ظَلَّ عمره يَتشوّق ابنا، يَحمِلُ اسمه ويبقي ذِكره بعد فَناء، هَكذا حَال أبناء الطِّين؛ لابُدَّ وأن يرَوا أثرهم بعد الرَّحيل عَلامةً عَلى الفَلاحَةِ، فالجدران وأشَجار الكَافور والنَّخلاتِ المُعمِّرات أطلال تُكابِّر، تُذكِّر الحَيّ بالميتِ، الشيخ «محمد الأبيض» انتظر حَتّى أحرقه لهيب الانتظار، يئس من تَعطُّفِ الأقدار، يَأوي إلى خلوةِ جده يتَمسَّح بها، يمسك مسبحته الكوك يكرها في وجومٍ، لا يزال يتَذكَّر حالَ عهد إليه جده وهو في حَشرجِة الموت :«ابق على الطَّريق»، يتَخوُّفُ أن يَؤول مآله ليصبح كذكرِ النخيل الفارد الذي غرس نواته بجوارِ الجدار مُنتظرا طرحه، لكَنَّه خَيَّب ظَنَّه، يتَحلَّب رِيقه، يتشهى وهو يمرر يده فوق كرنافه، يُؤمِّلُ نفسه أن يرى بلحه يتلألأ تحت وهَجِ الشمس، كما أخبر «انشراح» زوجته الفاتنة، حِين أوصته أن يّتّخِذ من خِلفةِ نخلات الباشا الحُمر، فحَلاهم كاَلجَّلابِ، هكذا تمَنَّت، وهكذا فعل.
لكنَّه لم يحسب للأقدارِ حِسابها، إذ كيف يَخيب غرسه، وهو مَضرَب الأمثال بين الفلاحين، يتَحاكون عن ضربةِ فأسه، وبّراعةِ يده، وخصوبة أرضه، ووفرة محصوله، لم تفلح الرعاية فجاء ذكرًا خشنا، يهتز جريده.
مُتحدِّيا، يُطالِعه مع الصَّباحِ، يلعن اليوم الذي غَرَسَ نواته، أقدم ألف مرة أن يقتلعه من جذورهِ، لكنه اهتدى بالأخيرِ فجعلَ من أكواز طَلعهِ سبيلا، يلقح نخيل الناس، شَبَّ «محمد الأبيض» يافِعَا، تلقفه جده يربيه في حِجره، يلقنه آداب الطريق، لم يكن في نسلهم ولا من أجداده، من رُزِقَ حمرة وجهه، وزُرقة عينيه ولا شعره الأشهب، حِدة بصره في حِلكة الليل أكسبته شهرة، لكنه وحده من يكره شمس النهار، يتلصّص عليها من فجوةِ داره، ريثما يخرج يلعن ويَسبّ، ماتت «انشراح» وحلم الأمومة يخايلها كزوجها، الذي أسلم أمره للهِ مُضطرا، انقطع تدريجيا عن الناس، انكفأ على نفسه في غرفةٍ منزويا، وفي صبيحةِ يومٍ صائف، أطلق «محمود أبو جعارة» صوته الذي يشبه النِّباح من ميكروفون الجامع :«يفنى الخلق ويبقى الله، توفي إلى رحمة الله الشيخ محمد الأبيض، والجنازة بعد صلاة الظهر»، هل كان الرجل على اتفاق بالرَّحيلِ مع ذَكرِ النَّخيل، ضربت الصِّفرة جريده، وتَهدّلَ قلبه المعتدل، نَخَرَ السُّوس جزعه المتين، فتدلّى عنقه، ولم يعد بد من اقتلاعه، ليرحل إثرِ صاحبه.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك