لا يكاد يمر يوم من دون أن نسمع عن صدام بين مؤسسات الدولة المختلفة من جانب أحد الإعلاميين على الوسائط «التقليدية»، أو «المؤثرين» من صناع المحتوى على وسائط «التواصل الاجتماعي»، من جانب آخر. تُنتج هذه الصدامات جدلًا شديدًا، خصوصًا عندما تطال سياسيًّا مرموقًا مثل رئيس الولايات المتحدة السابق والمنتخب مجددا، دونالد ترامب، الذي حظره «تويتر» (إكس حاليًا) في عام 2021، وكذلك مدونة معروفة على «السوشيال ميديا»، تقدم محتوى مُختلفًا عليه، في إحدى دول العالم.
يحدث هذا الأمر باطراد سواء في المجتمعات المتقدمة أو في الدول الأقل تقدمًا والأكثر سلطوية، وفى بعض الأحيان ينتج عن هذا الصدام غبار كثيف تعجز وسائل الإعلام بسببه عن التماس الطرق «الأكثر مهنية واتساقًا مع القيم»، كما حدث في الانقسام حول نشر «الرسوم المسيئة» في بيئات صحفية أوروبية عدة.
لطالما استندت رؤى منع نشر الأفكار التي تتحدى «مفاهيم مجتمعية مستقرة»، أو تُراد لها الحماية، إلى تعبير «صيانة الأمن القومي» أو «الدفاع عن الثوابت والقيم»، وهو أمر يحظى بموافقة واحترام من قبل قطاعات في المجتمعات المختلفة.
لكن الهوة تتسع عادة بين دعاة «الحرية والانفتاح» من جهة، وهؤلاء الذين يريدون إخضاع ما يُقدم من محتوى عبر وسائط الإعلام المختلفة لمفهوم محدد عن «الثوابت الأخلاقية والقيمية» من جهة أخرى.
والشاهد أن ثمة تعريفات عديدة لمفهوم الأمن القومي، كما يعرف الباحثون في علم السياسة؛ لكن أحد أكثر هذه التعريفات إثارة للاهتمام يرى أن الأمن القومي هو «التدابير التي تتخذها الدولة لحماية القيم الحيوية للأمة».
تُعرّف السلطة، بمعناها العام، «القيم الحيوية للأمة»، وتسن القوانين، وتُفعّل الإجراءات، التي تكفل حمايتها؛ وهو أمر يحدث في كل دول العالم، إلى درجة أن يصدر حكم بالسجن ضد المفكر الكبير روجيه جارودي، في فرنسا، لأنه شكك في الأرقام المتداولة بشأن «ضحايا الهولوكوست».
يبدو أن لكل مجتمع من المجتمعات خطوطًا حمراء يريد أن يحافظ عليها من دون خرق أو تجاوز، وتلك الخطوط تتفاوت من مجتمع إلى آخر، كما تتفاوت الإجراءات الرادعة المستخدمة في كل دولة من دول العالم بحسب عوامل تاريخية وحضارية وقانونية وسياسية متعددة.
وبينما ظل هذا الصدام يحدث في المجتمعات المختلفة على مدى تاريخ وسائل الإعلام «التقليدية»، جاءت التغيرات الحادة التي طرأت على الفضاء الاتصالي العالمي، مع ظهور «الإنترنت»، ورواج وسائل «التواصل الاجتماعي»، لتفاقم تلك المشكلة وتعمق آثارها.
وبموازاة تلك التغيرات، زادت قدرة «السوشيال ميديا» على التأثير في صنع السياسات العامة، وبرز ناقدون لـ«المؤثرين الجدد» سعوا إلى الحد من انتشارهم عبر مهاجمتهم ومحاولة إقصائهم، كما ظهرت قطاعات تريد أن تُفعّل رؤيتها لما يجب أن يُسمح بتداوله في المجال العام، بجانب هؤلاء الذين يحرصون فعلًا على الحد من المخالفات المرتكبة عبر تلك الوسائط.
وقد انقسم مستخدمو «السوشيال ميديا»، الذين اهتموا بتلك الصدامات، إلى تيارين رئيسين؛ أولهما يرى أن المستخدمين الذين واجهوا الاتهامات وخضعوا للحبس والملاحقة القانونية أصحاب رأي لا يجب قمعهم، وثانيهما يعتقد أن ملاحقة «المخالفين» ضرورية، وأن حبس هؤلاء وعقابهم واجب، «حفاظًا على الآداب العامة وتماسك المجتمع وحرصًا على الفضيلة».
فما الحد الفاصل بين حرية الرأي والتعبير وحق السلطة العامة والمجتمع في حماية ما يُعتقد أنه أمنه ومصالحه وسماته الأخلاقية وعاداته؟ وما الذي يتوجب فعله إزاء انتهاكات وممارسات حادة ومثيرة للجدل ترد عبر الوسائط المختلفة في هذا الإطار؟
إن التوصل إلى مقياس شفاف لضبط هذا الخلاف ومعالجته يحتاج إلى الإقرار بأن حرية الرأي والتعبير مصونة ولا تُمس، لكنها يجب أن تُقيد عندما تثير الكراهية، أو تحرض على العنف، أو تطعن في «المعتقدات المقدسة»، أو تختلق الأخبار وتزيفها، أو تشجع التمييز، أو تنال من الحقوق الثابتة للآخرين، أو تتجاوز نسق الآداب العام كما تفهمه المؤسسات المعنية وترسيه.
إن التوافق المؤسسي في أي دولة على قواعد ومعايير بعينها لضبط التعبير في المجال العام مسألة تخص كل مجتمع ودولة، لأنها تجسد فهمها الخاص لـ«القيم الحيوية» التي ترتكز إليها في إقرار الضبط الاجتماعي وتفعيله.
وكلما كان هذا الفهم موضوعيًا وشفافًا ومُعلنًا ونافذًا بلا انتقائية أو تطرف ومغالاة، بات أكثر قدرة على الإقناع.
{ أكاديمي مختص في
مجالات الإعلام والاتصال.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك