العدد : ١٧٠٧٩ - الخميس ٢٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٧٩ - الخميس ٢٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

مقالات

دروس وعبر من حياة الراحل الكبير محمد عبدالغفار العلوي رحمه الله

بقلم: محمد جاسم سيار

الجمعة ١٤ يونيو ٢٠٢٤ - 02:00

رحِم‭ ‬الله‭ ‬الوالد‭ ‬والعم‭ ‬العزيز‭ (‬بويوسف‭) ‬محمد‭ ‬عبدالغفار‭ ‬العَلَوي،‭ ‬صاحب‭ ‬الأفضال‭ ‬الكثيرة‭ ‬والسجايا‭ ‬الحميدة،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬حياته‭ ‬مليئة‭ ‬بالدروس‭ ‬والمواقف‭ ‬التربوية‭ ‬لجميع‭ ‬من‭ ‬عرفه‭ ‬وخالطه،‭ ‬كيف‭ ‬لا‭ ‬وهو‭ ‬ذو‭ ‬الشخصية‭ ‬الفذَّة‭ ‬الفريدة‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المجالات‭. ‬لقد‭ ‬كان‭ -‬رحِمَه‭ ‬الله‭- ‬ملء‭ ‬السمع‭ ‬والبصر،‭ ‬وصاحب‭ ‬صولات‭ ‬وجولات‭ ‬في‭ ‬أروقة‭ ‬الهيئة‭ ‬العامة‭ ‬لصندوق‭ ‬التقاعد،‭ ‬التي‭ ‬أُنشئت‭ ‬بعدما‭ ‬كانت‭ ‬مكتباً‭ ‬معنياً‭ ‬بشؤون‭ ‬التقاعد‭ ‬بوزارة‭ ‬المالية‭ ‬والاقتصاد‭ ‬الوطني‭ ‬وكان‭ ‬مقره‭ ‬حينها‭ ‬بدار‭ ‬الحكومة‭. ‬

وبعد‭ ‬أنْ‭ ‬عُيِّن‭ ‬مديراً‭ ‬عاماً‭ ‬للهيئة‭ ‬كونه‭ ‬متمرساً‭ ‬وخبيراً‭ ‬في‭ ‬التقاعد‭ ‬أسهم‭ ‬أيُّما‭ ‬مساهمة‭ ‬فاعلة‭ ‬في‭ ‬تطويرها‭ ‬وتنميتها‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬فترة‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬يُسنِده‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬مجلس‭ ‬إدارتها‭ ‬برئاسة‭ ‬سعادة‭ ‬السيد‭ ‬إبراهيم‭ ‬عبدالكريم‭ ‬محمد‭ ‬وزير‭ ‬المالية‭ ‬والاقتصاد‭ ‬الوطني‭ ‬الأسبق،‭ ‬ثم‭ ‬كوكبة‭ ‬العاملين‭ ‬في‭ ‬الهيئة‭ ‬الذين‭ ‬سخروا‭ ‬جهودهم‭ ‬لإنجاح‭ ‬مسيرتها،‭ ‬حتى‭ ‬صارت‭ ‬صرحاً‭ ‬شامخاً‭ ‬يشار‭ ‬إليه‭ ‬بالبنان،‭ ‬وتضمنت‭ ‬تلك‭ ‬المساهمة‭ ‬بشكل‭ ‬أساسي‭ ‬في‭ ‬اقتراح‭ ‬التشريعات‭ ‬القانونية‭ ‬والأنظمة‭ ‬التقاعدية،‭ ‬وفي‭ ‬تنمية‭ ‬أموالها‭ ‬ومدخراتها‭ ‬واستثماراتها‭ ‬على‭ ‬الوجه‭ ‬السليم‭ ‬والمطلوب،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إغفال‭ ‬بناء‭ ‬النظام‭ ‬الإداري‭ ‬والهياكل‭ ‬التنظيمية،‭ ‬وتوضيح‭ ‬القوانين‭ ‬واللوائح‭ ‬للعاملين‭ ‬بالهيئة‭ ‬ولعموم‭ ‬الخاضعين‭ ‬للقانون‭ ‬والمعنيين‭ ‬به‭. ‬ومن‭ ‬واقع‭ ‬هذه‭ ‬الاعتبارات‭ ‬كان‭ ‬همُّه‭ ‬الأول‭ ‬والأخير‭ ‬هو‭ ‬المواطن‭ ‬الخاضع‭ ‬للقانون‭ ‬وحِفظ‭ ‬حقوقه‭ ‬التقاعدية‭ ‬والمستحقين‭ ‬عنه،‭ ‬ولن‭ ‬نجاوز‭ ‬الحقيقة‭ ‬إذا‭ ‬قلنا‭ ‬إنه‭ ‬أفنى‭ ‬زهرة‭ ‬شبابه‭ ‬مخلصاً‭ ‬للوطن‭ ‬وعاملاً‭ ‬لمصلحة‭ ‬المواطن‭.‬

ومما‭ ‬أُثِر‭ ‬عنه‭ ‬أنه‭ ‬كتب‭ ‬بخط‭ ‬يده‭ ‬على‭ ‬قصاصة‭ ‬من‭ ‬الورق‭ ‬عبارة‭ (‬لو‭ ‬دامت‭ ‬لغيرك‭ ‬لَما‭ ‬وصلت‭ ‬إليك‭) ‬ووضعها‭ ‬نصب‭ ‬عينيه‭ ‬على‭ ‬مكتبه‭. ‬وقد‭ ‬فاجأني‭ ‬في‭ ‬مرة‭ ‬من‭ ‬المرات‭ ‬‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬أعمل‭ ‬بالهيئة‭ ‬‭ ‬بأنْ‭ ‬أعطاني‭ ‬درساً‭ ‬في‭ ‬التوكل‭ ‬على‭ ‬الله‭ ‬الرَّزَّاق،‭ ‬إذ‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬إن‭ ‬لله‭ ‬سنناً‭ ‬لا‭ ‬تتغير‭ ‬ولا‭ ‬تتبدل،‭ ‬والسعيد‭ ‬مَن‭ ‬اكتشفها‭ ‬وأعدَّ‭ ‬نفسه‭ ‬لها،‭ ‬فأنا‭ ‬مستعد‭ ‬لليوم‭ ‬الذي‭ ‬أغادر‭ ‬فيه‭ ‬هذا‭ ‬الكرسي‭ ‬وأسَلِّمه‭ ‬لمن‭ ‬بعدي،‭ ‬وقد‭ ‬صدق‭ ‬ووفى‭ ‬بما‭ ‬وعد،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬خطَّط‭ ‬ليوم‭ ‬تقاعده،‭ ‬حيث‭ ‬تسَلَّم‭ ‬الراية‭ ‬خلَفُه‭ ‬الأستاذ‭ ‬راشد‭ ‬إسماعيل‭ ‬المير‭ ‬إثْر‭ ‬صدور‭ ‬مرسوم‭ ‬تعيينه‭ ‬في‭ ‬منصب‭ ‬مدير‭ ‬عام‭ ‬الهيئة‭ ‬أواخر‭ ‬عام‭ ‬2001‭. ‬ولعل‭ ‬مما‭ ‬يشار‭ ‬إليه‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬مستشاره‭ ‬المخلص‭ ‬فترة‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬ينهل‭ ‬من‭ ‬خبرته‭ ‬الطويلة‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬التقاعدي‭.‬

ولقد‭ ‬كان‭ -‬رحمه‭ ‬الله‭- ‬متواضعاً‭ ‬لدرجة‭ ‬أنَّ‭ ‬مَن‭ ‬لا‭ ‬يعرفه‭ ‬لا‭ ‬يميزه‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬المسؤولين،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يهتم‭ ‬بالعمل‭ ‬وجودته،‭ ‬ولا‭ ‬يلتفت‭ ‬إلى‭ ‬المظاهر،‭ ‬وكان‭ ‬يحرص‭ ‬على‭ ‬حضور‭ ‬جميع‭ ‬مناشط‭ ‬اللجنة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬بالهيئة،‭ ‬بل‭ ‬ويرعاها‭ ‬ويتابعها،‭ ‬وكان‭ ‬يتواصل‭ ‬مع‭ ‬الصغير‭ ‬قبل‭ ‬الكبير‭ ‬من‭ ‬العاملين‭ ‬بالهيئة‭ ‬بمختلف‭ ‬درجاتهم‭ ‬ومسمياتهم،‭ ‬ومع‭ ‬الخفير‭ ‬قبل‭ ‬الوزير،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يتواصل‭ ‬مع‭ ‬الناس‭ ‬عموماً‭ ‬ويحرص‭ ‬على‭ ‬مشاركتهم‭ ‬في‭ ‬أفراحهم‭ ‬وأتراحهم،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أكسبه‭ ‬حب‭ ‬جميع‭ ‬من‭ ‬عرَفه‭ ‬وخالطه‭.‬

ولِما‭ ‬حباه‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬من‭ ‬منصب‭ ‬ومسؤولية،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يعطف‭ ‬على‭ ‬الضعفاء‭ ‬والمحتاجين،‭ ‬ويراعي‭ ‬حق‭ ‬الله‭ ‬فيهم،‭ ‬وكان‭ ‬حنوناً‭ ‬وأبا‭ ‬للجميع،‭ ‬بحيث‭ ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬مَن‭ ‬يخالطه‭ ‬إلا‭ ‬أنْ‭ ‬يحبه،‭ ‬وكذلك‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ -‬رحمه‭ ‬الله‭- ‬كريماً‭ ‬مع‭ ‬الجميع‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬وأحباب‭ ‬وجيران‭ ‬ورؤساء‭ ‬ومرؤوسين،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬يرد‭ ‬سائلاً‭ ‬ولا‭ ‬يتوارى‭ ‬عن‭ ‬أحد،‭ ‬بل‭ ‬تجده‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يسعى‭ ‬جاهداً‭ ‬لقضاء‭ ‬حوائج‭ ‬الناس‭ ‬ومتابعتها‭ ‬حتى‭ ‬تنجز‭ ‬بمشيئة‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭.‬

وكان‭ ‬مما‭ ‬تميز‭ ‬به‭ ‬أيضاً‭ ‬الإيمان‭ ‬بقدرات‭ ‬الشباب،‭ ‬وتمكينهم‭ ‬من‭ ‬استغلال‭ ‬طاقاتهم‭ ‬وعلمهم‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الوطن،‭ ‬فكان‭ ‬يقدِّر‭ ‬العلم‭ ‬وتوظيفه‭ ‬للنفع‭ ‬العام،‭ ‬عبر‭ ‬استقطابه‭ ‬أصحاب‭ ‬التخصصات‭ ‬المتميزة‭ ‬والخبرات‭ ‬الملموسة‭ ‬للعمل‭ ‬بالهيئة،‭ ‬والاستفادة‭ ‬من‭ ‬خبراتهم‭ ‬العملية‭ ‬للخروج‭ ‬بأفضل‭ ‬النتائج‭ ‬للارتقاء‭ ‬بعمل‭ ‬الهيئة،‭ ‬حتى‭ ‬امتلأت‭ ‬الهيئة‭ ‬في‭ ‬عهده‭ ‬بالكفاءات‭ ‬ولاسيما‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬العمل‭ ‬الإلكتروني،‭ ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬ذلك‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬صارت‭ ‬الهيئة‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأنظمة‭ ‬والبرمجيات‭ ‬الحديثة‭ ‬والرفيعة‭ ‬التي‭ ‬مكَّنت‭ ‬من‭ ‬تسريع‭ ‬وتيرة‭ ‬العمل‭ ‬ودقته‭ ‬وإنجازه‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬كبيرة،‭ ‬وكل‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬ممزوجاً‭ ‬بخبرته‭ ‬التخصصية‭ ‬الطويلة‭. ‬وإلى‭ ‬جانب‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬يحرص‭ ‬على‭ ‬ابتعاث‭ ‬الموظفين‭ ‬الشباب‭ ‬للدراسة‭ ‬والتدريب‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تطوير‭ ‬الذات‭ ‬والتمكن‭ ‬من‭ ‬التحصيل‭ ‬العلمي‭ ‬والعملي‭ ‬النافع‭ ‬والمجدي،‭ ‬كما‭ ‬عُرِف‭ ‬عنه‭ ‬مهارته‭ ‬في‭ ‬اكتشاف‭ ‬الطاقات‭ ‬وتوظيفها‭ ‬للعمل‭ ‬بكفاءة‭ ‬وفاعلية،‭ ‬ومثال‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬اختار‭ ‬مَن‭ ‬توَسَّم‭ ‬فيهم‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التعبير‭ ‬والكتابة‭ ‬فانتدبهم‭ ‬للعمل‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ (‬التقاعد‭) ‬التي‭ ‬أصدرتها‭ ‬الهيئة‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬مرجعاً‭ ‬للباحثين‭ ‬والمتخصصين‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التقاعد‭ ‬والتأمين‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وكان‭ ‬لي‭ ‬شخصياً‭ ‬شرف‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللجنة‭ ‬مدة‭ ‬خدمتي‭ ‬في‭ ‬الهيئة‭.‬

هذا‭ ‬وبالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬إيمانه‭ ‬بالطاقات‭ ‬الشبابية،‭ ‬فإنه‭ ‬كان‭ ‬يعطي‭ ‬المرأة‭ ‬العاملة‭ ‬فرصتها‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬ذاتها‭ ‬إيماناً‭ ‬منه‭ ‬بأن‭ ‬النساء‭ ‬شقائق‭ ‬الرجال،‭ ‬ومنهن‭ ‬اللاتي‭ ‬كن‭ ‬يحملن‭ ‬على‭ ‬عاتقهن‭ ‬عبء‭ ‬الكسب‭ ‬الحلال‭ ‬والتكفل‭ ‬بإعالة‭ ‬العائلة‭ ‬عند‭ ‬غياب‭ ‬الرجل‭ ‬فيها‭ ‬أو‭ ‬لعجزه‭. ‬نعم‭ ‬كان‭ ‬يقدِّر‭ ‬بحق‭ ‬هذه‭ ‬الفئة‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬وقد‭ ‬ذكر‭ ‬لي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬أنه‭ ‬يفكر‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬وأسلوب‭ ‬راق‭ ‬لتكريم‭ ‬المرأة‭ ‬المضَحية‭ ‬التي‭ ‬قدَّمت‭ ‬أبناءها‭ ‬ومَن‭ ‬تعول‭ ‬على‭ ‬احتياجاتها‭ ‬الخاصة،‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬عزَّ‭ ‬فيه‭ ‬الناصر‭ ‬والمعين‭. ‬وهذا‭ ‬ولا‭ ‬ريب‭ ‬درس‭ ‬بليغ‭ ‬في‭ ‬الإنسانية‭ ‬من‭ ‬صاحب‭ ‬قلب‭ ‬كبير‭.‬

ولا‭ ‬يفوتني‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬أشيرَ‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬عُرِف‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬الفريدة‭ ‬من‭ ‬أمانة‭ ‬وشرف،‭ ‬ونظافة‭ ‬يد‭ ‬ونقاء‭ ‬كسْب،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يشهد‭ ‬به‭ ‬القاصي‭ ‬والداني‭ ‬والمخالف‭ ‬والصديق،‭ ‬فهو‭ ‬الذي‭ ‬حفِظ‭ ‬الأمانة‭ ‬على‭ ‬أكمل‭ ‬وجه‭ ‬وكانت‭ ‬تحت‭ ‬تصرفه‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬أموال‭ ‬المستحقات‭ ‬التقاعدية،‭ ‬فكان‭ ‬بحق‭ ‬القويَّ‭ ‬الأمين‭ ‬الذي‭ ‬سلَّم‭ ‬الأمانة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أنْ‭ ‬تنقص‭ ‬فلساً‭ ‬واحداً،‭ ‬ولم‭ ‬يخَفْ‭ ‬في‭ ‬الله‭ ‬لومة‭ ‬لائم،‭ ‬وكان‭ ‬عفيف‭ ‬النفس‭ ‬عن‭ ‬إغراءات‭ ‬الدنيا‭ ‬راضياً‭ ‬بما‭ ‬قسم‭ ‬الله‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬رزق‭ ‬حلال‭. ‬وقد‭ ‬لفت‭ ‬نظري‭ ‬ما‭ ‬انتهجه‭ ‬من‭ ‬أسلوب‭ ‬جميل‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬الاحتفال‭ ‬باليوبيل‭ ‬الفضي‭ ‬لتأسيس‭ ‬الهيئة،‭ ‬وذلك‭ ‬عندما‭ ‬اجتمع‭ ‬بالمسؤولين‭ ‬بها‭ ‬وقال‭ ‬لن‭ ‬أضيِّع‭ ‬الأموال‭ ‬في‭ ‬احتفالات‭ ‬فيها‭ ‬بذخ‭ ‬وإسراف‭ ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬الآخرون،‭ ‬بل‭ ‬سأحتفل‭ ‬بهذه‭ ‬المناسبة‭ ‬بتدوين‭ ‬تاريخ‭ ‬العمل‭ ‬بالهيئة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إصدارات‭ ‬علمية‭ ‬عن‭ ‬مختلف‭ ‬شؤون‭ ‬وأعمال‭ ‬وخدمات‭ ‬الهيئة‭ ‬بحيث‭ ‬تكون‭ ‬مرجعاً‭ ‬تخصصيا‭ ‬للباحثين‭ ‬والمهتمين‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬التقاعدي‭ ‬والتأميني،‭ ‬وقد‭ ‬أوفى‭ ‬بوعده‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬الهيئة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬كخلية‭ ‬نحل،‭ ‬الجميع‭ ‬يبحث‭ ‬ويدوِّن‭ ‬ويكتب‭ ‬ويصيغ،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬قدوتهم‭.. ‬مديرهم‭ ‬العام،‭ ‬فقد‭ ‬حمل‭ ‬الراية‭ ‬بنفسه‭ ‬ليكون‭ ‬هو‭ ‬القدوة‭ ‬لهم‭ ‬جميعاً‭ ‬فألّف‭ ‬كتابه‭ ‬القيّم‭ (‬التقاعد‭ ‬البحريني‭ ‬بين‭ ‬الأصالة‭ ‬والمعاصرة‭) ‬وجاء‭ ‬في‭ ‬450‭ ‬صفحة‭ ‬وثقت‭ ‬بدايات‭ ‬العمل‭ ‬الحكومي‭ ‬والتأميني‭ ‬في‭ ‬المملكة‭. ‬وبهذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬الراقي‭ ‬والمتميز‭ ‬أثرى‭ ‬المكتبة‭ ‬التأمينية‭ ‬بكمٍّ‭ ‬من‭ ‬المؤلفات‭ ‬القَيِّمة،‭ ‬لتكون‭ ‬مراجع‭ ‬للمتخصصين‭ ‬في‭ ‬المستقبل،‭ ‬وكان‭ ‬لي‭ ‬شرف‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المشروع‭ ‬الرائد‭ ‬حيث‭ ‬أكرمني‭ ‬الله‭ ‬بتدوين‭ ‬كتاب‭ (‬السياسات‭ ‬الإدارية‭ ‬والمالية‭) ‬بمشاركة‭ ‬أختي‭ ‬الفاضلة‭ ‬الزميلة‭ ‬دلال‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬بوحجي‭ (‬أم‭ ‬عبدالعزيز‭) ‬رحمها‭ ‬الله‭ ‬وأسكنها‭ ‬فسيح‭ ‬جناته‭. ‬

ودليلاً‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬فهمه‭ ‬واستيعابه‭ ‬لجوانب‭ ‬دقيقة‭ ‬ومعقدة‭ ‬في‭ ‬الحسابات،‭ ‬فقد‭ ‬أعلمني،‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬عن‭ ‬اكتشافه‭ ‬سر‭ ‬إحدى‭ ‬المعادلات‭ ‬في‭ ‬الحسابات‭ ‬التقاعدية‭ ‬التي‭ ‬شغلت‭ ‬باله‭ ‬وأرَّقت‭ ‬نومه‭ ‬وهو‭ ‬يحاول‭ ‬فك‭ ‬رموزها،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تغييرها‭ ‬وتطويرها‭ ‬لتتناسب‭ ‬مع‭ ‬معطيات‭ ‬العصر‭. ‬وأنه‭ ‬بعد‭ ‬تفكير‭ ‬عميق‭ ‬ولعدة‭ ‬أسابيع‭ ‬هو‭ ‬والمستشار‭ ‬القانوني‭ ‬للهيئة‭ ‬فتح‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬واكتشف‭ ‬أن‭ ‬القسمة‭ ‬على‭ ‬العدد‭ ‬12‭ ‬إنما‭ ‬وضعه‭ ‬المشرِّع‭ ‬في‭ ‬حينه‭ ‬لأنَّ‭ ‬كسور‭ ‬العُمْلَة‭ ‬سابقاً‭ ‬كان‭ (‬آنة‭) ‬وأنه‭ ‬كان‭ ‬يقسم‭ ‬على‭ (‬12‭ ‬آنة‭) ‬أي‭ ‬ما‭ ‬يعادل‭ ‬ثلاثة‭ ‬أرباع‭ ‬الروبية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭. ‬

وعندما‭ ‬حطَّ‭ ‬رحاله‭ ‬وتقاعد‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬رسمياً‭ ‬وتخلص‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬الألقاب‭ ‬والمسؤوليات،‭ ‬آثر‭ ‬التجرد‭ ‬من‭ ‬حظوظ‭ ‬الدنيا،‭ ‬وزهد‭ ‬فيما‭ ‬عند‭ ‬الناس،‭ ‬ورغب‭ ‬بما‭ ‬عند‭ ‬الله‭ ‬تعالى،‭ ‬فقرر‭ ‬عدم‭ ‬الظهور‭ ‬الإعلامي،‭ ‬وكنت‭ ‬حينها‭ ‬أحاول‭ ‬إقناعه‭ ‬بقبول‭ ‬الالتقاء‭ ‬مع‭ ‬الأخ‭ ‬العزيز‭ ‬جمال‭ ‬زويد‭ ‬للحديث‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬برنامجه‭ ‬الرائد‭ ‬والرائع‭ (‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬الأحياء‭) ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬يمتنع‭ ‬ويقول‭ ‬ارجِع‭ ‬إلى‭ ‬كتابي‭ ‬فقد‭ ‬كتبت‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬أريد‭ ‬قوله‭.‬

هذا‭ ‬ونحسب‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬جل‭ ‬شأنه‭ ‬قد‭ ‬أكرم‭ ‬والدنا‭ ‬العزيز‭ ‬بويوسف،‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬بحسن‭ ‬الخاتمة‭ ‬وحُسْن‭ ‬الظن‭ ‬بالله،‭ ‬حيث‭ ‬زرته‭ ‬قبل‭ ‬أسابيع‭ ‬في‭ ‬مسجد‭ ‬لوتاه‭ ‬بالبسيتين‭ ‬الذي‭ ‬اعتاد‭ ‬الصلاة‭ ‬فيه‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬حياته،‭ ‬فسلمت‭ ‬عليه‭ ‬وقلت‭ ‬له‭ ‬جزاك‭ ‬الله‭ ‬عنّا‭ ‬خير‭ ‬الجزاء‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬قدمته‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬رعاية‭ ‬وعناية‭ ‬وتقويم‭ ‬حتى‭ ‬قوِيَ‭ ‬عودُنا،‭ ‬فنظر‭ ‬إليَّ‭ ‬نظرةً‭ ‬ثاقبة‭ ‬وقال‭ ‬بثقة‭ ‬وثبات‭ ‬إنني‭ ‬دعوت‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الجنة،‭ ‬وأن‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬لن‭ ‬يخيِّب‭ ‬أملي‭ ‬هذا‭. ‬وفي‭ ‬الحديث‭ ‬الشريف‭ ‬عَنْ‭ ‬أَبِي‭ ‬هُرَيْرَةَ،‭ ‬قَالَ‭: ‬قَالَ‭ ‬رَسُولُ‭ ‬اللَّهِ‭ ‬صَلَّى‭ ‬اللَّهُ‭ ‬عَلَيْهِ‭ ‬وَسَلَّمَ‭ ‬إِنَّ‭ ‬اللَّهَ‭ ‬يَقُولُ‭: ‬أَنَا‭ ‬عِنْدَ‭ ‬ظَنِّ‭ ‬عَبْدِي‭ ‬بِي،‭ ‬وَأَنَا‭ ‬مَعَهُ‭ ‬إِذَا‭ ‬دَعَانِي‭ ‬رواه‭ ‬مسلم‭.‬

وهذا‭ ‬غيضٌ‭ ‬من‭ ‬فيض‭ ‬من‭ ‬سيرة‭ ‬ذلك‭ ‬الرجل‭ ‬المبارك،‭ ‬وهذه‭ ‬دروس‭ ‬وعبر‭ ‬تستحق‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬نبراساً‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬تولى‭ ‬مسؤولية‭ ‬أو‭ ‬أصبح‭ ‬رئيساً‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الموظفين،‭ ‬فرحِم‭ ‬الله‭ ‬العم‭ ‬العزيز‭ ‬بويوسف‭ ‬وآجره‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬قدم‭ ‬للبحرين،‭ ‬ونسأل‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬أن‭ ‬يتقبل‭ ‬دعاءه‭ ‬وأن‭ ‬يرزقه‭ ‬الفردوس‭ ‬الأعلى‭ ‬من‭ ‬الجنة،‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬حساب‭ ‬ولا‭ ‬سابقة‭ ‬عذاب،‭ ‬‮…‬‭ ‬آمين‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا