العدد : ١٧٠٧٧ - الثلاثاء ٢٤ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٧٧ - الثلاثاء ٢٤ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

شرق و غرب

هنري كيسنجر.. مسيرة طويلة ملطخة بدماء الشعوب

الخميس ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٣ - 02:00

بقلم‭: ‬ربيكا‭ ‬غوردن‭  ‬

 

رحل‭ ‬عن‭ ‬عالمنا‭ ‬مؤخراً‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬بلغ‭ ‬هنري‭ ‬ألفريد‭ ‬كيسنجر‭ ‬عامه‭ ‬المائة‭ ‬في‭ ‬27‭ ‬مايو‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬السنة‭. ‬كان‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬لاجئًا‭ ‬مراهقًا‭ ‬من‭ ‬ألمانيا‭ ‬النازية،‭ ‬وعمل‭ ‬مستشارًا‭ ‬للرؤساء‭ ‬عدة‭ ‬عقود،‭ ‬وهو‭ ‬تجسيد‭ ‬حي‭ ‬لما‭ ‬يسمى‭ ‬‮«‬السياسة‭ ‬الواقعية‭ ‬الأمريكية‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬تمكن‭ ‬من‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬علامة‭ ‬القرن‭ ‬بينما‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬من‭ ‬الواضح‭ ‬بقدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬مداركه،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬ليس‭ ‬بالمفاجئ‭. ‬

بعد‭ ‬شهرين‭ ‬من‭ ‬عيد‭ ‬ميلاده‭ ‬المائة،‭ ‬سافر‭ ‬إلى‭ ‬الصين،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬سرا‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1971‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬مستشارا‭ ‬للأمن‭ ‬القومي‭ ‬للرئيس‭ ‬ريتشارد‭ ‬نيكسون،‭ ‬حيث‭ ‬حط‭ ‬الرحال‭ ‬في‭ ‬بيكين‭ ‬وفاجأ‭ ‬بذلك‭ ‬العالم‭.‬

وهناك‭ ‬ــ‭ ‬على‭ ‬النقيض‭ ‬من‭ ‬الاستقبال‭ ‬الفاتر‭ ‬الذي‭ ‬حظي‭ ‬به‭ ‬مؤخراً‭ ‬مسؤولون‭ ‬أمريكيون‭ ‬مثل‭ ‬وزيرة‭ ‬الخزانة‭ ‬جانيت‭ ‬يلين‭ ‬والمبعوث‭ ‬الرئاسي‭ ‬الخاص‭ ‬للمناخ‭ ‬جون‭ ‬كيري‭ ‬ــ‭ ‬تم‭ ‬الترحيب‭ ‬بكيسنجر‭ ‬بمرتبة‭ ‬الشرف‭ ‬الكاملة‭ ‬من‭ ‬قِبَل‭ ‬الرئيس‭ ‬الصيني‭ ‬شي‭ ‬جين‭ ‬بينج‭ ‬وغيره‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬الشخصيات‭.‬

وكما‭ ‬كتب‭ ‬دانييل‭ ‬دريزنر‭ ‬من‭ ‬كلية‭ ‬فليتشر‭ ‬للقانون‭ ‬والدبلوماسية‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬بوليتيكو‭: ‬‮«‬إن‭ ‬مهرجان‭ ‬الحب‭ ‬هذا‭ ‬يخدم‭ ‬مصالح‭ ‬الطرفين‮»‬‭. ‬وبالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الصين،‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬بمثابة‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬ستكون‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬أفضل‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬واصلت‭ ‬سياسة‭ ‬الحضن‭ ‬الدافئ‭ ‬التي‭ ‬بدأها‭ ‬نيكسون‭ ‬منذ‭ ‬فترة‭ ‬طويلة‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬طلب‭ ‬من‭ ‬كيسنجر،‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬التعامل‭ ‬البارد‭ ‬الذي‭ ‬توخته‭ ‬الإدارات‭ ‬الأمريكية‭ ‬المتعاقبة‭ ‬على‭ ‬البيت‭ ‬الأبيض‭. ‬الأحدث‭.‬

بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬كيسنجر،‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬تعبير‭ ‬دريزنر،‭ ‬‮«‬تمثل‭ ‬الزيارة‭ ‬فرصة‭ ‬للقيام‭ ‬بما‭ ‬كان‭ ‬يحاول‭ ‬القيام‭ ‬به‭ ‬منذ‭ ‬ترك‭ ‬منصبه‭ ‬العام‭: ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬أهميته‭ ‬ونفوذه‮»‬‭. ‬

رغم‭ ‬بلوغه‭ ‬المئة‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬ظلت‭ ‬‮«‬أهميته‮»‬‭ ‬سليمة،‭ ‬وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬تأثيره‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬خبيثًا‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬دائمًا‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬مسيرته‭ ‬السياسية‭ ‬الطويلة‭. ‬

من‭ ‬الصعب‭ ‬على‭ ‬اللاعبين‭ ‬السياسيين‭ ‬الأقوياء‭ ‬أن‭ ‬يتخلوا‭ ‬عن‭ ‬المسرح‭ ‬بمجرد‭ ‬انتهاء‭ ‬عروضهم‭. ‬يتوق‭ ‬الكثيرون‭ ‬إلى‭ ‬الظهور‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬حتى‭ ‬عندما‭ ‬يبدأ‭ ‬جمهورهم‭ ‬في‭ ‬التحديق‭ ‬في‭ ‬النجوم‭ ‬الأحدث‭. ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬استعادة‭ ‬الأهمية‭ ‬والنفوذ‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬مسح‭ ‬الذاكرة‭ ‬السياسية،‭ ‬حيث‭ ‬تتلاشى‭ ‬أصداء‭ ‬أفعالهم‭ ‬الفظيعة‭ ‬وحتى‭ ‬جرائمهم،‭ ‬المحلية‭ ‬والدولية‭.‬

كان‭ ‬هذا‭ ‬بالتأكيد‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬ريتشارد‭ ‬نيكسون،‭ ‬الذي،‭ ‬بعد‭ ‬استقالته‭ ‬المخزية‭ ‬لتجنب‭ ‬المساءلة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1974،‭ ‬عمل‭ ‬بجد‭ ‬لعقود‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬حتى‭ ‬يُنظر‭ ‬إليه‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬رجل‭ ‬حكيم‭ ‬وذو‭ ‬حنكة‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬العلاقات‭ ‬والسياسات‭ ‬الدولية‭.‬

لقد‭ ‬نشر‭ ‬نيكسون‭ ‬مذكراته‭ ‬مقابل‭ ‬مليوني‭ ‬دولار،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬600‭ ‬ألف‭ ‬دولار‭ ‬أخرى‭ ‬لإجراء‭ ‬مقابلات‭ ‬مع‭ ‬ديفيد‭ ‬فروست‭ (‬والتي‭ ‬قال‭ ‬خلالها‭ ‬بشكل‭ ‬صريح‭: ‬‮«‬عندما‭ ‬يفعل‭ ‬الرئيس‭ ‬ذلك،‭ ‬فهذا‭ ‬يعني‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬غير‭ ‬قانوني‮»‬‭). ‬تمت‭ ‬مكافأة‭ ‬اجتهاده‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1986‭ ‬بقصة‭ ‬غلاف‭ ‬لمجلة‭ ‬نيوزويك‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬لقد‭ ‬عاد‭: ‬إعادة‭ ‬تأهيل‭ ‬ريتشارد‭ ‬نيكسون‮»‬‭.‬

بطبيعة‭ ‬الحال،‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬الرئيسية‭ (‬ومجلس‭ ‬النواب‭ ‬الذي‭ ‬ناقش‭ ‬عزله‭ ‬المحتمل‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1974‭)‬،‭ ‬فإن‭ ‬جرائم‭ ‬نيكسون‭ ‬الكبرى‭ ‬وجنحه‭ ‬لم‭ ‬تشمل‭ ‬سوى‭ ‬الفضيحة‭ ‬ووترغيت،‭ ‬أي‭ ‬اقتحام‭ ‬مقر‭ ‬اللجنة‭ ‬الوطنية‭ ‬الديمقراطية‭ ‬ومحاولاته‭ ‬اللاحقة‭ ‬للتستر‭ ‬عليها‭.‬

ومن‭ ‬بين‭ ‬أعضاء‭ ‬مجلس‭ ‬النواب،‭ ‬كان‭ ‬12‭ ‬فقط،‭ ‬بقيادة‭ ‬الكاهن‭ ‬اليسوعي‭ ‬روبرت‭ ‬درينان،‭ ‬لديهم‭ ‬الشجاعة‭ ‬لاقتراح‭ ‬اتهام‭ ‬نيكسون‭ ‬بارتكاب‭ ‬الجريمة‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬مباشرة‭ ‬إلى‭ ‬مقتل‭ ‬ما‭ ‬يقدر‭ ‬بنحو‭ ‬150‭ ‬ألف‭ ‬مدني‭: ‬أي‭ ‬القصف‭ ‬السري‭ ‬وغير‭ ‬القانوني‭ ‬لكمبوديا‭ ‬خلال‭ ‬حرب‭ ‬فيتنام‭.‬

وعلى‭ ‬النقيض‭ ‬من‭ ‬الرئيس‭ ‬الذي‭ ‬شغل‭ ‬منصب‭ ‬مستشار‭ ‬الأمن‭ ‬القومي‭ ‬ووزير‭ ‬الخارجية،‭ ‬وبعض‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬عمل‭ ‬لهم‭ ‬كمستشار‭ ‬غير‭ ‬رسمي‭ (‬رونالد‭ ‬ريغان‭ ‬وجورج‭ ‬دبليو‭ ‬بوش‭)‬،‭ ‬فإن‭ ‬سمعة‭ ‬كيسنجر‭ ‬كرجل‭ ‬دولة‭ ‬لامع‭ ‬لم‭ ‬تتطلب‭ ‬إعادة‭ ‬التأهيل‭ ‬قط‭.‬

وفي‭ ‬الآونة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬شهدنا‭ ‬إعادة‭ ‬تأهيل‭ ‬جورج‭ ‬دبليو‭ ‬بوش،‭ ‬الذي‭ ‬ارتكبت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬ألأمريكية‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬إدارته‭ ‬جرائم‭ ‬حرب‭ ‬متكررة‭. ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬التهديدات‭ ‬شن‭ ‬حرب‭ ‬غير‭ ‬قانونية‭ ‬ضد‭ ‬العراق‭ ‬بذريعة‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬أسلحة‭ ‬الدمار‭ ‬الشامل‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬وجود‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬البلد،‭ ‬ومحاولة‭ ‬إضفاء‭ ‬الشرعية‭ ‬على‭ ‬التعذيب‭ ‬والاعتقالات‭ ‬غير‭ ‬القانونية،‭ ‬والتسبب‭ ‬في‭ ‬وفاة‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬مليون‭ ‬مدني‭.‬

لا‭ ‬يهم‭. ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تطلبه‭ ‬الأمر‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬الرئيسية‭ ‬للترحيب‭ ‬به‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬حظيرة‭ ‬الجمهوريين‭ ‬‮«‬المسؤولين‮»‬‭ ‬هو‭ ‬قضاء‭ ‬بعض‭ ‬السنوات‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬صور‭ ‬للمحاربين‭ ‬القدامى‭ ‬في‭ ‬الجيش‭ ‬الأمريكي‭ ‬وتوجيه‭ ‬انتقاد‭ ‬غير‭ ‬مباشر‭ ‬أو‭ ‬اثنين‭ ‬إلى‭ ‬الرئيس‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب‭ ‬آنذاك‭.‬

فبعد‭ ‬أن‭ ‬قدم‭ ‬المشورة‭ -‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬رسمية‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬رسمية‭- ‬لكل‭ ‬رئيس‭ ‬من‭ ‬دوايت‭ ‬أيزنهاور‭ ‬إلى‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب‭ (‬ولكن‭ ‬ليس‭ ‬جو‭ ‬بايدن‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭)‬،‭ ‬ترك‭ ‬كيسنجر‭ ‬بصمته‭ ‬على‭ ‬السياسات‭ ‬الخارجية‭ ‬لكلا‭ ‬الحزبين‭ ‬الرئيسيين‭ - ‬الحزب‭ ‬الجمهوري‭ ‬والحزب‭ ‬الديمقراطي‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬السواء‭.‬

وخلال‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬السنوات،‭ ‬لم‭ ‬تجد‭ ‬أي‭ ‬وكالة‭ ‬إخبارية‭ ‬أمريكية‭ ‬‮«‬جدية‮»‬‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬المناسب‭ ‬تذكير‭ ‬العالم‭ ‬بتاريخ‭ ‬كيسنجر‭ ‬الطويل‭ ‬من‭ ‬الجرائم‭ ‬الدموية‭. ‬والواقع‭ ‬أنه‭ ‬مع‭ ‬بعد‭ ‬وصول‭ ‬عيد‭ ‬ميلاده‭ ‬إلى‭ ‬المائة،‭ ‬استقبلته‭ ‬جودي‭ ‬وودروف‭ ‬في‭ ‬برنامجها‭ ‬PBS‭ ‬NewsHour‭ ‬بكل‭ ‬تملق‭.  ‬

لقد‭ ‬ظهرت‭ ‬جرائمه‭ ‬في‭ ‬العلن،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬تم‭ ‬تسويقها‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬تمثل‭ ‬حنكة‭ ‬في‭ ‬مسيرته‭ ‬المهنية‭. ‬نشرت‭ ‬شبكة‭ ‬سي‭ ‬إن‭ ‬إن‭ ‬مقالا‭ ‬بقلم‭ ‬ديفيد‭ ‬أندلمان،‭ ‬وهو‭ ‬مراسل‭ ‬أجنبي‭ ‬سابق‭ ‬لصحيفة‭ ‬نيويورك‭ ‬تايمز‭ ‬وطالب‭ ‬كيسنجر‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬هارفارد‭. ‬ووصف‭ ‬مشاهدته‭ ‬‮«‬بعجب‮»‬‭ ‬عندما‭ ‬تجمع‭ ‬المتظاهرون‭ ‬خارج‭ ‬جمعية‭ ‬الشبان‭ ‬المسيحية‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬92‭ ‬بمدينة‭ ‬نيويورك‭ ‬للاحتجاج‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬في‭ ‬حديث‭ ‬تم‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬2011‭.‬

وسأل‭ ‬نفسه‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يشيروا‭ ‬إلى‭ ‬كيسنجر‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬مجرم‭ ‬حرب‭ ‬مشهور»؟‭ ‬وأضاف‭ ‬أنديلمان‭ ‬أنه‭ ‬بعد‭ ‬بضع‭ ‬سنوات،‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬يتساءل‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬حيث‭ ‬شجبت‭ ‬مجموعة‭ ‬مماثلة‭ ‬من‭ ‬المتظاهرين‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬المكان‭ ‬تاريخ‭ ‬كيسنجر‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بتيمور‭ ‬الشرقية،‭ ‬وبابوا‭ ‬الغربية،‭ ‬وفيتنام،‭ ‬وكمبوديا،‭ ‬وتشيلي،‭ ‬وقبرص،‭ ‬وبنغلاديش،‭ ‬وباكستان‭ ‬وأنغولا‭ ‬وأماكن‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬شتى‭ ‬بقاع‭ ‬العالم‭.‬

وأشار‭ ‬المراسل‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬كانوا‭ ‬يحتجون‭ ‬عليها‭ ‬كانت‭ ‬منذ‭ ‬عقود‭ ‬مضت‮»‬،‭ ‬وأنها‭ ‬حدثت‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬معظم‭ ‬المتظاهرين‭ ‬‮«‬بالكاد‭ ‬قد‭ ‬ولدوا‮»‬‭.‬

في‭ ‬الواقع،‭ ‬مثل‭ ‬كثيرين‭ ‬آخرين‭ ‬ممن‭ ‬يسعون‭ ‬إلى‭ ‬تبرئة‭ ‬مجرمي‭ ‬الحرب‭ ‬القدامى،‭ ‬كان‭ ‬أندلمان‭ ‬يشير‭ ‬ضمنًا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جرائم‭ ‬الماضي‭ ‬لا‭ ‬معنى‭ ‬لها،‭ ‬باستثناء‭ ‬ربما‭ ‬الشهادة‭ ‬‮«‬على‭ ‬نطاق‭ ‬واسع‭ ‬من‭ ‬الأشخاص‭ ‬والأماكن‭ ‬والأحداث‭ ‬التي‭ ‬أثر‭ ‬فيها‭ ‬‮«‬كيسنجر‮»‬‭ ‬خلال‭ ‬مسيرة‭ ‬مهنية‭ ‬سياسية‭ ‬رائعة‮»‬‭.‬

إن‭ ‬استخدام‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬تأثير‮»‬‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬تخفيف‭ ‬كبير‭ ‬ومتعمد‭ ‬لكلمات‭ ‬أخرى‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬القتل‮»‬‭ ‬و‮«‬الدمار‮»‬‭. ‬كان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬تنتهي‭ ‬حرب‭ ‬فيتنام‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1968،‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تستمر‭ ‬حتى‭ ‬عام‭ ‬1975،‭ ‬لولا‭ ‬هنري‭ ‬كيسنجر‭.‬

ومن‭ ‬حسن‭ ‬الحظ‭ ‬أن‭ ‬المؤسسات‭ ‬الأخرى‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬القدر‭ ‬من‭ ‬الاحترام‭. ‬في‭ ‬الذكرى‭ ‬المئوية‭ ‬لكيسنجر،‭ ‬قام‭ ‬أرشيف‭ ‬الأمن‭ ‬القومي،‭ ‬وهو‭ ‬مركز‭ ‬للصحافة‭ ‬الاستقصائية،‭ ‬بتجميع‭ ‬ملف‭ ‬يتعلق‭ ‬بجانب‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬إرثه‭ ‬السياسي‭.  ‬

وإذا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬آخر،‭ ‬فإن‭ ‬النهج‭ ‬الذي‭ ‬اتبعه‭ ‬كيسنجر‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬السياسة‭ ‬الدولية‭ ‬كان‭ ‬ثابتاً‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭. ‬كان‭ ‬من‭ ‬المقرر‭ ‬فقط‭ ‬متابعة‭ ‬الإجراءات‭ ‬التي‭ ‬تعزز‭ ‬القوة‭ ‬العسكرية‭ ‬والإمبريالية‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬العالم‭.‬

وكان‭ ‬ينبغي‭ ‬تجنب‭ ‬تلك‭ ‬التصرفات‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تقلل‭ ‬من‭ ‬قوة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬بشكل‭ ‬أو‭ ‬بآخر‭ - ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ - ‬وتعزز‭ ‬بالمقابل‭ ‬قوة‭ ‬ونفوذ‭ ‬خصمها‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭.‬

لذلك،‭ ‬فإن‭ ‬أي‭ ‬تيار‭ ‬محلي‭ ‬يفضل‭ ‬الاستقلال‭ ‬الوطني‭ - ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬سياسيًا‭ ‬أو‭ ‬اقتصاديًا‭ - ‬أو‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬حكم‭ ‬أكثر‭ ‬ديمقراطية‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الأرض،‭ ‬أصبح‭ ‬يمثل‭ ‬تهديدًا‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬وكان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الحركات‭ ‬وأتباعها‭ - ‬سرًا‭ ‬إن‭ ‬أمكن؛‭ ‬علانية‭ ‬إذا‭ ‬لزم‭ ‬الأمر‭.‬

كانت‭ ‬فترة‭ ‬رئاسة‭ ‬ريتشارد‭ ‬نيكسون،‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال،‭ ‬هي‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬شهد‭ ‬فيها‭ ‬كيسنجر‭ ‬أعظم‭ ‬نفوذ‭. ‬فخلال‭ ‬الفترة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬1969‭ ‬و1974،‭ ‬عمل‭ ‬كيسنجر‭ ‬كمهندس‭ ‬للإجراءات‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬المناطق‭ ‬الرئيسية‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم‭. ‬هذه‭ ‬نبذة‭ ‬مختصرة‭ ‬عما‭ ‬فعله‭ ‬هنري‭ ‬كيسنجر‭ ‬وما‭ ‬انتهجه‭ ‬من‭ ‬سياسات‭ ‬في‭ ‬بقاع‭ ‬العالم‭:‬

بابوا،‭ ‬تيمور‭ ‬الشرقية،‭ ‬وإندونيسيا‭:‬

‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1969،‭ ‬وفي‭ ‬محاولة‭ ‬لإبقاء‭ ‬إندونيسيا‭ ‬بشكل‭ ‬كامل‭ ‬في‭ ‬معسكر‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬وضع‭ ‬كيسنجر‭ ‬موافقته‭ ‬على‭ ‬استفتاء‭ ‬مزيف‭ ‬في‭ ‬بابوا،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬الاستقلال‭ ‬عن‭ ‬إندونيسيا‭.‬

لقد‭ ‬حرص‭ ‬كيسنجر‭ ‬على‭ ‬الحضور‭ ‬شخصياً‭ ‬أثناء‭ ‬‮«‬الانتخابات‮»‬‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬إندونيسيا‭ ‬فيها‭ ‬بإحصاء‭ ‬أصوات‭ ‬1100‭ ‬‮«‬ممثل‮»‬‭ ‬تم‭ ‬اختيارهم‭ ‬بعناية‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬بابوا‭ ‬فقط‭. ‬ومن‭ ‬غير‭ ‬المستغرب‭ ‬أن‭ ‬يصوتوا‭ ‬بالإجماع‭ ‬لصالح‭ ‬البقاء‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬إندونيسيا‭.‬

لماذا‭ ‬اهتمت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬بمصير‭ ‬نصف‭ ‬الجزيرة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬ذات‭ ‬أهمية‭ ‬استراتيجية‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬الصين‭ ‬الجنوبي؟‭ ‬لأن‭ ‬التمسك‭ ‬بولاء‭ ‬حاكم‭ ‬إندونيسيا‭ ‬المناهض‭ ‬للشيوعية‭ ‬سوهارتو‭ ‬كان‭ ‬يعتبر‭ ‬أمراً‭ ‬حاسماً‭ ‬لسياسة‭ ‬واشنطن‭ ‬الخارجية‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬في‭ ‬آسيا‭.‬

وفي‭ ‬عام‭ ‬1975،‭ ‬أعطى‭ ‬كيسنجر‭ ‬الضوء‭ ‬الأخضر‭ ‬أيضًا‭ ‬لغزو‭ ‬إندونيسيا‭ ‬لتيمور‭ ‬الشرقية،‭ ‬والذي‭ ‬قُتل‭ ‬خلاله‭ ‬مئات‭ ‬الآلاف‭. ‬وفي‭ ‬انتهاك‭ ‬للقانون‭ ‬الأمريكي،‭ ‬قامت‭ ‬إدارة‭ ‬الرئيس‭ ‬جيرالد‭ ‬فورد‭ (‬التي‭ ‬واصل‭ ‬فيها‭ ‬كيسنجر‭ ‬العمل‭ ‬كمستشار‭ ‬للأمن‭ ‬القومي‭ ‬ووزير‭ ‬الخارجية‭ ‬بعد‭ ‬استقالة‭ ‬نيكسون‭) ‬بتزويد‭ ‬الجيش‭ ‬الإندونيسي‭ ‬بالأسلحة‭ ‬والتدريب‭.‬

استخف‭ ‬هنري‭ ‬كيسنجر‭ ‬بأي‭ ‬تبعات‭ ‬قانونية‭ ‬بقوله‭ ‬المأثور‭ ‬المفضل‭ ‬عنده‭: ‬‮«‬ما‭ ‬هو‭ ‬غير‭ ‬قانوني‭ ‬نقوم‭ ‬به‭ ‬على‭ ‬الفور‭. ‬وبالمقابل‭ ‬يستغرق‭ ‬الأمر‭ ‬وقتًا‭ ‬أطول‭ ‬نسبيا‭ ‬عندما‭ ‬يكون‭ ‬غير‭ ‬دستوري‮»‬‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬‮«‬حنكته‭ ‬السياسية‭ ‬الرائعة‮»‬‭ ‬المزعومة،‭ ‬أثبت‭ ‬كيسنجر‭ ‬أنه‭ ‬غير‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬تصور‭ ‬أي‭ ‬حدث‭ ‬باعتباره‭ ‬ذا‭ ‬معنى‭ ‬محلي‭ ‬أو‭ ‬إقليمي‭ ‬مهم‭.‬

جنوب‭ ‬شرق‭ ‬آسيا‭: ‬

ابتداء‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1969،‭ ‬كان‭ ‬كيسنجر‭ ‬أيضًا‭ ‬مهندس‭ ‬حملة‭ ‬القصف‭ ‬السرية‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬ريتشارد‭ ‬نيكسون‭ ‬في‭ ‬كمبوديا،‭ ‬وهي‭ ‬محاولة‭ ‬لمنع‭ ‬تدفق‭ ‬الإمدادات‭ ‬من‭ ‬فيتنام‭ ‬الشمالية‭ ‬إلى‭ ‬حركة‭ ‬الفيتكونغ‭ ‬الثورية‭ ‬في‭ ‬فيتنام‭ ‬الجنوبية‭.‬

كان‭ ‬كيسنجر‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬سيجبر‭ ‬الفيتناميين‭ ‬الشماليين‭ ‬على‭ ‬الجلوس‭ ‬إلى‭ ‬طاولة‭ ‬المفاوضات‭. ‬في‭ ‬هذا،‭ ‬كان‭ ‬رجل‭ ‬الدولة‭ ‬العظيم‭ ‬مخطئا‭ ‬للأسف‭. ‬من‭ ‬العدل‭ ‬أن‭ ‬نقول،‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬إن‭ ‬كيسنجر‭ ‬إما‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬بدأ‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬دعم‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬التكتيكات‭ ‬القبيحة‭ ‬التي‭ ‬استخدمها‭ ‬الجيش‭ ‬الأمريكي‭ ‬في‭ ‬حربه‭ ‬الخاسرة‭ ‬في‭ ‬فيتنام‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف،‭ ‬من‭ ‬القصف‭ ‬الشامل‭ ‬لفيتنام‭ ‬الشمالية‭ ‬إلى‭ ‬الاستخدام‭ ‬الواسع‭ ‬النطاق‭ ‬للنابالم‭ ‬وقذائف‭ ‬الهاون‭ ‬ومبيد‭ ‬الأعشاب‭ ‬المسرطن‭ - ‬‮«‬العامل‭ ‬البرتقالي‮»‬‭ - ‬ضمن‭ ‬برنامج‭ ‬فينيكس‭ ‬التابع‭ ‬لوكالة‭ ‬المخابرات‭ ‬المركزية‭ (‬السي‭ ‬آي‭ ‬إيه‭)‬،‭ ‬والذي‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تعذيب‭ ‬أو‭ ‬قتل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬20‭ ‬ألف‭ ‬شخص‭.‬

كان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬تنتهي‭ ‬حرب‭ ‬فيتنام‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1968،‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تستمر‭ ‬حتى‭ ‬عام‭ ‬1975،‭ ‬لولا‭ ‬هنري‭ ‬كيسنجر‭. ‬فهو‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬يصر‭ ‬على‭ ‬مواصلة‭ ‬الحرب‭ ‬ضد‭ ‬فيتنام‭ ‬الشمالية‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬كانت‭ ‬فيه‭ ‬إدارة‭ ‬الرئيس‭ ‬ليندون‭ ‬جونسون‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬بلورة‭ ‬اتفاق‭ ‬سلام‭ ‬كان‭ ‬يأمل‭ ‬في‭ ‬إعلانه‭ ‬قبل‭ ‬الانتخابات‭ ‬الرئاسية‭ ‬لعام‭ ‬1968‭.‬

كان‭ ‬كيسنجر‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬المرشح‭ ‬الجمهوري‭ ‬ريتشارد‭ ‬نيكسون‭ ‬سيكون‭ ‬أكثر‭ ‬توجها‭ ‬للأخذ‭ ‬برؤيته‭ ‬للمصالح‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬فيتنام‭ ‬من‭ ‬المرشح‭ ‬الديمقراطي‭ ‬ونائب‭ ‬الرئيس‭ ‬هيوبرت‭ ‬همفري‭. ‬لذلك‭ ‬فقد‭ ‬قدم‭ ‬هنري‭ ‬كيسنجر‭ ‬معلومات‭ ‬حول‭ ‬تلك‭ ‬المفاوضات‭ ‬مع‭ ‬الفيتناميين‭ ‬الشماليين‭ ‬إلى‭ ‬حملة‭ ‬نيكسون‭ ‬الانتخابية‭.‬

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬نيكسون‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬له‭ ‬أي‭ ‬نفوذ‭ ‬في‭ ‬هانوي،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬لديه‭ ‬قناة‭ ‬للتواصل‭ ‬مع‭ ‬حليف‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬ورئيس‭ ‬فيتنام‭ ‬الجنوبية‭ ‬نجوين‭ ‬فان‭ ‬ثيو‭ ‬وأقنعه‭ ‬بالانسحاب‭ ‬من‭ ‬محادثات‭ ‬السلام‭ ‬قبل‭ ‬وقت‭ ‬قصير‭ ‬من‭ ‬الانتخابات‭. ‬وبفضل‭ ‬كيسنجر،‭ ‬ستتبع‭ ‬الحرب‭ ‬مسارها‭ ‬القاسي‭ ‬مدة‭ ‬سبع‭ ‬سنوات‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬والدمار‭ ‬وإزهاق‭ ‬الأرواح‭.‬

أمريكا‭ ‬اللاتينية‭: ‬

في‭ ‬وقت‭ ‬ما،‭ ‬لم‭ ‬تذكرنا‭ ‬أحداث‭ ‬11‭ ‬سبتمبر‭ ‬بالهجمات‭ ‬الإرهابية‭ ‬على‭ ‬مركز‭ ‬التجارة‭ ‬العالمي‭ ‬والبنتاغون،‭ ‬بل‭ ‬بالإطاحة‭ ‬العنيفة‭ ‬عام‭ ‬1973‭ ‬بسلفادور‭ ‬أليندي،‭ ‬الرئيس‭ ‬الاشتراكي‭ ‬المنتخب‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬تشيلي‭.‬

وكان‭ ‬ذلك‭ ‬الانقلاب،‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬الجنرال‭ ‬أوغستو‭ ‬بينوشيه‭ ‬دكتاتوراً‭ ‬للبلاد،‭ ‬تتويجاً‭ ‬لحملة‭ ‬أمريكية‭ ‬استمرت‭ ‬عدة‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬التخريب‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والسياسي،‭ ‬والتي‭ ‬نظمها‭ ‬هنري‭ ‬كيسنجر‭ ‬وكان‭ ‬مهندسها‭ ‬الأساسي‭.‬

ومرة‭ ‬أخرى،‭ ‬‮«‬أخطأت‮»‬‭ ‬سلطات‭ ‬واشنطن‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬حركة‭ ‬الإصلاح‭ ‬الاقتصادي‭ ‬المحلية‭ ‬الحقيقية‭ ‬ورأت‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬تهديدا‭ ‬يعكس‭ ‬على‭ ‬تنامي‭ ‬القوة‭ ‬السوفييتية‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬الجنوبية‭. ‬خلال‭ ‬الأيام‭ ‬القليلة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الانقلاب،‭ ‬تم‭ ‬سجن‭ ‬40‭ ‬ألف‭ ‬شخص‭ ‬في‭ ‬الاستاد‭ ‬الوطني‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬سانتياغو‭. ‬وقد‭ ‬تعرض‭ ‬العديد‭ ‬منهم‭ ‬للتعذيب‭ ‬والقتل‭ ‬في‭ ‬المراحل‭ ‬الأولى‭ ‬لما‭ ‬أصبح‭ ‬نظاماً‭ ‬تميز‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬عقود‭ ‬بالتعذيب‭ ‬المؤسسي‭. ‬وعلى‭ ‬نحو‭ ‬مماثل،‭ ‬دعم‭ ‬كيسنجر‭ ‬والرؤساء‭ ‬الذين‭ ‬نصحهم‭ ‬بدعم‭ ‬‮«‬الحرب‭ ‬القذرة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬شنتها‭ ‬الأرجنتين‭ ‬ضد‭ ‬المنشقين،‭ ‬وعملية‭ ‬كوندور‭ ‬الأكبر‭ ‬حجما،‭ ‬والتي‭ ‬قامت‭ ‬فيها‭ ‬وكالة‭ ‬المخابرات‭ ‬المركزية‭ ‬بتنسيق‭ ‬الانقلابات‭ ‬والقمع‭ ‬والتعذيب‭ ‬ومقتل‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬الاشتراكيين‭ ‬والطلاب‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬النشطاء‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬أمريكا‭ ‬اللاتينية‭.‬

إذن،‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نهديه‭ ‬لمستشار‭ ‬رئاسي‭ ‬يبلغ‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬100‭ ‬عام‭ ‬في‭ ‬عيد‭ ‬ميلاده؟‭ ‬وماذا‭ ‬عن‭ ‬استدعائه‭ ‬للمثول‭ ‬أمام‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬للرد‭ ‬على‭ ‬دماء‭ ‬الملايين‭ ‬التي‭ ‬لطخت‭ ‬يديه؟‭ ‬ثم‭ ‬ما‭ ‬الحقيقة‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬الواقعية؟

إذا‭ ‬كنت‭ ‬تبحث‭ ‬في‭ ‬جوجل‭ ‬عن‭ ‬‮«‬السياسة‭ ‬الواقعية‮»‬،‭ ‬فإن‭ ‬أول‭ ‬شيء‭ ‬ستراه‭ ‬هو‭ ‬رسم‭ ‬لهنري‭ ‬كيسنجر‭ ‬والذي‭ ‬يمد‭ ‬يده‭ ‬إلى‭ ‬ريتشارد‭ ‬نيكسون‭. ‬وباعتباره‭ ‬مفكرًا‭ ‬عسكريًا،‭ ‬يفتخر‭ ‬بأنه‭ ‬لم‭ ‬يتأثر‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭ ‬بالعاطفة،‭ ‬فقد‭ ‬يبدو‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬النموذج‭ ‬المثالي‭ ‬للابتكار‭ ‬العالمي‭ ‬للسياسة‭ ‬الواقعية‭. ‬

ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬كيسنجر‭ ‬يتجنب‭ ‬دائما‭ ‬استخدام‭ ‬هذا‭ ‬المصطلح،‭ ‬ربما‭ ‬لأنه،‭ ‬نظرًا‭ ‬لخلفيته،‭ ‬يدرك‭ ‬جذوره‭ ‬في‭ ‬التقليد‭ ‬الليبرالي‭ ‬الألماني‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬بمثابة‭ ‬تذكير‭ ‬بألا‭ ‬تعميه‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬أو‭ ‬المعتقد‭ ‬الطموح‭ ‬عند‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬موقف‭ ‬سياسي‭.‬

من‭ ‬الناحية‭ ‬الفلسفية،‭ ‬كانت‭ ‬السياسة‭ ‬الواقعية‭ ‬اعتقادًا‭ ‬بأن‭ ‬التعامل‭ ‬النزيه‭ ‬مع‭ ‬أي‭ ‬موقف،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الأيديولوجية،‭ ‬هو‭ ‬الطريقة‭ ‬الأكثر‭ ‬فعالية‭ ‬لفهم‭ ‬مجموعة‭ ‬القوى‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬تاريخية‭ ‬معينة‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬أصبحت‭ ‬السياسة‭ ‬الواقعية‭ ‬تعني‭ ‬شيئًا‭ ‬مختلفًا‭ ‬تمامًا‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬ربطها‭ ‬بـ«ما‭ ‬هو‭ ‬كائن‮»‬‭ (‬موقف‭ ‬معرفي‭) ‬ولكن‭ ‬بـ«ما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‮»‬‭ - ‬وهو‭ ‬موقف‭ ‬أخلاقي‭ ‬يمنح‭ ‬الامتيازات‭ ‬فقط‭ ‬للميزة‭ ‬الإمبريالية‭ ‬لهذا‭ ‬البلد‭. ‬

عالم‭ ‬السياسة‭ ‬الواقعية‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬هنري‭ ‬كيسنجر،‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬التصرفات‭ ‬جيدة‭ ‬إلا‭ ‬عندما‭ ‬تدعم‭ ‬وتعزز‭ ‬القوة‭ ‬الإستراتيجية‭ ‬الأمريكية‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم‭. ‬إن‭ ‬أي‭ ‬اهتمام‭ ‬برفاهة‭ ‬البشر،‭ ‬أو‭ ‬بالقانون‭ ‬والدستور،‭ ‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬القيم‭ ‬الديمقراطية‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم،‭ ‬هو‭ ‬بحكم‭ ‬التعريف‭ ‬غير‭ ‬شرعي،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬فشلاً‭ ‬أخلاقياً‭.‬

هذه‭ ‬هي‭ ‬السياسة‭ ‬الواقعية‭ ‬التي‭ ‬يتبناها‭ ‬هنري‭ ‬ألفريد‭ ‬كيسنجر،‭ ‬النظام‭ ‬الأخلاقي‭ ‬الذي‭ ‬يرفض‭ ‬الأخلاق‭ ‬باعتبارها‭ ‬غير‭ ‬حقيقية‭. ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يفاجأ‭ ‬أحد‭ ‬أن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬النظرة‭ ‬للعالم‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬تولد‭ ‬في‭ ‬رجل‭ ‬بهذا‭ ‬المستوى‭ ‬من‭ ‬التأثير‭ ‬تاريخًا‭ ‬من‭ ‬الجرائم‭ ‬ضد‭ ‬القانون‭ ‬والإنسانية‭.‬

ولكن‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬فإن‭ ‬نسخة‭ ‬كيسنجر‭ ‬من‭ ‬السياسة‭ ‬الواقعية‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاتها‭ ‬وهمية‭. ‬إن‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬الخيارات‭ ‬‮«‬الواقعية‮»‬‭ ‬الوحيدة‭ ‬لقادة‭ ‬واشنطن‭ ‬تتطلب‭ ‬تفضيل‭ ‬القوة‭ ‬العالمية‭ ‬الأمريكية‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الاعتبارات‭ ‬الأخرى‭ ‬قد‭ ‬قادت‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬إلى‭ ‬حالته‭ ‬اليائسة‭ ‬الحالية‭ - ‬إمبراطورية‭ ‬تحتضر‭ ‬يعيش‭ ‬مواطنوها‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬انعدام‭ ‬الأمن‭ ‬المتزايد‭ ‬باستمرار‭. ‬وفي‭ ‬الواقع،‭ ‬فإن‭ ‬اختيار‭ ‬أمريكا‭ ‬أولا‭ (‬على‭ ‬حد‭ ‬تعبير‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب‭) ‬ليس‭ ‬الخيار‭ ‬الوحيد،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬خيار‭ ‬وهمي‭ ‬بين‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الخيارات‭. ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬هناك‭ ‬وقت،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يحرقنا‭ ‬الكوكب‭ ‬جميعًا‭ ‬حتى‭ ‬الموت،‭ ‬لاتخاذ‭ ‬خيارات‭ ‬أخرى‭ ‬أكثر‭ ‬واقعية‭.‬

كومونز

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا