العدد : ١٧٠٧٧ - الثلاثاء ٢٤ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٧٧ - الثلاثاء ٢٤ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

مقال رئيس التحرير

أنـــور عبدالرحمــــــن

بالإيمان نتوق إلى السلام

الحكيمُ‭ ‬البوذيُّ‭ ‬سيج‭ ‬جيش‭ ‬كيلسانج‭ ‬قال‭ ‬ذاتَ‭ ‬مرة‭: ‬حين‭ ‬تسودُ‭ ‬العالم‭ ‬الفوضى‭ ‬وعدم‭ ‬الاستقرار،‭ ‬فإن‭ ‬البشرَ‭ ‬في‭ ‬العالمِ‭ ‬بكلِّ‭ ‬أعمارِهم‭ ‬وانتماءاتهم‭ ‬يتطلعون‭ ‬إلى‭ ‬كلمةٍ‭ ‬واحدة‭ ‬تتعلق‭ ‬بها‭ ‬كل‭ ‬آمالهم،‭ ‬هذه‭ ‬الكلمة‭ ‬هي‭ ‬السلام‭.‬

السلامُ‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول‭ ‬وقبل‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬السلام‭ ‬الداخلي‭. ‬من‭ ‬دون‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعمَّ‭ ‬سلامٌ‭ ‬خارجي‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أننا‭ ‬جميعا‭ ‬نتطلع‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يعمَّ‭ ‬السلام‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬تسوده‭ ‬الفوضى‭ ‬وتفتك‭ ‬به‭ ‬الصراعاتُ‭ ‬الدموية‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتحقق‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يترسخ‭ ‬السلامُ‭ ‬في‭ ‬عقولنا‭ ‬وقلوبنا‭.‬

في‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬التي‭ ‬يحتفل‭ ‬فيها‭ ‬العالمُ‭ ‬بأعياد‭ ‬الميلاد‭ ‬واستقبال‭ ‬العام‭ ‬الجديد،‭ ‬نحاول‭ ‬نحن‭ ‬الكتابَ‭ ‬أن‭ ‬نتجنبَ‭ ‬توجيه‭ ‬الانتقادات‭ ‬أو‭ ‬شن‭ ‬الهجمات‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬بشكل‭ ‬عام؛‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬نعكر‭ ‬صفو‭ ‬الاحتفالات‭ ‬ونزيد‭ ‬من‭ ‬هموم‭ ‬القراء‭. ‬ومع‭ ‬هذا،‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يتجاهل‭ ‬حقيقة‭ ‬واضحة‭ ‬للجميع؛‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬الموت‭ ‬والدمار‭ ‬الذي‭ ‬تشهده‭ ‬منطقة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬اليوم‭ ‬ترتكبه‭ ‬دولةٌ‭ ‬واحدةٌ‭.‬

هذه‭ ‬الدولة‭ ‬لديها‭ ‬تعطُّش‭ ‬جنوني‭ ‬للتدمير‭ ‬والقتل‭ ‬والسيطرة‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬وكل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬المجاورة‭ ‬الضعيفة‭. ‬تفعل‭ ‬هذا‭ ‬بالطريقة‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تفعلها‭ ‬روما‭ ‬قبل‭ ‬عشرين‭ ‬قرنا‭.‬

يحدث‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬أمام‭ ‬أعين‭ ‬العالم،‭ ‬لكن‭ ‬الدول‭ ‬الكبرى‭ ‬تقف‭ ‬صامتة‭ ‬تمامًا‭ ‬ولا‭ ‬تفعل‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬كي‭ ‬توقف‭ ‬هذه‭ ‬الجرائم‭ ‬والمآسي‭ ‬المُروعة‭.‬

السؤال‭ ‬هو‭: ‬في‭ ‬ظل‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬وهذه‭ ‬الظروف‭ ‬المأساوية،‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نستمر‭ ‬وأن‭ ‬نواصل‭ ‬الحياة‭ ‬وتحمل‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الآلام؟

الحقيقةُ‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬الأزمات‭ ‬والمحن‭ ‬الكبرى‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الوقت‭ ‬الحالي،‭ ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬الفوضى‭ ‬التي‭ ‬نشهدها،‭ ‬فإنه‭ ‬ليس‭ ‬أمامنا‭ ‬سوى‭ ‬الإيمان‭ ‬والتعلق‭ ‬بالأمل‭.‬

الإيمانُ‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاته‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يُوقف‭ ‬هذه‭ ‬المآسي‭ ‬والآلام‭ ‬أو‭ ‬ينهي‭ ‬الأزمات،‭ ‬لكنه‭ ‬يعيننا‭ ‬على‭ ‬تحملها‭. ‬هذا‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬الدروس‭ ‬التي‭ ‬تعلمناها‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬البشرية‭.‬

حين‭ ‬نتأمل‭ ‬تاريخ‭ ‬البشرية‭ ‬الطويل،‭ ‬ونقرأ‭ ‬ما‭ ‬شهده‭ ‬من‭ ‬دموع‭ ‬وخوف‭ ‬وآلام،‭ ‬ومن‭ ‬مآسٍ‭ ‬مروعة‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬كثيرة،‭ ‬قد‭ ‬ينتابنا‭ ‬اليأسُ‭ ‬والإحباط‭ ‬من‭ ‬هول‭ ‬ما‭ ‬جرى‭. ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬التاريخ‭ ‬يعلمنا‭ ‬أيضا‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬الظلام‭ ‬يأتي‭ ‬النور،‭ ‬ومن‭ ‬رحم‭ ‬المآسي‭ ‬والآلام‭ ‬والأحزان‭ ‬يأتي‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬الأملُ‭. ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬تقودنا‭ ‬نحو‭ ‬نور‭ ‬الإيمان‭.‬

الأحداث‭ ‬والوقائع‭ ‬التي‭ ‬شهدها‭ ‬تاريخ‭ ‬البشرية‭ ‬وعرفت‭ ‬فيها‭ ‬الأمل‭ ‬بعد‭ ‬المآسي‭ ‬وبعد‭ ‬اليأس‭ ‬تحدث‭ ‬عندما‭ ‬تتغلب‭ ‬النوازع‭ ‬الإنسانية‭.. ‬عندما‭ ‬يسود‭ ‬التسامح‭ ‬والعفو‭ ‬محل‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬الانتقام‭. ‬عندما‭ ‬يحدث‭ ‬هذا‭ ‬يكون‭ ‬هو‭ ‬العلاج‭ ‬الشافي‭ ‬الذي‭ ‬يطهرُ‭ ‬قلوبنا‭ ‬ويعززُ‭ ‬مشاعر‭ ‬الحب‭ ‬والتعاطف‭ ‬تجاه‭ ‬الآخرين‭.‬

نحنُ‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬الوطنية‭ ‬لدينا‭ ‬مسؤولية‭ ‬والتزام‭ ‬بأن‭ ‬نكون‭ ‬صرحاءَ‭ ‬مع‭ ‬القارئ‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬نستطيع‭. ‬لهذا‭ ‬يجبُ‭ ‬أن‭ ‬نعترف‭ ‬بأن‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬السلام‭ ‬اليوم‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تشهده‭ ‬منطقتنا‭ ‬والعالم‭ ‬طريق‭ ‬طويل‭ ‬وبعيد‭ ‬جدا،‭ ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يضمن‭ ‬تحققه‭.‬

لهذا‭ ‬فإن‭ ‬كل‭ ‬رجل‭ ‬وكل‭ ‬امرأة‭.. ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬لديه‭ ‬نوازع‭ ‬الخير‭ ‬ويتحلى‭ ‬بالقيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يتحمل‭ ‬مسؤوليته‭ ‬اليوم‭ ‬ويقوم‭ ‬بدوره‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نوقف‭ ‬هؤلاء‭ ‬المجرمين‭ ‬الذين‭ ‬يرتكبون‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الجرائم‭ ‬ويشيعون‭ ‬كل‭ ‬هذ‭ ‬الدمار‭.‬

عندما‭ ‬بعث‭ ‬الله‭ ‬المسيح‭ ‬عيسى‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬رسالته‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬الفضيلة‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬الطمع‭ ‬والجشع،‭ ‬والمحبة‭ ‬والتسامح‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬الانتقام‭ ‬والقسوة،‭ ‬والحب‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬الكراهية‭.‬

هذه‭ ‬التعاليم‭ ‬والقيم‭ ‬التي‭ ‬بشر‭ ‬بها‭ ‬المسيح‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬حكام‭ ‬روما‭ ‬قد‭ ‬وصلوا‭ ‬في‭ ‬وحشيتهم‭ ‬وإجرامهم‭ ‬حدا‭ ‬رهيبا‭. ‬كانوا‭ ‬قد‭ ‬بلغوا‭ ‬درجة‭ ‬من‭ ‬التوحش‭ ‬بحيث‭ ‬كانوا‭ ‬يرسلون‭ ‬الرجال‭ ‬كي‭ ‬يتقاتلوا‭ ‬حتى‭ ‬الموت‭ ‬في‭ ‬الساحات‭ ‬العامة‭ ‬ويلقون‭ ‬المؤمنين‭ ‬إلى‭ ‬الأسود‭ ‬الجائعة‭ ‬كي‭ ‬تلتهمهم‭.‬

لهذا‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬ما‭ ‬نشهده‭ ‬اليوم‭ ‬ليس‭ ‬جديدا‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البشرية؛‭ ‬إنه‭ ‬امتداد‭ ‬لأسوأ‭ ‬وأفظع‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬شهدناه‭ ‬في‭ ‬حقب‭ ‬تاريخية‭ ‬سابقة‭ ‬وإن‭ ‬اختلفت‭ ‬الوسائل‭.‬

الشاعر‭ ‬والفنان‭ ‬والمفكر‭ ‬جبران‭ ‬خليل‭ ‬جبران‭ ‬كان‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬إن‭ ‬إحساسك‭ ‬الداخلي‭ ‬بالخلود‭ ‬سوف‭ ‬يرشدك‭ ‬ويجعلك‭ ‬تعي‭ ‬أن‭ ‬الحياة‭ ‬لا‭ ‬يحدها‭ ‬زمان،‭ ‬وأن‭ ‬الأمس‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلا‭ ‬ذاكرة‭ ‬اليوم،‭ ‬وأن‭ ‬الغد‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلا‭ ‬حلم‭ ‬اليوم‮»‬‭.‬

نحن‭ ‬البشر‭ ‬لدينا‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬نفعل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬خير‭ ‬وحق‭ ‬وإنساني‭. ‬الأمر‭ ‬يتطلب‭ ‬التكاتف‭ ‬والتحلي‭ ‬بالقيم‭ ‬الانسانية‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬اختلافاتنا‭ ‬في‭ ‬الدين‭ ‬والعقيدة‭ ‬والانتماءات‭ ‬العرقية‭.‬

بمناسبة‭ ‬الأعياد‭ ‬وميلاد‭ ‬المسيح‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬أتمنى‭ ‬لإخوتي‭ ‬وأخواتي‭ ‬المسيحيين‭ ‬ولكل‭ ‬العالم‭ ‬عيد‭ ‬ميلاد‭ ‬سعيد‭ ‬وسنة‭ ‬جديدة‭ ‬سعيدة‭.‬

 

 

إقرأ أيضا لـ"أنـــور عبدالرحمــــــن"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا