العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

الثقافي

سـرديـات: الترجمة وإنتاج المعرفة في القرن الحادي والعشرين

بقلم: د. ضياء عبدالله الكعبي

السبت ٢٣ سبتمبر ٢٠٢٣ - 02:00

إنَّ‭ ‬المعرفة‭ ‬شيء‭ ‬‮«‬يُنتج‮»‬‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬شيء‭ ‬‮«‬يُكتشف‮»‬،‭ ‬وانطلاقًا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬القاعدة‭ ‬مثّلت‭ ‬الترجمة‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬تمثّلُ‭ ‬آلياتٍ‭ ‬أساسية‭ ‬لإنتاج‭ ‬المعرفة‭ ‬الإنسانيّة‭ ‬في‭ ‬حقولها‭ ‬الكبرى،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬إعادة‭ ‬صياغة‭ ‬الفكر‭ ‬البشري‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأهمية‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬تتبوأها‭ ‬الترجمة‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬الثقافة‭ ‬والمعرفة‭ ‬إلا‭ ‬أنَّ‭ ‬الدراسات‭ ‬التي‭ ‬حاولت‭ ‬استنطاق‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬في‭ ‬حكم‭ ‬القلة‭ ‬الاستثنائيّة‭ ‬والنادرة،‭ ‬خاصةً‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬دراسات‭ ‬الترجمة،‭ ‬وفي‭ ‬مجال‭ ‬الدراسات‭ ‬الثقافيّة‭ ‬وتواريخ‭ ‬الأفكار‭. ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬منى‭ ‬بيكر‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬انتقل‭ ‬بنظرية‭ ‬السرد‭ ‬من‭ ‬العلوم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬البحتة‭ ‬إلى‭ ‬دراسات‭ ‬الترجمة،‭ ‬في‭ ‬كتابها‭ ‬التأسيسي‭: ‬‮«‬الترجمة‭ ‬والصراع،‭ ‬تفسير سردي‮»‬‭ ‬Translation‭ ‬and‭ ‬Conflict‭: ‬A‭ ‬Narrative‭ ‬Account‭. ‬

‭ ‬وتناولت‭ ‬بيكر‭ ‬في‭ ‬أطروحتها‭ ‬تفسير‭ ‬سلوك‭ ‬المترجمين‭ ‬بوصفهم‭ ‬فاعلين‭ ‬اجتماعيين‭ ‬تنطبق‭ ‬عليهم‭ ‬نظريات‭ ‬علم‭ ‬الاجتماع‭. ‬وبالتالي‭ ‬ترى‭ ‬بيكر‭ ‬في‭ ‬السرد‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬معالجة‭ ‬النصوص‭ ‬المترجمة،‭ ‬والسَّرديات‭ ‬الكامنة‭ ‬وراء‭ ‬ترجمة‭ ‬هذه‭ ‬النصوص،‭ ‬لما‭ ‬في‭ ‬النظرية‭ ‬من‭ ‬مدى‭ ‬يمكن‭ ‬الباحث‭ ‬من‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬النص‭ ‬الأوسع‭ ‬الذي‭ ‬يؤثِّر‭ ‬فيه‭ ‬النص‭ ‬المترجم‭ ‬ويتأثر‭ ‬به‭. ‬

للسَّرديات‭ ‬دور‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬النقل‭ ‬والترجمة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬التأثير‭ ‬في‭ ‬المترجم‭ ‬أو‭ ‬الوسيط‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يلجأ‭ ‬إلى‭ ‬عناصر‭ ‬إضافية‭ ‬خارجية‭ ‬لتأطير‭ ‬النص‭ ‬المنقول‭ ‬وتوجيه‭ ‬عملية‭ ‬تلقيه‭ ‬إلى‭ ‬وجهات‭ ‬معينة‭. ‬وهناك‭ ‬أربعة‭ ‬أنواع‭ ‬من‭ ‬السَّرديات،‭ ‬هي‭ ‬الشخصية،‭ ‬والجماعية،‭ ‬والمفاهيميّة،‭ ‬والسَّرديات‭ ‬الكبرى‭. ‬فالسَّرديات‭ ‬الشخصية‭ ‬هي‭ ‬الحكايات‭ ‬التي‭ ‬يتبناها‭ ‬الأفراد‭ ‬عن‭ ‬أنفسهم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إيجاد‭ ‬مكان‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭.‬

والسرديات‭ ‬الشخصية،‭ ‬تعيد‭ ‬سرد‭ ‬تجارب‭ ‬المرء‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬ما‭ ‬لإعادة‭ ‬سردها‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭ ‬وبلغة‭ ‬أخرى‭.‬

أمَا‭ ‬السَّرديات‭ ‬الجماعية‭ ‬فهي‭ ‬السَّرديات‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالتشكيلات‭ ‬الثقافيّة‭ ‬والمؤسسيّة‭.‬

وفي‭ ‬مجال‭ ‬الترجمة‭ ‬تلعب‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬دورًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬في‭ ‬ضبط‭ ‬عمليات‭ ‬الترجمة،‭ ‬وربّما‭ ‬قولبتها‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬بقوالب‭ ‬ذهنية‭ ‬معينة،‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬ما‭ ‬أوضحه‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬في‭ ‬مقاله‭ ‬الأدب‭ ‬المحظور‭ ‬فمن‭ ‬الأعمال‭ ‬الروائية‭ ‬العربيّة،‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭ ‬ما‭ ‬تُرجم‭ ‬من‭ ‬العربيّة‭ ‬إلى‭ ‬الإنجليزية‭ ‬ليس‭ ‬لأسباب‭ ‬فنية‭ ‬أو‭ ‬إبداعيّة‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬الترجمة‭ ‬لأسباب‭ ‬تتعلق‭ ‬بالسَّرديات‭ ‬الجماعيّة‭ ‬الغربية‭ ‬الخاصة‭ ‬بالصورة‭ ‬الذهنية‭ ‬النمطية‭ ‬عن‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬وعن‭ ‬الإسلام‭.‬

والنمط‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬الترجمة‭ ‬هو‭ ‬السَّرديات‭ ‬المفاهيميّة،‭ ‬وهي‭ ‬حكايات‭ ‬وتفسيرات‭ ‬يعتنقها‭ ‬الباحثون‭ ‬عن‭ ‬مادة‭ ‬بحثهم‭ ‬ويبثونها‭ ‬لغيرهم‭.‬

وتكمن‭ ‬قوة‭ ‬هذه‭ ‬الحكايات‭ ‬في‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬تشييد‭ ‬المؤسسة‭ ‬والحفاظ‭ ‬على‭ ‬تماسكها،‭ ‬ومن‭ ‬ثمَّ‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬التوجيه‭ ‬نحو‭ ‬الفعل‭.‬

ومن‭ ‬السَّرديات‭ ‬المفاهيميّة‭ ‬التي‭ ‬شاعت‭ ‬فترة‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬أنَّ‭ ‬المترجمين‭ ‬أقل‭ ‬شأناً‭ ‬من‭ ‬المؤلفين،‭ ‬وأنَّ‭ ‬مهمة‭ ‬المترجم‭ ‬لا‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬أيّ‭ ‬إبداع،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬قوّضته‭ ‬نظريات‭ ‬السَّرد‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالترجمة،‭ ‬التي‭ ‬ترى‭ ‬أنَّ‭ ‬المترجمين‭ ‬هم‭ ‬أحد‭ ‬الفاعلين‭ ‬المهمين‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬النقل‭.‬

أمّا‭ ‬النوع‭ ‬الرابع‭ ‬والأخير‭ ‬من‭ ‬السَّرديات‭ ‬فهي‭ ‬السَّرديات‭ ‬الكبرى‭ ‬وهي‭ ‬‮«‬السَّرديات‭ ‬المسيطرة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تهيمن‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬البشر‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬كله‭.  ‬

إنَّ‭ ‬الترجمات‭ ‬فعل‭ ‬انتقاء‭ ‬وثقافة‭ ‬ومعرفة،‭ ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬لدى‭ ‬المترجم‭ ‬رؤية‭ ‬فكرية‭ ‬ما،‭ ‬تدفعه‭ ‬إلى‭ ‬الانهماك‭ ‬في‭ ‬ترجمة‭ ‬مشروع‭ ‬إبداعي‭ ‬أو‭ ‬فكري‭ ‬ما،‭ ‬ومنها‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬تخصص‭ ‬المترجم‭ ‬صالح‭ ‬علماني‭ ‬في‭ ‬ترجمة‭ ‬روايات‭ ‬من‭ ‬أدب‭ ‬أمريكا‭ ‬اللاتينية‭ ‬لكتاب‭ ‬معينين،‭ ‬واشتغال‭ ‬الأكاديمي‭ ‬والناقد‭ ‬كمال‭ ‬أبوديب‭ ‬بترجمة‭ ‬بعض‭ ‬كتب‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد،‭ ‬وهناك‭ ‬الكثير‭ ‬والكثير‭ ‬من‭ ‬الأمثلة‭ ‬الدالة‭. ‬ومن‭ ‬جانب‭ ‬آخر‭ ‬أنتجت‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‭ ‬بجامعة‭ ‬البحرين‭ ‬عبر‭ ‬عقود‭ ‬بعض‭ ‬المشاريع‭ ‬الاستثنائية‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الترجمة،‭ ‬كما‭ ‬اشتغل‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬المترجمين‭ ‬البحرينيين‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الترجمات‭ ‬الثقافية‭ ‬والإبداعية‭. ‬

{ أستاذة‭ ‬السَّرديات‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبي‭ ‬الحديث‭ ‬المشارك،‭ ‬

كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬جامعة‭ ‬البحرين

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا