العدد : ١٧٠٧٨ - الأربعاء ٢٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٧٨ - الأربعاء ٢٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

الثقافي

الحداثـة السـائـلـة وتطبيقات المجتمع الاستهلاكي

بقلم: حيدر علي الأسدي

السبت ١٥ أبريل ٢٠٢٣ - 02:00

سلسلة‭ ‬السيولة‭ ‬هي‭ ‬سلسلة‭ ‬كتب‭ ‬من‭ ‬تأليف‭ ‬عالم‭ ‬الاجتماع‭ ‬البولندي‭ ‬زيجومنت‭ ‬باومان‭ (‬1925-2017‭) ‬تناقش‭ ‬ظاهرة‭ ‬الحداثة‭ ‬ويصفها‭ ‬بالحداثة‭ ‬الصلبة‭ ‬التي‭ ‬تمثلت‭ ‬بسيادة‭ ‬وهيمنة‭ ‬العقل،‭ ‬وظاهرة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭ (‬السائلة‭) ‬التي‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬نعيشه‭ ‬حاليا‭ ‬من‭ ‬تفكك‭ ‬المفاهيم‭ ‬الصلبة‭ ‬وتهشم‭ ‬وتشظي‭ ‬الحقائق‭ ‬والمفاهيم،‭ ‬باومان‭ ‬ابتدأ‭ ‬هذه‭ ‬السلسة‭ ‬بكتاب‭ ‬الحداثة‭ ‬السائلة،‭ ‬ثم‭ ‬تفرع‭ ‬منها‭ ‬الى‭ ‬سبعة‭ ‬مجالات‭ ‬طالتها‭ ‬السيولة‭ ‬وهي‭: ‬الحياة،‭ ‬والحب،‭ ‬والأخلاق،‭ ‬والأزمنة،‭ ‬والخوف،‭ ‬والمراقبة،‭ ‬والشر،‭ ‬ان‭ ‬الحالة‭ ‬السائلة‭ ‬وفقا‭ ‬لباومان‭ ‬تمثل‭ ‬مرحلة‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬الصلابة‭ ‬الى‭ ‬السيولة،‭ ‬عبر‭ ‬خلق‭ ‬بيئة‭ ‬جديدة‭ ‬لمساعي‭ ‬الحياة‭ ‬الفردية‭ ‬ومواجهة‭ ‬الأفراد‭ ‬لسلسة‭ ‬تحديات‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬لها‭ ‬مثيلاً‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬احدى‭ ‬أهم‭ ‬تلك‭ ‬المعاني‭ ‬هو‭ (‬الاستهلاك‭) ‬فيرى‭ ‬باومان‭ ‬أن‭ ‬الاستهلاك‭ ‬قد‭ ‬تجاوز‭ ‬فكرة‭ ‬السلعة‭ ‬المادية‭ ‬إلى‭ ‬استهلاك‭ ‬العواطف‭ ‬والعلاقات‭ ‬الإنسانية‭ ‬وتكنولوجيا‭ ‬التواصل،‭ ‬بالصورة‭ ‬التي‭ ‬أثرت‭ ‬كثيرا‭ ‬على‭ ‬معاني‭ ‬الحياة‭ ‬والحب‭ ‬والأخلاق،‭ ‬وبالطريقة‭ ‬التي‭ ‬جعلتنا‭ ‬مراقبين‭ ‬باستمرار‭ ‬بسبب‭ ‬استهلاكنا‭ ‬النهِم‭ ‬للتكنولوجيا‭ ‬الحديثة،‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬سيولة‭ ‬الخوف‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬الاستهلاك‭ ‬والقلق‭ ‬مما‭ ‬يخبئه‭ ‬الغد،‭ ‬وأنتج‭ ‬لنا‭ ‬اضطرابا‭ ‬أخلاقيا‭ ‬أصبح‭ ‬معه‭ ‬الشر‭ ‬مُبررا‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬الدولة،‭ ‬وبوصف‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬العربية‭ ‬وبالأخص‭ ‬العراقي‭ ‬من‭ ‬اكثر‭ ‬المجتمعات‭ ‬استهلاكاً،‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬السلع،‭ ‬فان‭ ‬السيولة‭ ‬اخترقت‭ ‬حتى‭ ‬المجالات‭ ‬العاطفية‭ ‬بهذا‭ ‬الاستهلاك‭ ‬المعولم،‭ ‬فعالم‭ ‬اليوم‭ ‬تغيرت‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬معاني‭ ‬الحب‭ ‬والعاطفة‭ ‬والأخلاق‭ ‬الى‭ ‬مجالات‭ (‬المصلحة‭ ‬الذاتوية،‭ ‬والنفعية‭ ‬الباذخة‭) ‬فنتج‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬مسارات‭ ‬عدة‭ ‬للاستهلاك‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الاعتباري‭ ‬المعنوي‭ ‬لعلاقات‭ ‬الانسان‭ ‬مع‭ ‬اسرته‭ ‬ومع‭ ‬مجتمعه‭ ‬المحيط،‭ ‬فتغيرت‭ ‬مثلا‭ ‬علاقة‭ ‬رب‭ ‬الاسرة‭ ‬بالأطفال،‭ ‬والمعلم‭ ‬بتلاميذه‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬التغيرات‭ ‬التي‭ ‬جرت‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬العلاقات‭ ‬العاطفية‭ ‬والوجدانية،‭ ‬وتغير‭ ‬حتى‭ ‬مفهوم‭ ‬الحب‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬براغماتي‭ ‬بحت‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ (‬المال،‭ ‬أو‭ ‬محددات‭ ‬الثراء‭) ‬في‭ ‬منظومة‭ ‬الزواج‭ ‬مثلا‭ ‬أو‭ ‬منظومة‭ ‬العلاقات‭ ‬برمتها،‭ ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬الجانب‭ (‬الأخلاقي،‭ ‬العلمي‭) ‬كافياً‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬زوجة،‭ ‬وإنما‭ ‬المحدد‭ ‬المادي‭ ‬يحكم‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الارتباطات،‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الاستهلاك‭ ‬المغرق‭ ‬بحياتنا‭ ‬نتج‭ ‬عنه‭ ‬خوف‭ ‬وقلق‭ ‬مستمر‭ ‬وحالة‭ ‬اللايقين‭ ‬لمآلات‭ ‬المستقبل‭ ‬جراء‭ ‬هذه‭ ( ‬المعطيات‭ ‬المغلوطة‭). ‬إن‭ ‬مرحلة‭ ‬السيولة‭ ‬تمثل‭ ‬مرحلة‭ ‬تخلي‭ ‬الدولة‭ ‬عن‭ ‬دورها‭ ‬وفتح‭ ‬السوق‭ ‬امام‭ ‬الرأسمال‭ ‬الحر‭ ‬والاستهلاك‭ ‬المستمر،‭ ‬والاشباع‭ ‬المؤقت‭ ‬للرغبات‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬تحدث‭ ‬عنه‭ ‬باومان‭ ‬في‭ ‬تعريفه‭ ‬للسيولة،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬الفرد‭ ‬اصبح‭ ‬يواجه‭ ‬مخاوفه‭ ‬وحيداً‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬هذا‭ ‬التسارع‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬بل‭ ‬ربما‭ ‬أن‭ ‬ممارسات‭ ‬الدولة‭ ‬بمجملها‭ ‬تمثل‭ ‬إضافات‭ ‬أخرى‭ ‬لحالات‭ ‬القهر‭ ‬والمخاوف‭ ‬التي‭ ‬تقع‭ ‬على‭ ‬عاتق‭ ‬هذا‭ ‬الفرد،‭ ‬فيفقد‭ ‬الفرد‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الثقة‭ ‬والاطمئنان‭ ‬ويعتلي‭ ‬لديه‭ ‬مسار‭ ‬الخوف‭ ‬والقلق‭ ‬المستدام‭ ‬جراء‭ ‬هذه‭ ‬السيولة‭ ‬التي‭ ‬تربك‭ ‬الأفراد‭ ‬باتجاه‭ ‬غموض‭ ‬المستقبل‭ ‬وانعدام‭ ‬الرؤية‭ ‬للغد،‭ ‬فاصبح‭ ‬الافراد‭ ‬يهربون‭ ‬من‭ ‬واقعهم‭ ‬الحقيقي‭ ‬باتجاه‭ ‬العوالم‭ ‬الافتراضية،‭ ‬وبدورها‭ ‬تمثل‭ ‬هذه‭ ‬الافتراضات‭ (‬الرأي،‭ ‬الحذف،‭ ‬الاستنكار،‭ ‬القبول،‭ ‬الإعجاب‭) ‬ضغطات‭ ‬زر‭ (‬استهلاكية‭ ‬وسريعة‭) ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬أصبحت‭ ‬تمثل‭ ‬محددات‭ ‬جديدة‭ ‬لعلاقات‭ ‬الواقع،‭ ‬مما‭ ‬يعني‭ ‬مزيداً‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬الاستهلاكية‭ ‬داخل‭ ‬ذوات‭ ‬الافراد،‭ ‬وبصورة‭ ‬فورية‭ ‬مستعجلة‭ ‬تتغاير‭ ‬كل‭ ‬لحظة‭ ‬قيمة‭ ‬تلك‭ ‬المشاعر‭ ‬ودرجات‭ ‬قراراتها‭ ‬اتجاه‭ ‬الآخر‭ ‬بمسمياته‭ ‬كافة،‭ ‬مما‭ ‬ينمي‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬السيولة،‭ ‬ويحول‭ ‬المجتمع‭ ‬الى‭ ‬متفكك‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬انهاء‭ ‬او‭ ‬تكوين‭ ‬العلاقات‭ ‬بصورة‭ ‬سريعة،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬تسرب‭ ‬الملل‭ ‬يسري‭ ‬في‭ ‬منظومة‭ ‬العلاقات‭ ‬الاسرية‭ ‬ومنها‭ ‬الحياة‭ ‬الزوجية‭ ‬وتشاع‭ ‬حالات‭ ‬الانفصال‭ ‬جراء‭ (‬المتسبب‭ ‬الافتراضي‭/ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬والموبايل‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬التكنولوجيا‭)‬،‭ ‬وعلى‭ ‬وفق‭ ‬هذا‭ ‬فقد‭ ‬تفككت‭ ‬المجتمعات‭ ‬والعادات‭ ‬والأعراف‭ ‬أنماط‭ ‬السلوك‭ ‬كلها‭ ‬لم‭ ‬تقاوم‭ ‬إزاء‭ ‬هذه‭ ‬السيولة‭ ‬ولم‭ ‬تصمد‭ ‬طويلاً‭ ‬إزاء‭ ‬ما‭ ‬تنتجه‭ ‬العولمة‭ ‬وعوالم‭ ‬الافتراض‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬جديدة‭ ‬تتسق‭ ‬مع‭ ‬لذة‭ ‬الاستهلاك‭ ‬التي‭ ‬يسعى‭ ‬لتحقيقها‭ ‬الأفراد،‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬التنوع‭ ‬والخيارات‭ ‬المتاحة‭ ‬التي‭ ‬تعزز‭ ‬مفاهيم‭ ‬الاستهلاك‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬وتغرقنا‭ ‬بالمزيد‭ ‬من‭ ‬حالات‭ ‬الوقوف‭ ‬في‭ ‬فخ‭ ‬العولمة‭ ‬السلبي‭ ‬وشباك‭ ‬الاستهلاك‭ ‬السلبي‭ ‬الذي‭ ‬يعطل‭ ‬الجوانب‭ ‬الإنتاجية‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭ ‬ويزيد‭ ‬من‭ ‬حالات‭ ‬الخمول‭ ‬والتفكك‭ ‬والتشظي‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا‭.‬

{ ناقد‭ ‬وأكاديمي‭ (‬العراق‭/‬بصرة‭)‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا