زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عن تنشيط العقل
لأنني أجيد اللغات النوبية والعربية والإنجليزية بدرجة معقولة، فإنني أحسب نفسي، ومن واقع خبرتي كمعلم لغة انجليزية، قادرا على إقناع أي طالب يشكو من صعوبات تواجهه في تعلُّم لغة ما، أنه يستطيع التغلب على تلك الصعوبات لو فعل أمورا معينة ومن بينها تذكير نفسه أنه وطالما هناك ملايين يتخاطبون بتلك اللغة، فلا شك في ان الإلمام بها ميسور.
على كل حال، فالدماغ مثل الجسم يحتاج إلى الرياضة كي يبقى نشيطاً وممتلئاً حيوية، وقد اعترفت مرارا بأنني صرت أعاني من خلل في الذاكرة لدرجة أنني صرت أنادي زوجتي «يا حبيبتي»، لمداراة حقيقة أنني أنسى اسمها أحياناً. وسأحدثكم اليوم عن السيدة البريطانية التي ملأتني حماساً لممارسة الرياضة الذهنية. اسمها جوديث ماقيل، وهي فوق الستين وتدرُس اللغة اليونانية، واختارتها لأنك - مثلاً- إذا أردت أن تقول «الكلب الكبير» باليونانية، عليك أن تعرف أن هناك 15 طريقة لاستخدام «ال» التعريف، و11 طريقة لتقول «كبير» و3 طرق مختلفة لتقول «كلب». يعني اختارت دراسة اليونانية لأنها صعبة ودراسة قواعد النحو الخاصة بها «تشكل انتهاكاً لحقوق الإنسان»، وأعجب كيف سمحوا لليونان بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي على حد تعبير جوديث. المهم أنها جعلت من دراسة تلك اللغة مدخلاً للبحث عن مختلف الوسائل لتنشيط عقلها، واكتشفت أنه كلما أجهدت مخها وفكرت ودرست، كسبت ذاكرتها سعة إضافية. ومنذ أن قرأت عن تجربتها وأنا أحاول مجاراتها -ليس بدراسة لغة جديدة، بل بمحاولة فهم أفكار ونظريات كنت من قبل لا أتوقف عندها بحثاً عن «راحة البال». الغريب في الأمر أن الصحف العربية (باستثناء بعض التي تصدر من مصر) تهمل أمر الكلمات المتقاطعة وغيرها من المسابقات الذهنية، وحتى في حال نشرها تجدها «طفولية» تستطيع حلها من دون الحاجة إلى استخدام قلم.
ويسعدني أن بعض القراء يحسبونني راجح العقل ويستشيرونني في بعض الأمور، وقد تلقيت قبل أشهر رسالة من فتاة قالت إنها كانت ترغب في التخصص في لغة أجنبية، ولكنها فوجئت بأن الخيار الوحيد المتاح أمامها هو اللغة الصينية (الماندرين).. قلت لها: على بركة الله فأنت محظوظة لأن الصين ستكون القوة العظمى في العالم في المستقبل القريب، وأن من يعرف لغتها سـ«يتدلل» في اختيار الوظائف. كتبت لي مرة أخرى: يقولون إنها أصعب لغة في العالم وعدد حروفها يتجاوز الـ1500!! قلت لها: طالما أن مئات الملايين من الأطفال في الصين يتكلمون اللغة الصينية منذ عمر السنتين فما الذي يمنعك من تعلمها؟
وبالمناسبة فقد صدرت مؤخراً دراسة عن جامعة تورنتو في كندا، أثبتت على نحو قاطع أن من يتكلمون لغتين أكثر سرعة في «الاستجابة» كلاماً وأفعالاً من أولئك الذين يتكلمون لغة واحدة، وأنهم أيضاً يحتفظون باليقظة الذهنية حتى سن متأخرة! يا للسعادة، فأنا أتكلم لغتين أجنبيتين: الإنجليزية، و..... العربية التي تعلمتها بعد عنت ومشقة بعد أن تجاوزت العاشرة، لأنني ولدت نوبياً أعجميا. وصرت في السنوات الأخيرة لا أقرأ إلا الكتب «الصعبة» التي تتناول نظريات وفلسفات لا سبيل لتبسيطها، وصرت كلما أحسست بالخمول والكسل أمارس لعبة السودوكو، التي تتألف من مربع كبير به تسعة مربعات صغيرة وعليك أن تملأ كل مربع بالأرقام من 1 إلى 9 من دون أن يتكرر أي رقم داخل المربع الواحد أو في الخط المستقيم الأفقي أو الرأسي في المربع الكبير، وقد خلصتني السودوكو من العقدة المزمنة من الأرقام التي عانيت منها بسبب بؤس تحصيلي وحصيلتي في مادة الرياضياتً، ولو مارست تلك اللعبة على الوجه الصحيح، فستجد نفسك شديد التركيز.. تنظر يمينا وشمالا وفوق وتحت، وبعد الدقائق الأولى التي توزع فيها الأرقام السهلة تصبح أكثر تركيزا ثم تصبح مفاتيح الحل كلها سهلة المنال، بدرجة أنك ستصيح «وجدتها» مثل ارخميدس الذي كان في بركة سباحة وانتبه إلى قانون الطفو. بس إياك أن تعمل «عملة» ارخميدس الذي خرج من الحمام عاريا وهو يصيح: يوريكا.. وجدتها.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك