انتهينا في المقال السابق بالسياسات الحديثة التي يوصي بها تقرير التنمية الصناعية 2024 لمواجهة التحديات في مجال التصنيع العربي. أبرز التقرير عددا من التحديات، أهمها توجيه الاهتمام إلى ثلاثة مجالات هي سياسات الابتكار (والرقمنة) والطاقة النظيفة (وإزالة الكربون) والعمالة (استحداث فرص عمل)، مع المحافظة على الاستدامة البيئية والمجتمعية وتنشيط التكامل الإقليمي العربي. تحقيق التقدم وفق التقرير يتطلب حشد الموارد للتعامل مع التحديات وأهمها تطوير البنى التحتية في مجال النقل والطاقة والاتصالات وتوفير الاستثمارات لتحسينها. تحقيق مستويات أعلى من التنويع الاقتصادي خصوصا في الدول النفطية التي ما زالت تعتمد على إيرادات النفط بشكل كبير، مثل هذا التنوع يعطيها قدرة أكبر على التصدير والتعامل مع الأزمات المالية المحلية والعالمية. من التحديات الأهم إصلاح التعليم والتدريب الفني وخصوصا معالجة الفجوة في التعليم الفني في مجالات التصنيع والتكنولوجيا المتقدمة وسد النقص في العمالة الفنية الوطنية.
هناك أمثلة عربية عديدة على استخدام السياسات الحديثة في دول الخليج مثلا والمغرب والأردن وتونس ومصر. تهدف هذه السياسات إلى تعزيز الابتكار والاستدامة. استمرار نجاح هذه التجارب يعتمد وفق التقرير على أهمية التعاون بين الحكومة والشركات من حيث تقاسم المخاطر والمكاسب، ومن خلال رؤية جماعية للمستقبل يشارك فيها المجتمع، تهدف إلى تسريع اعتماد التكنولوجيا وخصوصا في الشركات الصغيرة والمتوسطة. هذا التعاون ينبغي أن يمتد ليشمل تعاون في الأبحاث وفي بناء البنى التمكينية للتصنيع والمشاركة في الثورة الصناعية الرابعة والاستفادة من الشبكات والمنصات في مجال السياسات الصناعية.
يحدد التقرير ثلاثة شروط للنجاح تشمل توفير التمويل المناسب، أولا: بناء القدرات الحكومية وتعزيز الحوكمة وخصوصا الشفافية ومحاربة الفساد والمساءلة المجتمعية من خلال تقوية منظمات المجتمع المدني؛ ثانيا: توافق مجتمعي واسع النطاق يضمن استمرارية السياسة الصناعية مع التغيرات السياسية المحتملة؛ وأخيرا: دعم المجتمع الدولي للبلدان النامية، من ضمن هذا الدعم تقوية جهود التكامل العربي والإسراع في تنفيذ مشاريع صناعية.
فمثلا في 2014 صدر تقرير التكامل العربي (من منظمة الاسكوا بعنوان «التكامل العربي سبيل لنهضة إنسانية») يقول إنه لا بديل ولا غنى عن تفعيل مشروع التكامل العربي لتحقيق أي نوع من النهضة العربية لتحرر الإنسان من الخوف والفقر، وتحرر الأوطان من التبعية والاستباحة وتمكن الأمة من استئناف دورها التاريخي ورسالتها الإنسانية. سيعمل هذا المشروع على توطيـد العلاقـات الاقتصادية مع الكتـل والتجمعـات الأخرى خاصـة في العمق الإفريقي والآسـيوي للعالم العربي.
مثل هذا التوجه يحتاج إلى عمل مشترك. فالتحديات التي تواجهها الأمة تتجاوز الدولة الواحدة وتحتاج إلى جهد مشترك منسق على مستوى الدول العربية (ومجالسها الإقليمية المشرق والمغرب والخليج). كذلك يتطلب من المجالس الإقليمية وضع منظومة قياس التقدم في هذه السياسات ومتابعتها على المستوى الإقليمي والمحلي. لا تكتمل السياسات الصناعية من دون وضع مؤشرات تتابع التقدم في الجوانب المهمة، مؤشرات اقتصادية ومؤشرات اجتماعية، ومؤشرات حكومية وحوكمة وتأثير ذلك في المجتمع. من المؤشرات المهمة التي يمكن أن تستخدم لمتابعة النجاح في السياسة الصناعية بشكل عام النمو الاقتصادي ومستويات زيادة الإنتاجية وحجم الصادرات، وحجم الاستثمارات الوطنية والأجنبية والقدرة على نقل التكنولوجيا، وعدد الشركات الجديدة. أما المؤشرات الأهم لمتابعة الابتكار تكون من خلال عدد براءات الاختراع ونسبة تحويلها إلى منتجات، مستوى الاستثمار في البحث والتطوير في القطاع الصناعي، ومدى التعاون بين الجامعات والقطاعات الصناعية. والأهم مؤشرات تتابع بناء الإنسان بكل مقوماته، وتتابع تأثير السياسات على المجتمع من حيث خلق فرص عمل جديدة للشباب وتقليل البطالة والفقر وعدم المساواة.
بالنظر إلى هذه السياسات الجديدة نجد أن على الدول العربية أن تقطع شوطا طويلا لتصل إلى شروط النجاح وامتلاك الأرضية المناسبة للتطور الصناعي والمنافسة العالمية وإنتاج المعرفة. القضية ليست مستحيلة، ولكنها تعني تحولات كبيرة في بناء الإنسان والمجتمع والدولة. يتطلب ذلك فكرا مختلفا عما كان سائدا إلى اليوم. فكر يؤمن بالشراكة الحقيقية بين المجتمع والسلطات المختلفة، إزالة الحاجز الذي يفصل المجتمع العربي عن الدولة والعمل على تعزيز التماسك الاجتماعي ودعم الفئات الضعيفة. النجاح في السياسات الصناعية لا ينفصل عن النجاح في سياسات الوحدة الوطنية ومعالجة الاختلافات الفكرية بإقامة مجتمعات تؤمن بقبول الاختلاف ونبذ أي نوع من الصراعات واحتكار الحقيقة. وقد يكون الطريق الأفضل هو الانفتاح الفكري والسياسي والمشاركة الفاعلة وبناء المجتمع المدني بمنظمات قوية على أسس سليمة تمكنه من المساهمة في التنمية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك