في الشرق الأوسط، كانت إيران بحساب التداعيات الإقليمية للغزو الأمريكي للعراق المستفيد الأول الذي امتدت رقعة حلفائه من لبنان (حزب الله) وسوريا (نظام بشار الأسد) إلى سيطرة الأحزاب والجماعات الموالية لطهران على الحكم في العراق وصارت المليشيات المسلحة المدعومة منه رقمًا فاعلًا في عموم المنطقة وحائط حماية لأمن إيران ومصالحها في مواجهة العدوين الأمريكي والإسرائيلي وللمساومة معهما حين يأتي وقت المفاوضات والصفقات. لذلك ارتكزت السياسات الإيرانية إلى توظيف الأدوات العسكرية بصور مباشرة وغير مباشرة في مناطق نفوذها وانطلاقًا منها للحصول على مزيد من المكاسب الاستراتيجية مستغلة حالة السيولة الإقليمية الهائلة.
من جهة أولى، حددت طهران مكاسبها المحتملة بالحفاظ على شبكة حلفائها من دون تقويض ودعمهم للتغلب على الانتفاضات التي اجتاحت المنطقة ونشدت التخلص منهم ومن طبائعهم الدكتاتورية والفاسدة. وهكذا فعلت طهران مع نظام بشار الأسد في سوريا منذ 2011 ومع حزب الله إبان الاحتجاجات الشعبية اللبنانية بين 2019 و2021 ومع الأحزاب الحاكمة في العراق 2019، وحالت دون زوال أو تراجع سيطرتهم على مقاليد الحكم والسياسة في البلدان الثلاثة.
من جهة ثانية، بحث الإيرانيون عن استخدام الأدوات التي أمدوا بها حلفاءهم لتهديد المصالح الأمريكية والإسرائيلية في الشرق الأوسط وللضغط على الفاعلين الإقليميين القريبين من امريكا بتضييق ساحات حركتهم. وهكذا فعل الحرس الثوري الإيراني باستخدام المليشيات الموالية في العراق لمناوءة الولايات المتحدة وحزب الله المتمدد من لبنان إلى سوريا لمناوءة المصالح الإسرائيلية بغية إبعاد واشنطن وتل أبيب عن تهديد أمن طهران وعن التعرض لمنشآتها النووية وعن تدمير سلاح حلفائها، وهو ما رتب سلسلة من العمليات العسكرية المتتالية (الاعتداءات على القواعد الأمريكية في العراق وسوريا واغتيال قائد الحرس الثوري آنذاك قاسم السليماني والهجمات المتبادلة بين حزب الله وإسرائيل) عصف باستقرار المنطقة.
من جهة ثالثة، حضرت إيران في الأراضي الفلسطينية بالترويج لمقولات المقاومة والممانعة تجاه إسرائيل وخطاب تدمير «الكيان الصهيوني» وبالدعم العسكري والتنظيمي المستمر لحركة حماس وللفصائل الفلسطينية الأخرى في غزة وبالتهميش المنظم في ساحات فعلها الإقليمي للسلطة الفلسطينية الرسمية. ونتج عن سياسات وممارسات طهران في هذا السياق والتي كان هدفها العريض هو الضغط على إسرائيل، نتج عنها توتر مستمر في علاقاتها مع مصر (العلاقات الدبلوماسية مقطوعة بين البلدين منذ 1979) ومع الأردن أي مع الدولتين العربيتين المجاورتين لفلسطين وإسرائيل والمتبنيتين لخيار السلام وحل الدولتين لتسوية القضية الفلسطينية.
من جهة رابعة، سعت إيران إلى توسيع شبكة حلفائها المذهبيين باتجاه اليمن الذي تحولت انتفاضته إلى حرب أهلية تنوعت أطرافها وبرزت في سياقاتها جماعة الحوثي كقوة مؤثرة توجهت إلى طهران بطلب الدعم العسكري والمالي والتنظيمي والسياسي. وبالقطع لم تبخل عاصمة الجمهورية الإيرانية عن مد خيوط الدعم والمساندة، وهي الباحثة أبدا عن أتباع ووكلاء بالقرب من المراكز السنية الكبيرة في الشرق الأوسط. وكان من تداعيات ذلك نشوب حرب على الأراضي اليمنية بين 2015 و2023 أسفرت عن مقتل آلاف اليمنيين وعن دمار واسع في بلد من أفقر بلاد المنطقة.
غير أن تمدد النفوذ الإقليمي لإيران في الشرق الأوسط وتوظيفها لشبكة حلفائها لحماية مصالحها وتهديد المصالح الأمريكية والإسرائيلية وما أسفر الأمران عنه من تقويض الاستقرار في العراق وسوريا ولبنان واليمن ومن تعريض أمن ومصالح الدول العربية في الخليج ومصر والأردن لأخطار متزايدة وبتوترات متصاعدة مع تركيا (فيما خص الأوضاع السورية ومن بعدها الحالة العراقية)، رتب خليطا من العداء والتوجس الإقليمي تجاه طهران التي وجدت نفسها زعيمة لأتباع هم إما نظم حكم فاشلة (نظام بشار الأسد) أو لمليشيات مسلحة (الحشد الشعبي العراقي والمليشيات الإيرانية في سوريا وحزب الله اللبناني والحوثيين اليمنيين) وفي صراعات مباشرة وتوترات وحروب بالوكالة ليس فقط مع الشيطان الأكبر الولايات المتحدة والأصغر إسرائيل، بل أيضًا مع كل الفاعلين الإقليميين الكبار.
بين 2020 و2023، سعت إيران إلى خفض مناسيب التوتر المحيطة بها وتنبهت إلى خطر اقتصار سياستها في الشرق الأوسط على الصراع وأدواتها على الأدوات العسكرية المباشرة وغير المباشرة. ومن ثم انفتحت إيران على محاولات للتهدئة أسفرت قبل 7 أكتوبر 2023 عن استعادة العلاقات الدبلوماسية مع السعودية وفرض شيء من الاستقرار في اليمن، وعن تنامي تبادلاتها التجارية والاستثمارية مع الإمارات وبعض دول الخليج الأخرى، وعن انفتاح سياسي ودبلوماسي محدود بينها وبين مصر.
وبعد مساعي احتواء الصراعات بين 2020 و2023 وما إن وقع هجوم السابع من أكتوبر 2023، إلا وإيران كقوة إقليمية تشترك مع إسرائيل في المغامرة بتوظيف الآلة العسكرية لحسم صراعات لا سبيل لاحتوائها ثم تفكيكها وحلها دون تسويات سياسية.
فقد كانت أسلحة طهران، من بين عوامل أخرى، وراء دفع حماس إلى القيام بهجماتها، وكانت أيضًا وراء هجمات الصواريخ والمسيرات التي حاول من خلالها حزب الله والحوثيون مثلما حاولت المليشيات في العراق قض مضاجع تل أبيب و«إسناد» المقاومة الفلسطينية. وكانت إيران بدعمها العام للحركات والأحزاب والمليشيات المسلحة بعيدًا عن أراضيها تستعلي على منطق الدولة الوطنية في جوارها العربي وتحيل مؤسسات الحكم والأمن في لبنان والعراق وسوريا واليمن إلى كيانات عاجزة، وتوسع ساحات الحروب المباشرة والحروب بالوكالة المتورطة هي وحلفاؤها بها في مواجهة إسرائيل. في كل هذه السياقات، توافقت طبيعة سياسات وممارسات الجمهورية الإيرانية مع جنون اليمين الإسرائيلي المتطرف ورتبت دينامية المواجهة بين الفاعلين الإقليميين الإيراني والإسرائيلي لنشوب حرب استنزاف مستمرة إلى اليوم في الشرق الأوسط وصار لها من النتائج المباشرة والتداعيات العامة الكثير.
فحرب إسرائيل في غزة والحرب بينها وبين حزب الله، وبجانب كلفتها الإنسانية الباهظة والدمار الشامل الذي أسفرت عنه في القطاع، وفي المناطق الجنوبية في لبنان، قضت على الشق الأكبر من القدرات العسكرية لحماس والفصائل الفلسطينية المتحالفة معها وعلى جزء مؤثر من قدرات حزب الله الصاروخية وسلاحه المتراكم بفعل عقود من الدعم الإيراني. أدت الحرب في غزة ولبنان أيضًا إلى تصفية الصفوف القيادية الأولى لحماس وحزب الله وأضعفت إمكانياتهما التنظيمية والسياسية على نحو حتما سيغير من وضعيتهما ودورهما فيما خص قضايا الحكم والإدارة في الأراضي الفلسطينية ولبنان.
كذلك قربت الحرب بين حكومة إسرائيل المكونة من اليمين المتطرف والديني وبين تنفيذ سيناريوهات فرض مناطق عازلة في شمال غزة وفي جنوب لبنان وتهجير السكان منها، والتهديد الممنهج بتهجير واسع النطاق في القطاع وبعمليات عسكرية وأمنية متكررة فيه وفي لبنان، والضغط المستمر في الضفة الغربية والقدس الشرقية بخليط الاحتلال والاستيطان والأبارتيد المعهود بغية خنق الحق الفلسطيني وإسكات الأصوات الإقليمية والعالمية المتضامنة معه.
وفي سياقات الحرب في غزة ولبنان والإضعاف الشديد الذي طال حماس وحزب الله من جرائها ومع تحولها إلى حرب استنزاف إقليمية، وجهت إسرائيل ضربات قاسية إلى إيران مباشرة وحلفائها في سوريا والعراق واليمن إن كفعل هجومي أو كرد فعل على هجمات المعسكر الإيراني لترتب أوضاعا، من بين عوامل أخرى، أدت إلى سقوط نظام بشار الأسد وتراجعا ليس بالمحدود في القدرات العسكرية والإمكانيات الاستراتيجية والسياسية لذلك المعسكر الذي تمدد نفوذه بوضوح قبل 2023.
بل إن إسرائيل تحقق لها بسقوط نظام الأسد في خواتيم 2024 مغنمًا كبيرًا تمثل في انكماش دراماتيكي في خرائط النفوذ الإيراني التي اختفت منها سوريا، وغلقت عليها الطرق التي كانت تمر عبر الأراضي السورية لتقديم الدعم العسكري والمالي للحليف الأهم حزب الله اللبناني الذي حتمًا لن يعود كما كان قبل أكتوبر 2023، وانحسرت ساحاتها على الأقل مؤقتا في أدوار المليشيات الموالية في العراق وفي أفعال الحوثيين في اليمن.
{ أستاذ العلوم السياسية
بجامعة ستانفورد الأمريكية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك