مناظر مألوفة: وقوف عشوائي.. عدم احترام المسارات..
تقدم على الطوابير.. وتجاهل اللوحات التحذيرية
يُحكى أن قيادة السيارة كانت يوما (فنا وذوقا.. وأخلاقا)، وكان الاحترام هو السائد بين السائقين، والالتزام بقوانين المرور هو السمة الغالبة في شوارع البحرين وطرقاتها. كان الرقيب هو الذات، والحسيب هو الضمير.
مرت الأيام والأعوام، وتغيرت الأحوال. باتت القيادة كما يصفها أحد من عاصر (زمن الطيبين) أشبه بدخول معترك الحياة؛ تجاهد كي تصل بأمان، وتناضل كي تحفظ البقية الباقية من أعصابك أمام سيل التجاوزات والمخالفات والسلوكيات المتهورة التي تشهدها حولك، وتضطر الى التغاضي عنها بمرارة.
فما الذي حدث وما الذي تغير؟
بات من الطبيعي أن تقف في طابور السيارات منتظرا الإشارة الخضراء؛ فتجد من يأتي بكل استهتار من الخلف ويتقدم الجميع ليقف في بداية الطابور، معتبرا ذلك تميزا! أو أن يأتي من هو في أقصى اليمين لينتقل في الدوار (من دون حتى إشارة) إلى أقصى اليسار محدثا ارتباكا ومخلفا مخاطر جمة على الآخرين، معتبرا ذلك فنا!
في كثير من الأحيان، بات الالتزام بالمسار الصحيح ضربا من التخلف، وإعطاء إشارة الدوران نوعا من الرجعية، وعدم احترام دور الآخرين مصدرا للتباهي، وفسح المجال في المسار الأيسر بالشوارع السريعة نوعا من الضعف!
بات من المعتاد أن يقف البعض أينما شاء وكيفما شاء. لم يعد لمسارات الطوارئ هيبتها، ولا للخطوط الصفراء اعتبارها، ولا للوحات التحذيرية تأثيرها، ولا لخطوط المشاة تقديرها، ولا لممنوع الوقوف أثرها. هذا عدا عن السرعة المتهورة والدخول في الاتجاه المعاكس وتجاوز الإشارة والاستعراض.. وحدث ولا حرج.
بات من المألوف أن تدخل طريقا ضيقا فتجد السائق الذي أمامك يوقف سيارته في منتصف الطريق كي يطلب من «البرادة» أو المطعم. وكل ما عليك هو أن تجاهد كي تجد لك منفذا. ولو كنت لبيبا، تغاضى ولا تتهور وتنبهه بخطأ وقوفه، فستواجه ما لا يحمد عقباه.
عند إعداد هذا الموضوع والاجتهاد لتصوير بعض هذه النماذج المستهترة، دخلنا شارعا ضيقا في إحدى مناطق البحرين، فكانت سيارة تقودها فتاة متوقفة في وسط الطريق بالاتجاه المعاكس تنتظر طلبا من أحد المحلات، ولأن الشارع ضيق، كان على باقي المركبات أن تتداخل وتتعاون كي تواصل طريقها. وكانت السائقة تتشاغل بهاتفها دون اكتراث بفعلتها. ولما لمحتنا نصور المركبة فتحت النافذة وانهالت علينا بالسب والشتم، وشملت الشتائم الأم والأب والعشيرة! ولم تعبأ لحظة بمخالفتها الأخلاقية قبل المرورية!
شخص آخر في دهاليز سوق واقف المعروف باختناقاته المرورية أوقف سيارته بشكل رأسي ليغلق نصف المسار، مضاعفا من حدة الأزمة المرورية، ونزل من السيارة، وعند نزوله حاولنا الحديث معه وتنبيهه بأنه قد تسبب بمضاعفة مشكلة الاختناق، فكان الغضب هو الرد، واكتفى بقوله: (دبّروا روحكم)!
أما السيدة التي وقفت في منتصف الطريق كي تطلب من كافتيريا، فقد سمعناها عبر النافذة تنادي على الآسيوي وتقول له نصف دينار سمبوسة، ووقفت تنتظر الطلب، مسببة توقف عشرات السيارات خلفها انتظارا للفرج لأن الطريق ذو مسار واحد. وعندما حاولنا تنبيهها، ردت بالتهديد والوعيد! وبررت الأمر بأنها تنتظر الطلب.
للأسف، يتحمل المجتمع مسؤولية ردع مثل هذه النماذج، وهذا التحمل ينبع من الصمت على الخطأ؛ فالمفاجأة في قصة السيدة التي كانت تطلب من الكافتيريا أن غضب السواق الآخرين لم يكن من وقفتها بقدر ما كان من نزولنا من السيارة لتوجيهها ومن ثم تأخيرهم أكثر، لأن المعتاد في مثل هذه الحالات هو أن يحاول كل شخص أن يغلغل سيارته بأي طريقة ويواصل طريقه، وهكذا يفعل من خلفه، من دون أن يتسببوا بأي إزعاج أو جرح لمشاعر صاحبة المعالي التي تنتظر (السمبوسة)!
يذكر لنا مواطن متقاعد حادثة وقعت له عندما كان في سوق واقف أيضا، وجد أمامه سيارة دفع رباعي تقف في منتصف المنعطف لتغلق المسار، وصاحبها ينتظر الطلب من المطعم، فيما كانت عشرات السيارات تجاهد كي تمر. يقول المواطن: شعرت بالمسؤولية وقررت أن أجعله يتحرك، فضربت له بوق السيارة وأشرت له كي يحرك سيارته لأنها تعترض طابور السيارات.
وكان الجواب أنه بكل بساطة أن نزل السائق وكان شابا في العشرينيات، وبدأ يهدد بالضرب إذا لم يحترم المواطن نفسه ويمضي في طريقه.
وعندما نقلنا هذه القصة إلى أحد المواطنين من كبار السن، ابتسم وقال: من الحكمة أن لا تتورط مع هؤلاء، لأن مخالفته تدل على شخصيته غير السوية، ومن ثم ترفّع عنهم.
ربما كانت النصيحة في محلها، ولكن السؤال هنا: إذا ترفع الجميع عن هذه النماذج، فمن يردعهم إذن؟
في كثير من الدول الأجنبية يلعب المواطنون أنفسهم دور الرقيب. فمن يخالف قانون المرور مثلا، يوقفه الافراد والمارة ويحذرونه بالتي هي أحسن، وإذا لم يستجب يتم إيصال الامر إلى الجهات المعنية. ومن ثم يضبط المجتمع نفسه بنفسه.
بالمقابل، لا يمكن تحميل إدارة المرور المسؤولية. فالإدارة تقوم مشكورة بوضع النظم والقوانين والتنظيم ووضع أجهزة المراقبة ورصد المخالفات قدر الإمكان. ولكن من دون ثقافة مجتمعية واعية لا يمكن ان نصل إلى ما نطمح إليه من الأهداف المنشودة.
استشاري أمراض نفسية: المخالفة المرورية انحراف سلوكي!
بعيدا عن جانب القوانين والمسؤوليات، من المفيد ان نبحث بُعدا آخر هو التحليل النفسي لسلوكيات المخالفين والمستهترين بقوانين المرور. فهل يمكن اعتبار من اعتادوا على المخالفة أشخاصا أسوياء؟ وهل تعكس تلك التصرفات مشكلة نفسية أو سلوكية؟
فمن خلال بحثنا في هذا الموضوع وجدنا بعض الدراسات النفسية التي حاولت استقراء سيكولوجية مرتكبي المخالفات المرورية، التي فسرت سلوكيات الشخص المخالف بأن «لديه شخصية متهورة، ويعاني من عدم الاكتراث بالمسؤولية المجتمعية الواجب عليه تحملها، ونسبة كبيرة منهم يشعر بالاكتئاب أو التهميش أو النقص أو سوء المعاملة من الأسرة». والاغرب ان الرفاهية كانت أحد الأسباب في حالات كثيرة.
هذا الموضوع ناقشناه مع استشاري الأمراض النفسية الدكتور طارق المعداوي، وسألناه عن التفسير النفسي لاعتياد البعض مخالفة القوانين المرورية. وهذا ما أجاب عنه بقوله:
المخالفة المرورية هي انحراف سلوكي بكل ما تحمله الكلمة من معنى. صحيح ان هذا المصطلح قد يكون قاسيا بعض الشيء، ولكنه يفسر هذه السلوكيات التي تعتبر انحرافا عن المتعارف عليه في المعايير الاجتماعية المرورية. وخاصة أن هذه المخالفات تكون في الغالب عن قصد وعمد من قبل شخص متهور أو يحمل خلفية بيئية تجعله لا يلتزم بالقواعد. لذلك تجد في مجتمعاتنا بشكل عام أشخاصا لديهم صفة الاستهتار وعدم احترام الأعراف والقوانين، بل يتلذذون بمخالفة القوانين. وهذا يختلف عن المخالفة التي تنتج عن سهو أو خطأ في التقدير.
ويضيف الاستشاري المعداوي: الشخص السليم يعيش في حياته اليومية بمعايير اجتماعية وسلوكية ومرورية منضبطة. وبمجرد أن نخالف هذه المعايير عمدا يكون انحرافا سلوكيا.
ثم لدينا ما يسمى الشخصية «النرجسية»، والشخصية «السايكوباتية» التي يتميز صاحبها بسلوك ضد المجتمع والغطرسة وكره الحياة الطبيعية. وهاتان الشخصيتان متعتهما في إيذاء الآخرين وتجاوزهم. ومن ثم الشخص السايكوباتي يمارس الخطأ وهو يعلم به ولكنه لا يبالي بل ويستمتع به.
وهناك ما يمكن اعتباره الحقد الطبقي والشعور بالنقص، كأن يرى الفرد أنه لا يمتلك السيارات الفارهة الحديثة التي يمتلكها غيره. ومن ثم تكون سلوكياتهم اشبه بالانتقام بسبب هذا الشعور بالنقص.
ولدينا ايضا الشخصية الاندفاعية، وهنا لا يستطيع الفرد ان يكبت اندفاعاته، ومن ثم تجده يمارس سلوكيات متجاوزة بما فيها تجاوز الأنظمة المرورية.
من جانب آخر هناك أسباب نفسية مرضية قد يكون لها دور في هذا الجانب، منها مثلا فرط الحركة والانتباه، والقلق المرضي. وهناك الامراض الذهانية، كأن يشعر الشخص بأنه مراقب من الجميع ومن ثم لا تخلو سلوكياته من العدوانية والتجاوزات.
ويجب ألا نغفل جانبا آخر له علاقة بالمخالفات هو الإدمان والتعاطي؛ حيث تفصل الانسان عن الواقع وتخلق خللا في الإدراك الحسي، ومن ثم لا يكون في وضعه السليم.
ومن الأسباب أيضا التقليد والتشبّه؛ فبعض الشباب يتأثر بما يراه في وسائل التواصل الاجتماعي أو بعض الثقافات الخارجية أو الموجات العنيفة التي نتعرض لها والتي فعلا تجعل البعض يعاني من شخصية «سايكوباتية» تكره المجتمع.
ولكن في النهاية لا يمكن أن نعمم أو نقول إن المخالفات ظاهرة في المجتمع البحريني، أو أن هذا السبب ينطبق على جميع الحالات؛ فالأمر يتطلب تشريحا وتحليلا لطبيعة المخالفين.
* نسبة كبيرة من المخالفات تنم عن نوع من الأنانية عند البعض وعدم اكتراثهم بالآخرين، ما تفسير ذلك في رأيك؟
** للأسف الشديد بمكن القول إن الكثير من المعايير اختلفت، واحترام الاخرين اختلف، وباتت الانانية سمة مسيطرة، وكأن الشخص يقول نفسي نفسي.
أضف إلى ذلك ان هناك مشكلة حتى في التنشئة الاجتماعية، وهذا ما يشمل تعظيم الذات عند الأبناء بشكل مبالغ والدلال المبالغ وإشعارهم بأنهم أفضل من غيرهم. وأحد إفرازات ذلك يكون عدم احترام القوانين والمخالفة بشكل متعمد.
في حين لو قارنا ذلك بالوضع في السابق كان المبدأ (الجار قبل الدار)، وكان الافراد يقدمون غيرهم على أنفسهم. ولكن مع تطورات العصر وتغير الظروف تبدلت حتى بعض القيم.
* ما هي الانعكاسات السلبية الناتجة عن انتشار المخالفات المرورية في أي مجتمع؟
** التأثير يكون مباشرا على المعايير والاخلاقيات؛ فنحن تربينا على معايير أخلاقية واجتماعية معينة، وعرفنا أهمية احترام الاخرين والقوانين. ولكن عندما يتم اختراق هذه المعايير وتتكرر سلوكيات خاطئة بشكل متزايد، هنا تبدأ هذه المعايير في التغير أو الانحسار، ويبدأ المجتمع في تقبل هذا الخلل والشذوذ عن المعايير المتعارف عليها. وهنا تكمن الخطورة.
وهذا ما يجعلنا بحاجة إلى دور مجتمعي متكامل للتنبيه بالآثار الكارثية لهذه السلوكيات من جانب، وإعادة ترسيخ المعايير والقيم واحترام الاخرين من جانب آخر؛ فأغلب المشاكل التي نعاني منها هي عدم الالتزام بالمعايير المجتمعية التي تكون في أغلب الأحيان أكبر تأثيرا حتى من القوانين.
والدور الأول يبدأ من البيت والتنشئة والتربية على الاحترام والتواضع. ثم المدرسة التي يفترض ان تعزز من خلال مناهج متخصصة الوعي بآداب المرور وقوانينه. ويتبع ذلك تفعيل دور المؤسسات التعليمية والدينية بشكل خاص لإعادة هذه القيم والمعايير في المجتمع البحريني الحضاري ذي الجذور العريقة، الذي تميز عبر العصور بالطيبة والالتزام واحترام الآخرين والمساواة. ولكن للأسف نتيجة ظروف كثيرة مثل نمط الحياة والتطورات المتسارعة وغيرها تأثر البعض بذلك وبدأت السلوكيات تتغير. ولا نغفل هنا أهمية تعزيز القوانين الرادعة والملزمة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك