالي، أعتقد أننا نصبح ما نحن عليه بفضل، أو بسبب، كل ما يمر بنا في طفولتنا، فقد تظل مخاوف الطفولة تتحكم بنا أحيانا حتى عمر متقدم، وربما، لآخر أعمارنا.
في ثلاثيتي، طرحت هذا الأمر بكثير من التفصيل، حيث كان لكل حادث، ولكل قول أحيانا أثره في تكوين شخصية البطلة، وتشكيل أفكارها وتحريضها على التطلع الى شيء ما في الحياة. وفي (سيرة عاطفية) أيضا، كانت السيرة تسترجع فترة الطفولة بأكملها، وتكتفي بها عن باقي مراحل الحياة.
* في عوالم سردياتك الروائية الكثير من الجهات التي أفصحتِ عنها بحب وبشفافية، قادتك الى كل هذا الفيض، ما الهاجس الذي دعاك الى كل هذا الجمع وما هو المفقود؟
- كل تجربة صاحبها هاجس مختلف. في (الرجل السؤال) كان الهاجس الكثير من الأسئلة الاجتماعية الشائكة، وسؤالها الأكبر هو (الرجل-الصديق). في ثلاثية (أبحث عن نفسي) كان الهاجس هو دراسة الشخصية وتفكيكها إلى مكوناتها الأساسية، وتحليل كل ما من شأنه ترك أثر عليها، حتى تتراكم الآثار وتحدث التغييرات في الشخصية على مدار مراحل مختلفة من عمرها. وبالتالي، يمهد ذلك السبيل أمام المتلقي ليسقط التفاصيل على ذاته، ويتساءل، بنفس المنوال، كيف ولماذا، ومتى تغيرت شخصيته.
في (سيرة عاطفية) كان لدي هاجس شخصي وهو التنفيس عن كروب الطفولة أولا، ثم توضيح مدى قسوة الطلاق واليتم والتشتت الأسري، وآثارهم الممتدة على الأطفال. بالإضافة إلى توثيق وضع المرأة الاجتماعي في تلك الحقبة، ومظالمها.
أما ما أتمنى توظيفه في تجربتي فمازال كثيرا، لكنني أفضل عدم الإفصاح عنه على أمل أن تمهلني الحياة حتى أنتهي من إنجازه.
* هل يكتفي القاص أو الروائي بأن يكون حالما حتى يبدع؟
- كلا بالطبع. نحن نريد، ونحاول بكتابتنا أن نغير شيئا من الواقع، نريد أن نلامسه ليشعر القراء بأن ما نكتبه يشبههم. لهذا، فالأحلام وحدها لا تجدي نفعا.
الكتابة ليست عملا رومانسيا، ولا عالما ورديا نختلقه لنستأنس به عن وحشة العالم، بل إنها تكون في أفضل حالاتها حين تلامس الواقع وتحكي عنه. نعم، نحتاج إلى أن نكون حالمين قليلا حتى يتملكنا الشغف فنشرع في الكتابة وننجز مشاريعنا الأدبية. وأيضا، ليوهمنا الحلم بأن كتابنا القادم سيحقق النجاح ويلفت الأنظار، فنتجرأ على إصداره في ظل هذه الظروف القاتلة للإبداع. ولكن فيما عدا ذلك، فالحلم سيظل حلما إن لم نقم بخطوات عملية لتنفيذه.
* جمال الكتابة السردية وأبعادها من أين نستقيها؟
- من الحياة نأتي بالفكرة أولا، أما جمالية الكتابة فنستقيها من القراءة والاطلاع، وتحريض أذهاننا لابتكار أساليب جديدة نوظف بها أدواتنا، من لغة وحبكة وبناء تقني للقصة. ومن ثم حث أنفسنا على امتلاك الشجاعة لطرق سبل جديدة لم يسلكها من قبلنا أحد.
* في التجارب الروائية الانسانية لدى الروائيين الكبار على مستوى الذكور والإناث أين موقعك ضمن هذا؟
- لا يروق لي تصنيف الأدب بهذا الشكل. أظن أن من الضروري أن نحاول التجرد، قدر الإمكان، من نوعنا الإنساني ونحن نكتب، لأننا سنكتب مرة عن رجل، ومرة عن امرأة، ومرة عن طفل، ومرة عن شيخ.. وعلينا في كل مرة أن نتقمص إحساس كل منهم.
نحن نفترض أن كتابة المرأة ستكون عاطفية، وأكثر اهتماما بالتفاصيل، وكتابة الرجل عملية أكثر وموجزة. لكن في الواقع، وقد كنت عضو لجنة تحكيم لمسابقات في القصة مرات عدة، وكنا نحكّم النصوص من دون أسماء؛ فظننا، مرات، أن نصا ما كتبته امرأة، واتضح لنا أن الكاتب رجل. وتكرر معنا حدوث العكس من ذلك أيضا.
* نرجع للطفولة في تجربتك الروائية ما الذي يميزها بحسب وجهة نظركِ عن تجربتك الحالية وأنت امرأة راشدة؟
- الطفولة مليئة بالأحاسيس الرقيقة، والضعف والهشاشة النابعين من جهلنا بالعالم. وقلة حيلتنا كصغار، وحاجتنا الى الحماية. حين نكون أطفالا نكون مسلوبي الإرادة، كل الأشياء تقع علينا وتحدث لنا من دون أن يكون لنا دور في إدارة معاركنا، وربما هذا ما يدفعنا للكتابة فنذود بأقلامنا عن أنفسنا؛ ونبررها لمن حولنا ظنا منا أن العالم ينتظر منا هذا التبرير، ثم نكبر ونكتشف أن العالم غير معني بنا وأن فيه قضايا أهم من قضايانا. وحكايا أهم. وهكذا، فأنت حين تكبر مع الكتابة بضع سنين، لا تعود مقبلا عليها باندفاعية المنفعل، وحزن المحتاج للبوح، بل برؤية المفكر، ورويّة المتأني. تصبح مختارا لمواضيعك بكامل إرادتك، في حين كانت في السابق هي من تختارك لما تركته عليك من تأثير، أكانت قد وقعت عليك بشخصك؛ أم شهدتها في عالم طفولتك المحدود.
* من يتقدم عن الآخر في تجربتك السردية، وهل أنت مع أن يكون الإبداع وليد الفطرة والموهبة أم أنت ترين أن الأدب هو عمر زمني يبدأ مع الكاتب منذ الطفولة؟
- بالتأكيد الموهبة وليدة الفطرة، ولهذا نسعى لاكتشاف الموهوبين في سن مبكرة. فإذا حظي الموهوب بالرعاية والاهتمام منذ طفولته، تمكن من أدواته بشكل أفضل ونمت موهبته بشكل أسرع. ولا أدري من الذي بدأ بجعل الناس يصدقون بأن الموهبة شيء يمكن اكتسابه!
يمكن للمرء اكتساب (المهارة) مع المران والتجريب، المهارة أمر مختلف. ولكن الموهبة هي شيء فطري بالضرورة (من اسمها فهي «هبة») على الأقل هذا ما أعتقده أنا.
* بعد ثلاثيتك الروائية، توقف الزمن عندك ولم نر جديدا يوازي ما أصدرته فتحية في فترة عدت إبداعية وغنية، ما السبب؟
- أسباب متداخلة. منها ما هو متعلق بظروف العمل، ومنها ما هو متعلق بظروف النشر، وهو الأهم. هناك عقبات كثيرة يواجهها الكتّاب في يومنا هذا حتى صرت لا تحمل هم الكتابة وحده، بل هم الرقابة وهم توزيع الكتاب والتسويق له بعد أن تخلت دور النشر عن هذا الدور.
هذا الواقع يفرض عليك الكثير من الحدود فتضطر الى التحايل عليها أحيانا، أو قد تضطر الى التخلي عن مشروع برمته تفاديا للاصطدام بها.
* لو تركت لك الحديث عن واقعنا الثقافي بماذا تتحدثين؟
ماذا أقول؟!
- على امتداد عالمنا العربي صار هناك تهافت غريب على (الجوائز)، فبات كل كاتب لا يحصل على جائزة يُنظر له ككاتب من الدرجة الثانية ويُسأل عن عدم حصوله على جائزة وكأنه في موضع اتهام. كما ظهرت عندنا شريحة من الكتاب يكتبون أساسا من أجل الحصول على الجوائز! فيختارون الأفكار التي يعلمون أنها ستساعد في ترشيحهم لجائزة ما، بناء على التوجهات العالمية الداعمة لفئة محددة من البشر.
دور النشر الرصينة لا تخدم الكاتب بشكل جيد، فلا توزع كتابه على كل المكتبات، ولا تسوّق له ولو بمنشور متواضع على الانستجرام لا يتطلب نشره جهدا ولا وقتا. بينما دور النشر التجارية تراها تروج باستماتة لكتب الرعب والإثارة التي تصدرها وتستهدف بها القراء الصغار.
أما في البحرين، فقد كنا قبل أعوام تحت مظلة بعض المؤسسات الأهلية؛ ثم أصبحنا جماعات متفرقة تتكون هنا وهناك من آن لآخر والآن أصبحنا نعمل فرادى. في حين توقفت عن الكتابة كثير من الأقلام الواعدة بعد أن ضربها اليأس.
*-النقد هل خدم الكاتب وماذا تقولين للناقد؟
- قلّما يخدم النقد كاتبا في وقتنا الحالي.
نقادنا متخاذلون. متقاعسون عن الكتابة عنا، وفوق ذلك هم مستاؤون منا مهما فعلنا: إن أهديناهم كتبنا زعموا أننا نحرجهم ونريد إجبارهم على أن يكتبوا عنا. وإذا لم نهد كتبنا اليهم فنحن متعالون عليهم وغير مهتمين بآرائهم!. إن حاولنا الرد على بعض ملاحظاتهم بخصوص نصوصنا فنحن (لا نقبل النقد)، وإن سكتنا فنحن (لا نعرف كيف نرد!). إن كتب عنا قارئ عادي فقراءته ليست ذات قيمة. وإن كتب عنا (قارئ - كاتب) فقراءته انطباعية غير أكاديمية. فأين الناقد الأكاديمي ولماذا لم يكتب؟
لديهم أعذار جاهزة يرددونها أغلب الوقت: يخشون غضبة الكاتب، هنالك طفرة في الإصدارات ولا يسعهم الاطلاع عليها كلها !.. كلها حجج واهية. بدليل أن لديهم الوقت لكتابة القراءات وإجراء الدراسات حول كثير من الأعمال الأدبية غير البحرينية. وللأسف، هناك أيضا ظاهرة استكتاب النقاد (وبعض الكتّاب أحيانا)، فتجدهم في هذه الحال يتسابقون للكتابة عن المؤلف الذي تقف وراءه مؤسسة تقدم له الدعم. أما العصامي منا، فلا يحظى بالالتفات.
أقول للنقاد: من حقكم أن تمتنعوا عن الكتابة عمن لا تريدون، لا أحد يستطيع أن يفرض عليكم أن تكتبوا عنه عنوة، لكن في المقابل، كفوا عن لوم الكتّاب واتهامهم بالتقصير. فنحن مستمرون بالكتابة بنقدكم أو من دونه، ما يؤكد أننا نعمل ما بوسعنا. فلا تلقوا بتقصيركم وتخاذلكم علينا.
* المعاصرة هل هي فيما يقدمه الجيل الجديد من تجارب أم هي امتداد لتاريخ ما بعد (حي بن يقظان) لابن الطفيل التي عدت في وقتها سردا حداثيا معاصرا ومغايرا؟
- كل معاصر يعني بالضرورة أنه يعبر عن روح عصره، لكنه ينهل أيضا مما سبقه ويبني عليه فيكون امتدادا له، وحين نرحل نحن عن هذه الحياة، وتمر السنوات وتتغير الدنيا، سيصبح أدبنا أيضا من الماضي ويحل محله أدب الجيل الجديد، (المعاصر) وهكذا.
نحن نتمنى أن نقدم أدبا طويل العمر، لا يفقد قيمته إذا جد جديد، ويظل يعتبر (معاصرا) مهما طال به الأمد، ولكن الحقيقة أننا كبشر، ذوو رؤية محدودة. ولن نزيد عن أن نكون لغيرنا كما كان غيرنا لنا من قبل: امتدادا لحقبة جديدة من أدب معاصر لاحق.
* هل أنت مع الحداثة في كسر ما هو ثابت في الذهنية القديمة للإنسان أم أنت مع ما هو ثابت ويجب أن يتغير؟
- سنة الحياة هي التغيير. يجب أن نسلم بذلك. والحياة ستتغير سواء شئنا ذلك أم أبيناه. على أن ذلك لا يعني أن كل تغيير سيكون للأفضل أو لمصلحة الإنسان. لذا أعتقد أن من المهم أن تكون لدينا مرجعية ثابتة نحتكم إليها قبل أن نقرر إن كنا سنقبل الانصياع للتغيير أو مقاومته. ورغم ذلك سيظل هناك ما يُفرض علينا بشكل ما؛ وما يجرفنا معه مهما حاولنا المقاومة.
* أصبحت الكتابة عند بعض الواقفين عليها أنها رسالة تدرّس أولاً ثم تعطى إجازة الكتابة، فنرى الورش الباهظة الثمن هنا وهناك ومن خلال تجربتي مع الكتابة أرى أن الإبداع لا يدرس، وإنما يستفاد من الدرس كعنصر ثان بعد الموهبة، فهل أنت مع الطرف الأول أو مع الثاني مع ذكر الأسباب؟
- أنا مع الطرف الثاني من دون ريب. وقد أثبتت تلك الورش، بعد سنوات من انتشارها، أنها ليست أكثر من فكرة تجارية.
أنا أفهم أن تقام ورشات لتعليم كتابة السيناريو، لأن الكتابة للشاشة تتطلب معرفتك بطريقة قيام فريق الإنتاج والإخراج بتنفيذ العمل، ما يفرض عليك شكلا معينا في الكتابة يسهل على باقي الفريق القيام بمهماتهم. أما ورشة لكتابة الرواية، فلا أظن أن ذلك ذا جدوى حقيقية، بدليل أن كل تلك الورشات لم تأت حتى الآن باسم واحد متميز ومهم في عالم الأدب.
وأعتقد، بكل صراحة، أن الأولى والأنفع هو أن يتم إعطاء الراغبين بالكتابة الأدبية دروسا في اللغة العربية. فكثير ممن يكتبون اليوم غير متمكنين من اللغة، بل يجاهرون بالقول إن إتقانها غير ضروري ليكونوا كتابا جيدين. وحين تقرأ أعمالهم لا تستطيع أن تفهم منها جملة واحدة لفرط ما بها من أخطاء في تركيب الجمل وفي الإملاء والنحو، فلا تدري ماذا يريد هذا الكاتب أن يقول!
لو ركزنا على تطوير هذا الجانب، وتركنا الكتابة الروائية رهنا لفكر الكاتب وموهبته، لكان ذلك أجدى.
* انخرطتِ مؤخرا في تجربة التمثيل المسرحي وفي الدراما التلفزيونية ما الذي استفدته من خلال هذا الانخراط؟
- الكتابة والتمثيل متشابهان من حيث تقمص الشخصيات ومعايشتها، وما يرافق ذلك من انفعالات عاطفية. ولكن طبيعة العمل في التلفزيون لا تتيح للممثل الوقت الكافي لمعايشة الشخصية مثلما يفعل التمثيل المسرحي. لذا، فللمسرح على التلفزيون درجة. وللكتابة على كل منهما درجات عدة. فهي التي تبتكر الشخصيات في المقام الأول. وأنت، ككاتب، تتعايش مع كل شخصيات عملك، طوال فترة كتابتك للعمل، وتدرك دوافعها تماما.
ما استفدته من التمثيل مرتبط أكثر باكتساب الخبرة في تنفيذ الأعمال الفنية. فقد تسنى لي بعد ذلك أن أخطو خطوة أبعد فأقدمت على إخراج فيلم قصير بعنوان (إسعاف) والذي كتبته وظل حبيس الأدراج برهة من الزمن، إذ حالت ظروف مختلفة دون إنتاجه. ثم تحصلتُ بعض الخبرة وواتتني الفرصة فتمكنت من إنجازه بنفسي.
* المكاشفة في الأدب سندان مؤلم لدى المبدع المخلص لتجربته يقابله قيد داخلي بمعنى (الرقيب) ما يضع الكاتب بين سندانين أقساهما مر، بماذا نجيب على من يقسو على الإبداع؟
- نحن نعاني من مشكلة مزمنة في هذا الإطار، وهي أن القارئ يميل لاعتبار أن كل ما يكتبه الكاتب هو، لا بد، تجربة شخصية عاشها. وهذه الفكرة كثيرا ما تلجم الكاتب وتردعه عن المكاشفة. وإن كان يبدو لي أن الظاهرة تراجعت قليلا في الآونة الأخيرة، إلا أن الرقيب ما زال حيا بداخل الكاتب.
ولأكون صادقة، فلا بد أن أقول إنني لا أرى الرقيب أمرا سيئا في المطلق. فها نحن نرى ما الذي حل بالعالم بعد أن ضعفت النفوس، وضعفت الرقابة وأصبحت، في مواضع، خارجة عن السيطرة. إنما أرى أنه لا بد دائما من الموازنة بين الأمرين، وتحديد الجرعة المناسبة من المكاشفة في كل عمل، بحسب ما تحتمله فكرة العمل، وأيضا بحسب الجمهور الذي يخاطبه العمل. وحتى لا تكون المكاشفة لا هدف منها سوى إثارة الضجة ولفت الانتباه.
* ما المشروع الأدبي الذي يلاحقك منذ كنت في أول التجربة ولايزال رهين المحبسين بالنسبة إليك؟
- عادة ما أعمل على الأفكار أولاً بأول. لذلك ليس هناك فكرة محددة راودتني وتأكدت من أهمية طرحها، إلا عملت على تحقيقها في أقرب فرصة.
* العمل بالنسبة إلى المبدع هل هو قيد أم هو تجربة أخرى يستفيد منها الكاتب في غناء التجربة الجديدة؟
العمل تجربة مهمة بالتأكيد. فالاحتكاك بالكثير من الناس يعني التعرف على شخصيات أكثر قد يتمكن الكاتب من استثمارها في كتابته، حتى المشاكل التي تواجهنا في العمل قد يقدّر لها ألا تنجو من قلم الكاتب فتتحول لقصة مهمة. نعم، هو يقيدنا في بعض الأحيان. ولكن حين تضع قيد الوظيفة في كفة وإثراءها لمخيلتك في الأخرى، ترجح الكفة الثانية، وهي الأدعى لبقاء الكاتب.
* جديدك القادم هل سيكون بمثابة كنز أخفيته لسنوات وأنت اليوم عازمة على كشفه، وهل لنا معرفته إن كان موجودا؟
- لدي عمل روائي قيد التحضير وقد يستغرق بعض الوقت. أما كونه كنزا، فلا يستطيع كاتب أن يعتبر كتابه من الكنوز. الحكم هو للقراء. هم فقط من يقررون وصف كتابك بما يرونه مناسبا.
* كثرت السرديات الضعيفة والتي شجع عليها واقع زمن الطفرة الحاسوبية من خلال قنوات التواصل الرقمية، ما الذي استفادت منه فتحية وما هو المؤلم في هذا الانشغال؟
- لا أظنني استفدت من هذه الطفرة كما تسنى لغيري أن يستفيدوا. بل ربما أضرتني لأني لا أشارك بها إلا بقدر محدود؛ في حين من ألف كتابا واحدا صار يملأ الدنيا ضجيجا لا قعود له، معتبرا نفسه قد وصل لقمة الإنجاز.
على أنني لا أرى هذه الطفرة هي السبب الوحيد الذي أدى لانتشار السرديات الضعيفة، بل هناك عوامل متعددة أخرى. منها ورشات الكتابة التي تحدثنا عنها سابقا، والتي زيّنت للناس أن انضمامهم إليها يعني منحهم شهادة رسمية بكونهم كتابا معتمدين. وأيضا غياب النقد الجاد والرصين عن الساحة لعب دورا؛ إذ صار الجميع يظن بأن الكتابة أمر سهل، طالما لديهم لوحة مفاتيح.
* اللغة العربية يقال إنها في زمن الضعف والخوف عليها ماذا تجيبين أو تقولين لمن يخشى عليها؟
- أشاركهم ذات المخاوف. فنحن اليوم أمام جيل يربي أبناءه على اللغة الإنجليزية، ويتحدث معهم بها حتى في داخل بيته. ومن هؤلاء، يؤسفني أن أقول، كتّاب أيضا وشعراء، أي قامات يفترض بها أن تكون أكثر حرصا على لغتنا الأم.
وهذه ليست المشكلة الوحيدة. فكل ما حولنا اليوم يعزز التخلي عن اللغة والتهاون والاستخفاف بها ويساهم في إضعافها. بدءا من زرع الاعتقاد في أذهان الصغار بأن اللغة العربية صعبة ومعقدة، وبأننا غير محتاجين لتعلم النحو والقواعد. مرورا ببرامج التلفزيون التي لم تعد تلزم مذيعيها بالعربية الفصحى فتسمع التقارير بالعامية (أو بمزيج من العامية والفصحى) حتى في نشرات الأخبار. كذلك فحلقات الرسوم المتحركة التي يتابعها الصغار صارت تعتمد اللهجة المصرية أو خليطا من اللهجات، وغابت المسلسلات التاريخية عن الشاشة لسنوات ثم عادت تتكلم، هي الأخرى، بالعامية! وامتدت العدوى أيضا للصحافة، فتجد حسابات الصحفيين في الانستجرام تنتشر في عناوينها المفردات الدارجة رغم وجود المرادفات الفصيحة وسهولة البحث عنها في الإنترنت! وأضف لكل ذلك أن البرامج التعليمية المعنية باللغة (كالمناهل ومدينة القواعد) قد اندثرت تماما، فلا جديد يُنتج في هذا المضمار، ولا القديم يعاد عرضه.
فكيف نطمئن على مصير لغتنا بعد كل ذلك؟
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك