العدد : ١٧٠٨٢ - الأحد ٢٩ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٨ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨٢ - الأحد ٢٩ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٨ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

عن معجزات الخروج من فخ الوسط

بقلم: د. محمود محيي الدين

الأربعاء ١٤ أغسطس ٢٠٢٤ - 02:00

أن‭ ‬يكون‭ ‬المرءُ‭ ‬منتميا‭ ‬إلى‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى،‭ ‬وعاملا‭ ‬في‭ ‬مشروع‭ ‬متوسط‭ ‬أو‭ ‬مالكا‭ ‬له،‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬الدول‭ ‬متوسطة‭ ‬الدخل،‭ ‬فتوقعات‭ ‬وقوعه‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬فخاخ‭ ‬الوسط‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تجاهلها،‭ ‬واحتمالات‭ ‬خروجه‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬الأحوال‭ ‬الراهنة،‭ ‬تستدعي‭ ‬معجزات‭.‬

ونبدأ‭ ‬بحال‭ ‬الدول‭ ‬متوسطة‭ ‬الدخل،‭ ‬التي‭ ‬حصرها‭ ‬تقرير‭ ‬التنمية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الصادر‭ ‬مؤخرا‭ ‬عن‭ ‬البنك‭ ‬الدولي‭ ‬في‭ ‬108‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬التي‭ ‬يتراوح‭ ‬متوسط‭ ‬الدخول‭ ‬فيها‭ ‬بين‭ ‬1136‭ ‬دولارا‭ ‬و13845‭ ‬دولارا‭ ‬سنويا‭. ‬وهي‭ ‬تشكل‭ ‬مجتمعة‭ ‬40‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬تقريبا‭ ‬من‭ ‬اقتصاد‭ ‬العالم‭ ‬وتضم‭ ‬75‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬سكانه،‭ ‬ويعيش‭ ‬فيها‭ ‬63‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬ممن‭ ‬يعانون‭ ‬الفقر‭ ‬المدقع‭. ‬وقد‭ ‬قامت‭ ‬بعض‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬السابق‭ ‬بنقلات‭ ‬نوعية‭ ‬في‭ ‬نموها‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬رفعتها‭ ‬من‭ ‬تصنيف‭ ‬الدول‭ ‬الأفقر‭ ‬والأقل‭ ‬دخلا‭ ‬إلى‭ ‬مصاف‭ ‬الدول‭ ‬متوسطة‭ ‬الدخل‭.‬

ولننظر‭ ‬مثلا‭ ‬إلى‭ ‬الصين‭ ‬التي‭ ‬انتشلت،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سياسات‭ ‬الاستثمار‭ ‬والنمو‭ ‬المطرد،‭ ‬مئات‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬أبنائها‭ ‬من‭ ‬هوة‭ ‬الفقر‭ ‬حتى‭ ‬احتفت‭ ‬بالقضاء‭ ‬التام‭ ‬على‭ ‬الفقر‭ ‬المدقع‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2020‭. ‬ويرجع‭ ‬الفضل‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬النهج‭ ‬البراغماتي‭ ‬الذي‭ ‬تبناه‭ ‬دينج‭ ‬شياو‭ ‬بينج،‭ ‬أكبر‭ ‬المصلحين‭ ‬الاقتصاديين‭ ‬إنجازا‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬ففي‭ ‬حين‭ ‬انساق‭ ‬البعض‭ ‬في‭ ‬ربوع‭ ‬متفرقة‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الجنوب‭ ‬بطنطنة‭ ‬حول‭ ‬‮«‬الفقر‭ ‬ليس‭ ‬عيبا‮»‬‭ ‬مبررين‭ ‬بها‭ ‬أسباب‭ ‬التخلف‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬وبمبادرات‭ ‬متهافتة‭ ‬لا‭ ‬تزيد‭ ‬الفقير‭ ‬إلا‭ ‬فقرا،‭ ‬وتشيع‭ ‬ثقافة‭ ‬معادية‭ ‬للكد‭ ‬والاجتهاد‭ ‬والمنافسة‭ ‬سعيا‭ ‬للربح‭ ‬واكتساب‭ ‬الثروة،‭ ‬انطلق‭ ‬بينج‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1978‭ ‬مبشرا‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬كانت‭ ‬تسوده‭ ‬أفكار‭ ‬مناهضة‭ ‬للتوجه‭ ‬الجديد‭ ‬لعقود‭ ‬طويلة،‭ ‬مؤكدا‭ ‬‮«‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬ثريا‭ ‬فهذا‭ ‬أمر‭ ‬رائع‮»‬‭. ‬وتبنت‭ ‬دولته‭ ‬التحديثات‭ ‬الأربع‭ ‬في‭ ‬الصناعة‭ ‬والزراعة‭ ‬والعلوم‭ ‬والجيش‭. ‬وتم‭ ‬دفع‭ ‬الاستثمار‭ ‬في‭ ‬البشر‭ ‬وتعلمهم‭ ‬ومهاراتهم‭ ‬وصحتهم،‭ ‬وفي‭ ‬البنية‭ ‬الأساسية‭ ‬والتطوير‭ ‬العمراني،‭ ‬مع‭ ‬جذب‭ ‬الاستثمارات‭ ‬الأجنبية‭ ‬فتحققت‭ ‬معجزة‭ ‬اقتصادية‭ ‬قوامها‭ ‬العمل‭ ‬الشاق‭ ‬والسياسات‭ ‬المدروسة‭ ‬والمؤسسات‭ ‬الدؤوبة‭.‬

ويشير‭ ‬كبير‭ ‬الاقتصاديين‭ ‬بالبنك‭ ‬الدولي،‭ ‬أندرميت‭ ‬جيل،‭ ‬في‭ ‬تقديمه‭ ‬للتقرير‭ ‬المعنون‭ ‬‮«‬فخ‭ ‬الدول‭ ‬متوسطة‭ ‬الدخل‮»‬،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الفخ‭ ‬أصبح‭ ‬أكثر‭ ‬وعورة‭ ‬من‭ ‬الذي‭ ‬سلكته‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬تحقق‭ ‬لها‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الفخ‭ ‬في‭ ‬السابق‭. ‬وذلك‭ ‬لاعتبارات‭ ‬ديموغرافية،‭ ‬وزيادة‭ ‬الديون‭ ‬وتفاقم‭ ‬التحديات‭ ‬الجيوسياسية‭ ‬والقيود‭ ‬التجارية،‭ ‬وعدم‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬زيادة‭ ‬النمو‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إهدار‭ ‬المقومات‭ ‬البيئية‭ ‬والمناخية‭.‬

يجعل‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬اتباع‭ ‬نمط‭ ‬النمو‭ ‬السابق‭ ‬مضيعا‭ ‬لفرص‭ ‬التنمية‭ ‬في‭ ‬المستقبل،‭ ‬فوفقا‭ ‬لهذا‭ ‬النمط‭ ‬مع‭ ‬انخفاض‭ ‬متوسطات‭ ‬النمو‭ ‬ستحتاج‭ ‬الصين‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬10‭ ‬سنوات‭ ‬حتى‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬ربع‭ ‬متوسط‭ ‬الدخل‭ ‬الأمريكي،‭ ‬بينما‭ ‬ستحتاج‭ ‬الهند‭ ‬إلى‭ ‬75‭ ‬عاما‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الهدف‭. ‬فما‭ ‬استحق‭ ‬في‭ ‬السابق‭ ‬وصف‭ ‬‮«‬المعجزة‮»‬،‭ ‬بمعنى‭ ‬قريب‭ ‬لما‭ ‬يردده‭ ‬الأشقاء‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬‮«‬بالخارق‭ ‬للعادة‮»‬‭ ‬عن‭ ‬أعمال‭ ‬تستحق‭ ‬الدهشة‭ ‬والإعجاب،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬صالحا‭ ‬وحده‭ ‬الآن‭ ‬لنقل‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬إلى‭ ‬المرتبة‭ ‬الأعلى‭ ‬بين‭ ‬مرتفعي‭ ‬الدخل‭.‬

والدول‭ ‬لا‭ ‬تعوزها‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الخطط‭ ‬الطموحة،‭ ‬فلنتذكر‭ ‬ما‭ ‬ردده‭ ‬الملاكم‭ ‬مايك‭ ‬تايسون‭ ‬‮«‬كل‭ ‬لديه‭ ‬خطة‭ ‬حتى‭ ‬تأتيه‭ ‬لكمة‭ ‬في‭ ‬وجهه‮»‬‭. ‬ولكمات‭ ‬العصر‭ ‬ومربكاته‭ ‬كثر‭ ‬بما‭ ‬يستوجب‭ ‬نهجا‭ ‬مختلفا‭. ‬والأجدى،‭ ‬وفقا‭ ‬للتقرير،‭ ‬أن‭ ‬تتبنى‭ ‬الدول‭ ‬متوسطة‭ ‬الدخل‭ ‬نهجا‭ ‬ثلاثيا‭ ‬للاستثمار؛‭ ‬الأول‭ ‬بزيادة‭ ‬الاستثمارات‭ ‬عموما،‭ ‬والثاني‭ ‬بضخ‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الجديدة‭ ‬بتوطينها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الاستثمار،‭ ‬والثالث‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تشجيع‭ ‬الاستثمار‭ ‬في‭ ‬التطوير‭ ‬والابتكار‭. ‬ويحبذ‭ ‬التقرير‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬الدول‭ ‬المنتمية‭ ‬للشرائح‭ ‬الدنيا‭ ‬في‭ ‬الدخل‭ ‬المتوسط‭ ‬بدفع‭ ‬عمليات‭ ‬ضخ‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬محليا‭ ‬مع‭ ‬زيادات‭ ‬الاستثمار،‭ ‬بينما‭ ‬يتوقع‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬الشرائح‭ ‬الأعلى‭ ‬إضافة‭ ‬بعدي‭ ‬التطوير‭ ‬والابتكار‭. ‬ويقترح‭ ‬سياسات‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المشروعات‭ ‬بترسيخ‭ ‬قواعد‭ ‬المنافسة‭ ‬العادلة؛‭ ‬وكذلك‭ ‬تطوير‭ ‬المهارات‭ ‬وسياسات‭ ‬سوق‭ ‬العمل‭ ‬والهجرة‭ ‬وإثابة‭ ‬الجدارة‭ ‬والتميز‭. ‬كما‭ ‬يولي‭ ‬اهتماما‭ ‬مستحقا‭ ‬للتعامل‭ ‬مع‭ ‬قيود‭ ‬الموارد،‭ ‬وخصوصا‭ ‬الطاقة،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الاستثمار‭ ‬في‭ ‬كفاءة‭ ‬توليد‭ ‬وتوزيع‭ ‬الطاقة‭ ‬وإعادة‭ ‬هيكلة‭ ‬قطاعات‭ ‬إنتاجها‭.‬

ولتفعيل‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬الثلاثي‭ ‬للاستثمار‭ ‬يعيد‭ ‬التقرير‭ ‬إحياء‭ ‬منهج‭ ‬الاقتصادي‭ ‬جوزيف‭ ‬شومبيتر‭ ‬عن‭ ‬‮«‬التدمير‭ ‬الخلاق‮»‬‭ ‬بما‭ ‬أورده‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الرأسمالية‭ ‬والاشتراكية‭ ‬والديمقراطية‮»‬‭. ‬ويستلزم‭ ‬هذا‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬يستحق‭ ‬التدمير‭ ‬من‭ ‬مشروعات‭ ‬سيئة،‭ ‬وأضيف‭ ‬إليها‭ ‬‮«‬الأفكار‮»‬‭ ‬أيضا،‭ ‬وما‭ ‬يستحق‭ ‬الإبقاء‭ ‬عليه،‭ ‬وما‭ ‬يستلزم‭ ‬السعي‭ ‬لإيجاده‭ ‬من‭ ‬عدم‭. ‬فالتدمير‭ ‬الخلاق‭ ‬اقتصادياً‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬بإهلاك‭ ‬ما‭ ‬يستحق‭ ‬البقاء‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يستأهل‭ ‬التطوير،‭ ‬فلسنا‭ ‬بصدد‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬على‭ ‬شاكلة‭ ‬إعلانات‭ ‬السبعينيات‭ ‬والثمانينيات‭ ‬التلفزيونية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تنادي‭ ‬‮«‬انسف‭... ‬تخلص‭ ‬من‭ ‬حمامك‭ ‬القديم‭!‬‮»‬‭. ‬ويستلزم‭ ‬هذا‭ ‬تفاعلا‭ ‬عمليا‭ ‬لتحقيق‭ ‬التقدم‭ ‬الاقتصادي‭ ‬وتدافعا‭ ‬ومنافسة‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬قائم‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬قادم‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬مشروعات‭ ‬وأصحاب‭ ‬مهارات‭ ‬ومصادر‭ ‬للطاقة‭ ‬والموارد‭. ‬وفي‭ ‬القلب‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬القضية‭ ‬المحورية‭ ‬للمنافسة‭ ‬العادلة‭ ‬واستواء‭ ‬الملعب‭ ‬لكل‭ ‬اللاعبين،‭ ‬والتحرر‭ ‬من‭ ‬الجمود‭ ‬في‭ ‬شأن‭ ‬ملكية‭ ‬المشروعات‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا