العدد : ١٧٠٧٩ - الخميس ٢٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٧٩ - الخميس ٢٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

الثقافي

سـرديـات: في السَّرديات الكونية عابرة الحدود والقارات!

بقلم: د. ضياء عبدالله الكعبي

السبت ٠٣ يونيو ٢٠٢٣ - 02:00

يذكر‭ ‬المؤرخ‭ ‬والمفكر‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬كريستيان‭ ‬غراتالو‭ ‬أستاذ‭ ‬‮«‬الجيوتاريخ‮»‬‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬باريس‭ ‬أنَّ‭ ‬المجتمعات‭ ‬البشرية‭ ‬جميعها‭ ‬شيّدت‭ ‬خطابًا‭ ‬يموقعها‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬تراه‭ ‬من‭ ‬الكون‭ ‬وتتخيله‭ ‬عنه‭. ‬و«أنَّ‭ ‬كلَّ‭ ‬مجموعة‭ ‬بشرية‭ ‬تفكر‭ ‬في‭ ‬نفسها‭ ‬بصفتها‭ ‬مجموعة‭ ‬بشرية،‭ ‬تبلور‭ ‬نظرية‭ ‬في‭ ‬نشأة‭ ‬الكون‭ ‬ممزوجة‭ ‬بسفر‭ ‬تكوين‭ ‬معين‭. ‬إلا‭ ‬أنَّ‭ ‬المجتمعات‭ ‬قامت‭ ‬بذلك‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬رؤيتها‭ ‬هي،‭ ‬ووفق‭ ‬ذاتية‭ ‬تشعر‭ ‬أحيانًا‭ ‬بأنها‭ ‬شبه‭ ‬محاصرة‮»‬‭.‬

يؤكّد‭ ‬كريستيان‭ ‬غراتالو‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬هل‭ ‬يجب‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬العالم‭ ‬بطريقة‭ ‬أخرى؟‮»‬‭ ‬أنَّ‭ ‬ثمَّة‭ ‬حاجة‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬تفكيك‭ ‬المركزيات‭ ‬السردية‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬حكمت‭ ‬رواية‭ ‬العالم‭ ‬وتقديمه‭ ‬إلى‭ ‬المتلقين‭ ‬بالمرجعية‭ ‬المركزية‭ ‬الأوروبية‭ ‬الحاكمة‭. ‬لقد‭ ‬حكمتنا‭ ‬هذه‭ ‬المركزية‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬أطلس‭ ‬تاريخي‭ ‬للعالم‭ ‬منذ‭ ‬عهد‭ ‬الكولونيالية‭  ‬وبالتالي‭ ‬قولبت‭ ‬صور‭ ‬‮«‬الآخرية»؛‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬يوجد‭ ‬خارجها‭ ‬بالهامشية‭ ‬التاريخية‭ ‬والطمس‭ ‬والإلغاء‭ ‬والمحو‭. ‬وفي‭ ‬مقابل‭ ‬هذه‭ ‬المركزيات‭ ‬والروايات‭ ‬التاريخية‭ ‬القومية‭ ‬والكولونيالية‭ ‬الأوروبية‭ ‬الحاكمة‭ ‬برزت‭ ‬خطابات‭ ‬مناهضة‭ ‬ومضادة‭ ‬هي‭ ‬خطابات‭ ‬تريد‭ ‬إنشاء‭ ‬مركزيات‭ ‬جديدة‭ ‬توازي‭ ‬المركزيات‭ ‬الأوروبية‭ ‬الحاكمة‭ ‬بل‭ ‬تعمل‭ ‬أيضًا‭ ‬على‭ ‬محوها‭ ‬وطمسها‭. ‬ففي‭ ‬مبحث‭ ‬طريف‭ ‬عنونه‭ ‬غراتالو‭ ‬بـ«الجميع‭ ‬اكتشف‭ ‬أمريكا‭ ‬باستثناء‭ ‬كولمبوس‭!‬‮»‬‭ ‬يورد‭ ‬بعض‭ ‬الروايات‭ ‬المضادة‭ ‬التي‭ ‬تريد‭ ‬تصحيح‭ ‬الرواية‭ ‬الأوروبية‭ ‬الكبرى‭ ‬المتداولة‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬عن‭ ‬اكتشاف‭ ‬أمريكا‭! ‬فقد‭ ‬قدّم‭ ‬الضابط‭ ‬السابق‭ ‬في‭ ‬البحرية‭ ‬الملكية‭ ‬البريطانية‭ ‬غافين‭ ‬منزيس‭ ‬رواية‭ ‬قروسطية‭ ‬صينية‭ ‬تذهب‭ ‬إلى‭ ‬أنَّ‭ ‬الرحلات‭ ‬الكبرى‭ ‬الصينية‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي‭ ‬وقادها‭ ‬زهانغ،‭ ‬وقد‭ ‬اجتازت‭ ‬الأطلسي‭ ‬ثم‭ ‬عادت‭ ‬إلى‭ ‬الصين‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬الساحل‭ ‬السيبيري‭. ‬وهناك‭ ‬رواية‭ ‬إفريقية‭ ‬تذهب‭ ‬إلى‭ ‬أنَّ‭ ‬البطل‭ ‬المؤسّس‭ ‬في‭ ‬مالي‭ ‬صوندياتا‭ ‬كايتا‭ ‬ذهب‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬المحيط‭ ‬في‭ ‬مائتي‭ ‬زورق‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬منها‭ ‬سوى‭ ‬زورق‭ ‬واحد‭ ‬فقط‭! ‬ثم‭ ‬قاد‭ ‬السلطان‭ ‬أبوبكر‭ ‬الثاني‭ ‬بنفسه‭ ‬أسطولاً‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬ألفي‭ ‬زورق‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬منها‭ ‬أي‭ ‬زورق‭!‬

تسمح‭ ‬هذه‭ ‬الروايات‭ ‬كما‭ ‬يؤكد‭ ‬غراتالو‭ ‬بتصور‭ ‬عالم‭ ‬أطلسي‭ ‬أسود،‭ ‬وتحاول‭ ‬هذه‭ ‬الروايات‭ ‬المضادة‭ ‬تفكيك‭ ‬الروايات‭ ‬القومية‭ ‬الكبرى‭ ‬الأوروبية‭ ‬التي‭ ‬طمست‭ ‬روايات‭ ‬الآخرين‭ ‬وأبقت‭ ‬فقط‭ ‬مروياتها‭ ‬الكبرى‭ ‬السردية‭ ‬الخاصة‭ ‬بها‭.‬

نحن‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬أطلس‭ ‬تاريخي‭ ‬كوني‭ ‬جديد‭ ‬ينظر‭ ‬بعمق‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬العلاقات‭ ‬البينية‭ ‬بين‭ ‬مختلف‭ ‬الشعوب‭ ‬والحضارات‭ ‬في‭ ‬الحقب‭ ‬الزمنية‭ ‬ذاتها،‭ ‬وبالتالي‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬التواريخ‭ ‬المتعددة‭ ‬وإلى‭ ‬العمق‭ ‬الجغرافي‭ ‬والتاريخي‭ ‬والسياسي‭ ‬والثقافي‭ ‬لتلك‭ ‬العلاقات‭ ‬الحضارية‭ ‬البينية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لا‭ ‬يفرض‭ ‬مرجعية‭ ‬واحدة‭ ‬لتاريخ‭ ‬الكون‭ ‬اعتمادًا‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬المرجعية‭ ‬التاريخية‭ ‬الأوروبية‭. ‬لقد‭ ‬أعجبني‭ ‬في‭ ‬متحف‭ ‬اللوفر‭ ‬أبوظبي‭ ‬وجود‭ ‬مفهوم‭ ‬شامل‭ ‬لرؤية‭ ‬كونية‭ ‬يصدر‭ ‬عنها‭ ‬هذا‭ ‬المتحف‭ ‬العالمي‭ ‬في‭ ‬جمع‭ ‬ابتكارات‭ ‬البشرية‭ ‬وإبداعاتها‭ ‬خلال‭ ‬قرون‭ ‬طويلة‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬المتشابه‭ ‬والمؤتلف‭ ‬بينها،‭ ‬ولدحض‭ ‬بعض‭ ‬المسلمات‭ ‬الفكرية‭ ‬الجاهزة‭ ‬بأنَّ‭ ‬ثمة‭ ‬انعزالاً‭ ‬تاريخيًا‭ ‬فرضته‭ ‬الجغرافيا‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الشعوب‭. ‬إنَّ‭ ‬المتحف‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يؤكد‭ ‬وجود‭ ‬صلات‭ ‬حضارية‭ ‬كشفت‭ ‬عنها‭ ‬تلك‭ ‬البقايا‭ ‬الأثرية‭ ‬الكونية‭.‬

في‭ ‬سن‭ ‬العاشرة‭ ‬أصيب‭ ‬غراتالو‭ ‬بصدمة‭ ‬ثقافية‭ ‬كبرى‭ ‬كانت‭ ‬المؤثِّرة‭ ‬عليه‭ ‬وعلى‭ ‬إعادة‭ ‬فهمه‭ ‬وتفكيكه‭ ‬للأشياء‭. ‬لقد‭ ‬اكتشف‭ ‬خارج‭ ‬جدران‭ ‬المدرسة‭ ‬أنَّ‭ ‬ثمَّة‭ ‬تواريخ‭ ‬مشتركة‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬فرنسا‭ ‬وجيرانها،‭ ‬وأنَّ‭ ‬التغيرات‭ ‬الأساسية‭ ‬والاكتشافات‭ ‬الكبرى،‭ ‬مثل‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية،‭ ‬حدثت‭ ‬في‭ ‬كامل‭ ‬أوروبا‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬فقط‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬الرواية‭ ‬القومية‭ ‬الفرنسية‭ ‬تُقدم‭ ‬لطلاب‭ ‬المدارس،‭ ‬وكانت‭ ‬لها‭ ‬نتائج‭ ‬حتى‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬شعوب‭ ‬نائية‭ ‬جدًا‭.‬

يسمح‭ ‬التأمل‭ ‬في‭ ‬المتاحف‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬الإنسان‭ ‬بإعادة‭ ‬سرد‭ ‬تواريخ‭ ‬البشرية‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬جديد‭ ‬ومغاير،‭ ‬وأذكر‭ ‬هنا‭ ‬نتيجة‭ ‬تأمل‭ ‬توصلت‭ ‬إليها‭ ‬شخصًيا‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الكتب‭ ‬ففي‭ ‬متحف‭ ‬الفن‭ ‬المعاصر‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬ميلانو‭ ‬الإيطالية‭ ‬وعندما‭ ‬كنت‭ ‬أتأمل‭ ‬اللوحات‭ ‬الفنية‭ ‬والجداريات‭ ‬الضخمة‭ ‬التي‭ ‬أنتجها‭ ‬كبار‭ ‬الفنانين‭ ‬الإيطاليين‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬وأوائل‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬كانت‭ ‬الأيقونة‭ ‬الدينية‭ ‬في‭ ‬سرد‭ ‬قصة‭ ‬العهد‭ ‬الجديد‭ (‬الإنجيل‭) ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬مسيطرة‭ ‬ومهيمنة‭ ‬على‭ ‬اللوحات‭ ‬الجدارية‭ ‬والمنحوتات‭ ‬والتماثيل‭ ‬رغم‭ ‬تجاوز‭ ‬هذه‭ ‬الأيقونة‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬وبروز‭ ‬تيارات‭ ‬الفن‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬أوروبا‭ ‬مثل‭ ‬الانطباعية‭ ‬والتكعيبية‭ ‬والسوريالية‭ ‬وغيرها‭. ‬إذن‭ ‬ثمَّة‭ ‬اختلافات‭ ‬استثنائية‭ ‬مغايرة‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الكلي؛‭ ‬ولذلك‭ ‬أنصح‭ ‬بقراءة‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الكتب‭ ‬المحرضة‭ ‬على‭ ‬التفكير‭ ‬لإعادة‭ ‬تفكيك‭ ‬بعض‭ ‬المركزيات‭ ‬السردية‭ ‬الحاكمة‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬التاريخ‭ ‬الكوني‭ ‬الشامل‭ ‬وإعادة‭ ‬النظر‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬جديد‭!‬

كتاب‭ ‬‮«‬هل‭ ‬يجب‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬العالم‭ ‬بطريقة‭ ‬أخرى؟‮»‬‭ ‬هو‭ ‬كتاب‭ ‬للمفكر‭ ‬والمؤرخ‭ ‬الفرنسيَّ‭ ‬كريستيان‭ ‬غراتالو‭ ‬ومن‭ ‬ترجمة‭ ‬د‭. ‬الهادي‭ ‬التيمومي‭ ‬أستاذ‭ ‬التاريخ‭ ‬المعاصر‭ ‬المتميّز‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬التونسية،‭ ‬ومن‭ ‬إصدارات‭ ‬مشروع‭ ‬‮«‬نقل‭ ‬المعارف‮»‬‭ ‬عن‭ ‬هيئة‭ ‬البحرين‭ ‬للثقافة‭ ‬والآثار‭.‬

 

{ أستاذة‭ ‬السرديات‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبي‭ ‬الحديث‭ ‬

المشارك،‭  ‬كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬جامعة‭ ‬البحرين

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا