العدد : ١٧٠٨٠ - الجمعة ٢٧ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٦ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨٠ - الجمعة ٢٧ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٦ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

الثقافي

روسيليني.. والسرد المكاني في رحلة إلى إيطاليا

السبت ١٣ يناير ٢٠٢٤ - 02:00

كتب‭: ‬أحمد‭ ‬فيصل‭ ‬ضيف

 

روبيرتو‭ ‬روسيليني‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬بأب‭ ‬الواقعية‭ ‬الإيطالية‭ ‬الجديدة‭ ‬وهي‭ ‬حركة‭ ‬سينمائية‭ ‬اشتهرت‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬حيث‭ ‬يعتبر‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬مؤسسيها‭ ‬بعد‭ ‬إصداره‭ ‬فيلمه‭ ‬الثوري‭ ‬Rome‭,‬‭ ‬Open‭ ‬City‭ (‬روما،‭ ‬المدينة‭ ‬المفتوحة‭). ‬امتازت‭ ‬الحركة‭ ‬بواقعيتها‭ ‬التي‭ ‬تجسد‭ ‬مرارة‭ ‬العيش‭ ‬والفقر‭ ‬بذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬وكانت‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬عواملها‭ ‬هي‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬كوادر‭ ‬تمثيلية‭ ‬غير‭ ‬احترافية‭ ‬والتصوير‭ ‬بأماكن‭ ‬حقيقية‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬الاستوديوهات،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يمثل‭ ‬نقلة‭ ‬نوعية‭ ‬عن‭ ‬الأفلام‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تصدر‭ ‬قبل‭ ‬الحرب‭.‬

ألهم‭ ‬روسيليني‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المخرجين‭ ‬الإيطاليين‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬ومن‭ ‬أهمهم‭ ‬فيدريكو‭ ‬فيليني،‭ ‬فيتوريو‭ ‬دي‭ ‬سيكا،‭ ‬ولوشينو‭ ‬فيسكونتي‭ ‬والذين‭ ‬بحد‭ ‬ذاتهم‭ ‬انطلقوا‭ ‬ليصبحوا‭ ‬من‭ ‬أعظم‭ ‬المخرجين‭ ‬بتاريخ‭ ‬السينما،‭ ‬ولكن‭ ‬عندما‭ ‬نرجع‭ ‬ونعاين‭ ‬تأثيره‭ ‬على‭ ‬السينما‭ ‬العالمية،‭ ‬فنرى‭ ‬ان‭ ‬تأثيره‭ ‬لم‭ ‬يكتفي‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬السينما‭ ‬الإيطالية،‭ ‬وانما‭ ‬على‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الحركات‭ ‬والموجات‭ ‬السينمائية‭ ‬حول‭ ‬العالم،‭ ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬من‭ ‬أهمها‭ ‬هي‭ ‬الموجة‭ ‬الفرنسية‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬بنهاية‭ ‬الخمسينيات‭ ‬وبالتحديد‭ ‬بسبب‭ ‬تحفته‭ ‬Journey‭ ‬to‭ ‬Italy‭  (‬رحلة‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا‭).‬

تدور‭ ‬أحداث‭ ‬الفيلم‭ ‬عن‭ ‬رحلة‭ ‬الزوجين‭ ‬الإنجليزيين‭ ‬أليكس‭ ‬وكاثرين‭ ‬جويس‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا‭ ‬وذلك‭ ‬لغرض‭ ‬بيع‭ ‬الفيلا‭ ‬التي‭ ‬ورثوها‭ ‬من‭ ‬عم‭ ‬أليكس‭ ‬المتوفي‭. ‬يأخذنا‭ ‬الفيلم‭ ‬إلى‭ ‬أجواء‭ ‬إيطاليا‭ ‬الساحرة‭ ‬والخلابة،‭ ‬وتكون‭ ‬الرحلة‭ ‬بحد‭ ‬ذاتها‭ ‬كالمحفز‭ ‬الوجودي‭ ‬التي‭ ‬ستجعل‭ ‬الزوجين‭ ‬يعاينان‭ ‬علاقة‭ ‬زواجهم‭ ‬المتصدعة‭ ‬والتي‭ ‬تمر‭ ‬بفترة‭ ‬عصيبة‭ ‬وفتور،‭ ‬الفيلم‭ ‬من‭ ‬بطولة‭ ‬الممثلة‭ ‬السويدية‭ ‬الرائعة‭ (‬انغريد‭ ‬بيرغمان‭) ‬والممثل‭  ‬الانجليزي‭ ‬المميز‭ (‬جورج‭ ‬ساندرس‭)‬،‭ ‬أبدعت‭ ‬بيرغمان‭ ‬بتقديم‭ ‬أداء‭ ‬عميق‭ ‬مشحون‭ ‬بالمشاعر‭ ‬والتعقيدات‭ ‬الداخلية‭ ‬التي‭ ‬تعيشها‭ ‬شخصية‭ ‬كاثرين‭ ‬بواقعية‭ ‬ومصداقية،‭ ‬فالكثير‭ ‬من‭ ‬المشاعر‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعيشها‭ ‬الشخصية‭ ‬قدمتها‭ ‬بيرغمان‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تعابير‭ ‬العيون‭ ‬والوجه‭ ‬الدقيقة،‭ ‬كذلك‭ ‬الحال‭ ‬مع‭ ‬جورج‭ ‬ساندرس‭ ‬بتجسيده‭ ‬لشخصية‭ ‬برجوازية‭ ‬متضاربة‭ ‬العواطف،‭ ‬ساندرس‭ ‬أفعم‭ ‬شخصية‭ ‬أليكس‭ ‬برقي‭ ‬وكاريزما‭ ‬تتناغم‭ ‬مع‭ ‬وضعها‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬أظهر‭ ‬تلك‭ ‬الصراعات‭ ‬الداخلية‭ ‬التي‭ ‬تعيشها‭ ‬الشخصية‭ ‬بمهارة‭ ‬ودون‭ ‬مبالغة‭.‬

جمال‭ ‬وروعة‭ ‬العمل‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬كيفية‭ ‬تجسيد‭ ‬روسيليني‭ ‬للمكان‭ ‬وأهميته‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الأحداث،‭ ‬فإيطاليا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مجرد‭ ‬مساحة‭ ‬خلفية‭ ‬للشخصيات،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬دائما‭ ‬العنصر‭ ‬الأمامي‭ ‬للأحداث،‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬التجسيد‭ ‬والتركيز‭ ‬يغذي‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭ ‬ودقيق‭ ‬الصراعات‭ ‬الوجودية‭ ‬والتحديات‭ ‬الزوجية‭ ‬ومرحلة‭ ‬اكتشاف‭ ‬الذات‭ ‬والصحوة‭ ‬التي‭ ‬تخوضها‭ ‬الشخصيات،‭ ‬ان‭ ‬عامل‭ ‬المكان‭ ‬والتاريخ‭ ‬بالعمل‭ ‬يوضحان‭ ‬كذلك‭ ‬التباين‭ ‬الذي‭ ‬تعيشه‭ ‬الشخصيات‭ ‬في‭ ‬حياتها،‭ ‬فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬عندما‭ ‬ننظر‭ ‬إلى‭ ‬علاقتهم‭ ‬الزوجية،‭ ‬نرى‭ ‬إنها‭ ‬علاقة‭ ‬تحكمها‭ ‬المصلحة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬بل‭ ‬وتبدو‭ ‬تفاعلاتهم‭ ‬مع‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض‭ ‬كنوع‭ ‬من‭ ‬التمثيلية‭ ‬التي‭ ‬يتخللها‭ ‬الجمود،‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬الحب‭ ‬بينهما‭ ‬موجودا‭ ‬إلا‭ ‬ان‭ ‬الأقنعة‭ ‬التي‭ ‬يتمسكون‭ ‬بها‭ ‬ويختبؤون‭ ‬خلفها‭ ‬تقمع‭ ‬أية‭ ‬مشاعر‭ ‬عاطفية‭ ‬بينهما،‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬مرتبط‭ ‬ارتباطاً‭ ‬وثيقاً‭ ‬ببيئة‭ ‬المكان‭ ‬التي‭ ‬أتو‭ ‬منها،‭ ‬بينما‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬تمثل‭ ‬إيطاليا‭ ‬المكان‭ ‬والبيئة‭ ‬‮«‬الجديدة‮»‬،‭ ‬فرحلتهم‭ ‬واستكشافهم‭ ‬لعدة‭ ‬أماكن‭ ‬كالاحتفاليات‭ ‬في‭ ‬نابولي،‭ ‬وساحل‭ ‬أمالفي،‭ ‬وكابري‭ ‬وبومبي‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬كالمدخل‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬جديد‭ ‬وطريقة‭ ‬عيش‭ ‬مختلفة،‭ ‬فتبدأ‭ ‬العلاقة‭ ‬بالتغير‭ ‬شيئاً‭ ‬فشيئاً،‭ ‬وتسقط‭ ‬الأقنعة‭ ‬والاعتبارات‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالمكان‭ ‬القديم،‭ ‬وتزاح‭ ‬واجهة‭ ‬محيطهم‭ ‬التمثيلية،‭ ‬فتنشأ‭ ‬المواجهات‭ ‬والاعترافات‭ ‬وتتطور‭ ‬المشاعر‭ ‬بينهما‭ ‬وتظهر‭ ‬الحميمية‭ ‬على‭ ‬السطح‭ ‬حتى‭ ‬انفجارها‭ ‬بنهاية‭ ‬العمل‭ ‬أثناء‭ ‬الموكب‭ ‬الديني‭ ‬في‭ ‬نابولي‭ ‬والذي‭ ‬يأخذ‭ ‬طابع‭ ‬المعجزة،‭ ‬وكأنه‭ ‬يماشي‭ ‬المهرجان‭ ‬المرتبط‭ ‬بمعجزة‭ ‬القديس‭ ‬جينارو‭ ‬والذي‭ ‬قد‭ ‬يرمز‭ ‬إلى‭ ‬التجديد‭ ‬والبعث،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬كما‭ ‬ذكرت،‭ ‬تبرز‭ ‬براعة‭ ‬روسيليني‭ ‬بإظهار‭ ‬قوة‭ ‬المكان‭ ‬وتأثيره‭ ‬على‭ ‬الفرد،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أسلوب‭ ‬واقعي‭ ‬ومتزن‭ ‬بتجسيد‭ ‬المكان‭ ‬والعواطف‭ ‬التي‭ ‬تختبرها‭ ‬الشخصيات،‭ ‬وكونه‭ ‬إيطالياً‭ ‬مما‭ ‬زاد‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬أصالة‭ ‬وصدق‭ ‬إبراز‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المعالم‭ ‬وجوانبها‭ ‬الدقيقة،‭ ‬ورصد‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬تصرفاتهم‭ ‬واحتفالاتهم‭ ‬بدون‭ ‬تشويه‭ ‬أو‭ ‬كاريكاتورية‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬شائع‭ ‬في‭ ‬الأفلام‭ ‬الهوليوودية‭.‬

كذلك‭ ‬أحد‭ ‬الأمور‭ ‬المثيرة‭ ‬بتركيبة‭ ‬العمل‭ ‬هي‭ ‬التمازج‭ ‬بين‭ ‬الصنف‭ ‬الدرامي‭ ‬والرومانسي‭ ‬مع‭ ‬الواقعية‭ ‬الإيطالية،‭ ‬وتأثير‭ ‬الواقعية‭ (‬استخدام‭ ‬ممثلين‭ ‬غير‭ ‬محترفين،‭ ‬تصوير‭ ‬المشاهد‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬حقيقية‭ ‬والتركيز‭ ‬على‭ ‬الجوانب‭ ‬الحياتية‭ ‬اليومية‭) ‬على‭ ‬أيقونات‭ ‬الصنف‭ ‬الدرامي‭ ‬والرومانسي،‭ ‬وبالتالي‭ ‬إعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬هويتهم‭ ‬والتوقعات‭ ‬الآتية‭ ‬منهم‭ ‬وتحويل‭ ‬الفيلم‭ ‬إلى‭ ‬فيلم‭ ‬فني‭ ‬مبتكر‭ ‬وملهم،‭ ‬يقوم‭ ‬روسيليني‭ ‬أيضا‭ ‬بإضافة‭ ‬أبعاد‭ ‬أخرى‭ ‬تثري‭ ‬سياق‭ ‬العمل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إدخال‭ ‬العنصر‭ ‬التاريخي‭ ‬والديني،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬بومبي‭ ‬الذي‭ ‬يصور‭ ‬أليكس‭ ‬وكاثرين‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬التأمل‭ ‬الذاتي‭ ‬وهما‭ ‬يستكشفان‭ ‬أطلال‭ ‬مدينة‭ ‬بومبي‭ ‬القديمة‭ ‬وسط‭ ‬الرماد‭ ‬والأموات‭ ‬المدفونين‭ ‬تحت‭ ‬الأنقاض‭.‬

في‭ ‬الختام‭ ‬كما‭ ‬يوحي‭ ‬عنوانه،‭ ‬إن‭ ‬الفيلم‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬رحلة‭ ‬روحانية‭ ‬وعاطفية‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬يؤثر‭ ‬بعمق‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الزوجين‭ ‬ويدفعهما‭ ‬إلى‭ ‬استكشاف‭ ‬أغوار‭ ‬أفكارهم،‭ ‬والتأمل‭ ‬في‭ ‬مشاعرهم‭ ‬وأرواحهم،‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬المعنى‭ ‬والهدف‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬إنها‭ ‬رحلة‭ ‬تحول‭ ‬تمكنهما‭ ‬من‭ ‬إعادة‭ ‬اكتشاف‭ ‬نفسيهما‭ ‬وإشعال‭ ‬الحب‭ ‬الذي‭ ‬يجمع‭ ‬بينهما‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا