قليلةٌ هي الكتابات التي تعرضت لشخصية بليني الأكبر على الرُغم من أنه أشهر كُتاب عصره وأغزرهم إنتاجًا في التدوين، وصاحب إسهاماتٍ علميةٍ تمثلت في تأليف عددٍ كبيرٍ من المُجلدات التي شكلت موسوعةً اعتمد فيها على مصادر متنوعة وتطرقت إلى مجالاتٍ مُختلفة، والمُلفت للانتباه في كتابات بليني الأكبر العلمية أن موسوعته ذكرت «تايلوس» في عدة محطات، وتضمنت وصفًا لطبيعتها وثرواتها، واشتهارها باللآلئ.
وُلد غايوس بلينيوس سيكوندوس المُلقب بـ «بليني الأكبر» أو «بلينيوس الأكبر» نحو عام 23م، وهو عالمٌ رومانيٌ مُتعدد التخصصات خدم في السلك العسكري، ولُقب ببليني الأكبر حتى يتسنى التفريق بينه وبين ابن أخيه الذي اشتهر وُعرف باسم «بليني الصغير»، ولبليني الأكبر عددٌ من المؤلفات من بينها «تاريخ الحروب الجرمانية»، فيما تُعد موسوعته التي حملت عنوان «التاريخ الطبيعي» (Naturalis Historia) أبرز الأعمال العلمية التي قام بإنجازها في حياته.
فاليوم أصبح البحث عن أيةِ معلومةٍ علميةٍ لا تستدعي كثيرًا من المشقة على عكس ماضينا القريب، حيث كان يستوجب على المرء الذهاب إلى مكتبةٍ عامةٍ أو مُتخصصةٍ والبحث عن موسوعاتٍ مثل الموسوعة البريطانية الشهيرة وتُعرف اختصارًا باسم «موسوعة بريتانيكا»، وموسوعاتٍ أُخرى مثل الموسوعة الأمريكية أو موسوعة كولير، وذلك للاطلاع على المعلومة التي يبتغيها أي فرد.
أما بالنسبة إلى تاريخ الموسوعات عالميًّا فهناك جدلٌ حول أي كتابٍ من المُمكن أن يكون قد حمل ملامح وخصائص الموسوعة، ولعل أولى ملامح الكتاب الذي حمل تلك الخصائص يعود الى العالم الإغريقي إسبوزيبوس الذي وُلد عام 408ق.م والمتوفى عام 339ق.م، حيث سعى لجمع معلوماتٍ حول عددٍ من العلوم إلا أنه لا أثر لعمله اليوم. ومن بعد إسبوزيبوس حاول عددٌ من الرومان مثل ماركوس بورسيوس كاتو (كاتو الأكبر)، وماركوس تيرينتيوس فارو من جمع المعلومات حول عددٍ من العلوم الأساسية.
بالرُغم من تلك المساعي فإن الفضل الرئيس لإعداد موسوعةٍ مُتكاملةٍ يعود بشكلٍ أساسيٍ إلى بليني الأكبر، حيث تمكن من تدوين 37 مُجلدًا في موسوعته «التاريخ الطبيعي»، ولإنجاز هذا العمل قام المؤلف بالاطلاع على نحو ألفي كتابٍ تم تدوينهم من قبل مائة كاتبٍ تُغطي ما يقرب من 20 ألف موضوع كما بين صاحب الموسوعة.
ويفتخر بأنه أول من قام بجمع هذا القدر الكبير من الموضوعات في مؤلفٍ واحد، وفي الواقع يذكر بليني بحسب ما أورده الباحثون في كتابه أنه ذكر أنه استعان بـ 473 مؤلفا، ولكن وبعد حصر عدد من ذكرهم في موسوعتهم تبين أن عدد أولئك الذين استعان بهم أكثر بكثير، كما أكد بليني الأكبر في موسوعته رغبته في الابتعاد عن المُحسنات اللفظية والتعبيرية رغبةً منه بأن يصل الكتاب إلى الجميع باختلاف خلفياتهم العلمية والتعليمية، واستغل فترة التوتر التي شهدها حُكم الإمبراطور نيرون (54 – 68م) للاعتزال والتفرغ للكتابة، فيما أهدى بليني الأكبر مُقدمة موسوعته إلى الإمبراطور الروماني فسبازيان (69 – 79م).
وقد جمعت الموسوعة شتى التخصصات المعروفة آنذاك مثل: علم الفلك، والجغرافيا، وعلم الحيوان، والحياة البحرية، والأنثروبولوجيا، وعلم الطيور، وعلم الحشرات، وعلم الشجر، والطب، والمعادن، والأحجار الكريمة، وغيرها من العلوم، ويدعي بليني الأكبر أن مؤلفه يُعد الأول من نوعه الذي غطى عددًا كبيرًا من المجالات والعلوم.
اتبع بليني الأكبر منهج جمع المعلومات كافة حتى وإن كانت تبدو غير واقعيةٍ أو من قبيل الأساطير، فقد ذكر على سبيل المثال لا الحصر وجود حورياتٍ في البحر، وأن هُناك أقوامًا برؤوس كلاب وأجسام بشر، وغيرها من المخلوقات الغريبة، وقد التزم بهذا النهج من مبدأ حرصه على ذكر كُل ما تم تدوينه حول موضوعٍ ما لطالما قام أحدٌ بذكره أو تدوينه مُسبقًا، فضلًا على أنه استعان بما قد أشار إليه الرحالة والتُجار أثناء تجوالهم في أرجاء المعمورة.
فيما يخص تاريخ تايلوس فبعد التقصي يتبين أن بليني الأكبر قد ذكر تايلوس بكتابه في ثلاث محطاتٍ رئيسة، المحطة الأولى في الكتاب السادس، والثانية في الكتاب العاشر، والثالثة في الكتاب الثاني عشر، فيما نوه بليني في كتابه السادس حول تايلوس، قائلًا إنها: «تشتهر بكثرة لآلئها...»، وهذا يدل على قدم تجارة اللؤلؤ في تايلوس ومنطقة الخليج العربي، ومكانتها كمصدرٍ رئيسٍ للثروات الطبيعية، وجاذبية المنطقة للتجارة.
ويذكر بليني الأكبر أيضًا حول تايلوس ما يأتي: «وفي نفس الخليج (ويقصد الخليج العربي) تقع جزيرة تايلوس، التي تغطيها غابةٌ من الجانب المُطلِ على الشرق، حيث تغسلها مياه البحر أيضًا عند ارتفاع المد، ويبلغ حجم كُل شجرةٍ من هذه الأشجار حجم شجرة التين؛ وتتمتع أزهارها بحلاوةٍ لا توصف، وتشبه ثمارها شكل نبات الترمس، ولكنها خشنةٌ وشائكةٌ إلى الحد الذي لا يمسها أي حيوان، وعلى هضبةٍ أكثر ارتفاعًا من نفس الجزيرة، نجد أشجارًا تنتج الصوف، ولكنها تختلف في طبيعتها عن صوف أشجار السرو؛ إذ لا تنتج أوراق هذه الأشجار أي شيءٍ على الإطلاق، بل قد نعتبرها بسهولةٍ أوراقًا للكرمة، لولا أنها أصغر حجمًا، وهي تنتج نوعًا من القرع، بحجم حبة السفرجل تقريبًا...». إن ما ذكره بليني يؤشر بوضوحٍ إلى وفرة الثروات الطبيعية الأخرى في تايلوس وطبيعتها الخلابة وتنوع خيراتها.
وقد أشار الأستاذ الدكتور جريجوري ألدريت، الأستاذ الفخري في التاريخ والدراسات الإنسانية بجامعة ويسكونسن – جرين باي الأمريكية، أن بليني الأكبر كان يعتبر أن الخلود إلى النوم مضيعةٌ للوقت، حيث إنه ومن الأفضل استغلال ذلك الوقت للعمل وطلب العلم، وذكر في هذا الصدد في مُقدمته الشهيرة ما يأتي: «نحن نُضيف ساعاتٍ إلى حياتنا – فمن المؤكد أن كوننا على قيد الحياة يعني أن نكون مُستيقظين»، وبناءً على فكره فقد كان يخلد مُبكرًا إلى النوم ومن ثم يستيقظ في مُنتصف الليل ليبدأ العمل على بحوثه، وفي الصباح الباكر يذهب لأداء مهامه الوظيفية.
والعديد من تلك التفاصيل التي أبرزت حرصه وعمله وشغفه الدؤوب في المُطالعة والمُثابرة قد رُصدت من قبل ابن أخيه المُلقب بـ «بليني الصغير»، الذي ذكر بأن عمه كان يعتبر أمورًا مثل تناول وجبة الطعام أو السفر بقصد السياحة والترفيه مضيعةً للوقت، حتى أنه وعلى طاولة الطعام كان يطلب من أحد العاملين لديه قراءة كتابٍ له، وآخرٍ يقوم بتدوين مُلاحظاته الشفوية حول ما ورد في الكتاب المقروء ريثما يتناول وجبة الطعام!
ويذكر بليني الصغير أيضًا كيف كان عمه بليني الأكبر يوبخه عندما كان يعتزم المشي لساعاتٍ طوال، مُعتبرًا الفعل مضيعةً للوقت، وأن عليه بدلًا من ذلك أن يركب كُرسيًا محمولًا على أكتاف العاملين لديه ليتسنى له كسب الوقت للقراءة والمُطالعة! وليس من الغريب أن شخصيةً مثل بليني الأكبر لم يتزوج أو يكون قد أنجب أولادًا، حيث كان يرى في ذلك عائقًا نحو مساعيه لطلب العلم والمعرفة. ويذكر بليني الصغير أنه ومن خلال نمط الحياة التي تبناها عمه فقد نجح في كتابة العديد من الكُتب والمدونات المُختلفة.
وتُمثل مسيرة بليني الأكبر مصدر إلهامٍ من خلال حرصه على البحث والاستقصاء ومُثابرته على المعرفة للعديد من الباحثين للسير على خُطاه وتكريس جُل وقتهم لمُلاحقة شغفهم وتجويد نتاجهم العلمي بعملٍ تخلد ذكره للآلاف السنوات، مُحتذين حذو بليني الذي ما زال مصدرًا للباحثين عن تلك الحقبة من الزمن.
لاقت موسوعة بليني الأكبر رواجًا كبيرًا لأكثر من 1500 عام، وقد تمت طباعتها على نطاقٍ واسعٍ بعد ظهور اختراع المُخترع الألماني يوهان غوتنبرغ الآلة الطباعة وانتشارها في أوروبا، وظلت الموسوعة مُتداولةٌ حتى قام الفرنسي دنيس ديدرو بنشر موسوعته في مُنتصف القرن الثامن عشر الميلادي، وهذه حكايةٌ أُخرى لمقالٍ آخر.
توفي بليني الأكبر على إثر ثوران جبل بُركان فيزوف في عام 79م، حيث من الأرجح أن الفضول قد دفعه إلى التوجه لموقع الحدث للاطلاع، إلا أن الأقدار شاءت بأن يتوفى بسبب الاختناق، وأن لا يتمكن من تدوين ما رآه في الحادثة، وتوفي عن عُمرٍ ناهز 55 عامًا، وبالرُغم من قصر عُمره فإن انتاجه ما زال حيًّا حتى وقتنا هذا.
إن مسار اللؤلؤ الذي تم تصنيفه ضمن أفضل مائة موقعٍ في العالم للزيارة والاستكشاف يُمثل إطلالةً واسعةً على تاريخ مملكة البحرين المُمتد إلى التاريخ القديم، وما أنجزه بليني الأكبر في موسوعته وإشارته الى اللؤلؤ في تايلوس وثرواتها هو علامةٌ فارقةٌ في تاريخ المنطقة باعتباره رائد زمانه في العلم والمعرفة.
{ المدير التنفيذي لمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك