شغف مختلف
للفن المسرحي طعم منفرد لا يضاهيه فن آخر في تجلياته العميقة التي تحفر في النفس الإنسانية؛ لتصل إلى حقيقتها من حيث الفعل والسكون، أو من حيث الثنائية الأبدية المتصارعة المتمثلة في الروح والجسد وتعبيراتهما التي تجسد قضايا الإنسانية الكبرى على خشبة صغيرة نسبيا، ولكنها تحتضن ألم هذا الكائن القلق وأمله، ومن هنا تنادى المفكرون والفلاسفة في دعوتهم إلى مسرح وخبز لإنتاج حياة مطمئنة مختلفة عن واقع مضطرب مخيف.
في السابع والعشرين من مارس يحتفل بيوم المسرح العالمي في كل الدول، حيث تقدم العروض المسرحيّة والندوات التخصصية في المسرح، وكل قطر أو هيئة مسرحيّة أو فنية تحتفل وفق أجندتها الخاصة التي تبرز أدوارها وتحتفي بفنانيها وخصوصا روادها وأعمالها المسرحيّة، وهي فرصة مواتية حقا لتكريم المسرحيّين الذين بذلوا كثيرا وضحوا ببسالة من أجل تطوير الفن المسرحي هنا أو هناك، وكما عرف عن عمالقة المسرح الأفذاذ بذوبانهم في هذا الفن من دون مقابل مادي يساوي الجهد الإبداعي المبذول من أجل تقديم تلك الاشتغالات الفنية على خشبة المسرح للمتلقين، حيث تتفتق مواهبهم، وتتعملق أفكارهم، وتتضخم إبداعاتهم، كل في تخصصه ومكان إبداعه.
هنا في مملكة البحرين برز عدد كبير من أساتذتنا الفنانين المسرحيّين الكبار من الرعيل الأول حتى اليوم، ولا أود تعداد أسماء النجوم المتألقة حتى لا يسقط اسم من تلك الأسماء اللامعة، إلا أني لا يمكن أن أتخطى الفنان الكبير المرحوم إبراهيم بحر المعلم والأستاذ الشغوف بالمسرح مؤلفا وممثلا ومخرجا وإداريا وناقدا ومتلقيا، وكذلك الأخ والصديق العزيز كاهن المسرح العربي والبحريني الفنان الكبير الأستاذ عبدالله السعداوي الذي يعد أنموذجا للمسرحيين العظماء، وما يميز هذا الرجل حقا ومن دون مواربة الفكر المتمرد الذي يتجاوز مفهوم التجريب، فهو موسوعة مسرحية متنقلة، يمتلك من الثقافة المسرحيّة ما يجعلنا مشدوهين بتلك القراءات المعمقة من أجل سبر عمق الفكر المسرحي، ولا يكتفي بالتنظير والهدرة الفارغة الممجوجة والمتكررة، بل يسعى إلى التطبيق والاشتغال الفعلي إن حانت له الفرصة، ولذلك لا تراه مترددا في المشاركة كممثل بأي دور مقنع، وكذلك في الإخراج والتأليف، ولا نستغرب إن رأيناه يقدم عرضا في الشارع أو المجمع التجاري أو البيت القديم، أو على أي خشبة مادام يحمل صليبه المسرحي على ظهره، وإن شعر بغربة الحلاج ومأساة تشيخوف.
في رحلته المسرحيّة الممتدة عقودا من الزمن لم يدخر السعداوي جهدا في تطوير الفكر المسرحي، وليس العمل المسرحي فحسب، وذلك منذ انطلاقاته مع فرقة الاتحاد الشعبي في المحرق، وبعدها فرقة مسرح مدينة عيسى التي كانت بمثابة مختبر مسرحي تختلج فيه الفِكر والمشاريع الفنية الإبداعية، ليستقر أخيرا مع رفاق دربه في مسرح الصواري الذي يحمل شعلة التجريب والتحديث المسرحيّ، بل وذهب شغفه المسرحي إلى خارج الحدود في دولة قطر والإمارات العربية المتحدة ليؤسس الفرق المسرحيّة، ويشعلها من وهج عشقه لفاتنته الخشبة المسرحيّة وفضاءاتها.
استطاع هذا النهِم في القراءة والمطالعة أن يشارك في ترسيخ التجريب المسرحي من خلال كتابه الذي صدرت منه طبعتان (المسرح: القلب المشترك للإنسانية)، ومجموعته المسرحية (جرينمو) التي لم تجد النور بعد، وتقديم عشرات من الأعمال المسرحيّة مخرجا ومؤلفا وممثلا، واستطاع أن يجد له موطئ قدم راسخة في المسرح العربي بفوزه بأفضل إخراج في إحدى دورات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، وما إن نلتقي بأي فنان أو باحث مسرحي من أي قطر عربي إلا ويسأل عن المعلم السعداوي الذي يستحق كل التكريم والاحتفاء به، وكل أملي أن أقدم دراسة بحثية عن السعداوي المفكر والفنان المسرحي الذي خرّج جيلا من الفنانين المتميزين الذين انفتحت لهم الآفاق الفنية من بوابة السعداوي التجريبية، إذ إنه ذو إيمان راسخ بأهمية الروح الشبابية التي يتوخى منها حمل راية التجريب بما يتناسب ومتغيرات العصر، ومن خلال حوار معه بمعية الصديق الفنان خالد الرويعي كان متحمسا جدا للرؤية الشبابية في الاستقلال الفني عن أي مرجعية فنية أو تيار أدبي، لأنهم -حسب رأيه- خليقون بتأسيس تجربتهم الشبابية بما يتناسب والتحولات الفكرية اليوم، فهم ليسوا ملزمين بأي إرث ثقافي في مختلف المجالات الإبداعية والأجناس الأدبية.
نتطلع أن يكون اليوم العالمي للمسرح فرصة متجددة لانطلاقات فنية تناقش فيه قضايا المسرح وسبل تطويره، ويحتفل فيه بقامات المسرح ورموزه الأحياء قبل الأموات، وأن يقدم أبو الفنون إلى المجتمع والمتلقين كأدب وممارسة فنية راقية تفيض بالأسئلة والإشكالات التي تُعمِل الفكر وتشعل الوجدان.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك