العدد : ١٦٩٩٠ - السبت ٢٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٩٠ - السبت ٢٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

صفحات من أوراق جدي الصفراء.. بين التنظيم والعشوائية

بقلم: د. زكريا الخنجي

الأحد ١٣ أغسطس ٢٠٢٣ - 02:00

يروي‭ ‬جدي‭ ‬في‭ ‬أوراقه‭ ‬الصفراء‭ ‬هذه‭ ‬الحكاية‭.. ‬فيقول‭: ‬

إنه‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬حقل‭ ‬جميل‭ ‬فيه‭ ‬وفرة‭ ‬من‭ ‬الغذاء،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬فصل‭ ‬الربيع‭ ‬والصيف‭ ‬والخريف،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الوفرة‭ ‬تختفي‭ ‬أو‭ ‬تكاد‭ ‬تختفي‭ ‬في‭ ‬فصل‭ ‬الشتاء،‭ ‬لذلك‭ ‬كانت‭ ‬أسراب‭ ‬النمل‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬مساكنها‭ ‬خلال‭ ‬فصول‭ ‬السنة‭ ‬ذات‭ ‬الوفرة‭ ‬الغذائية‭ ‬لتجمع‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تجمعه‭ ‬من‭ ‬الغذاء‭ ‬وتخزنه‭ ‬لفصل‭ ‬الشتاء‭.‬

كانت‭ ‬أسراب‭ ‬النمل‭ ‬تخرج‭ ‬قبيل‭ ‬إشراقة‭ ‬أضواء‭ ‬الشمس،‭ ‬وتعمل‭ ‬بكل‭ ‬جهد‭ ‬واجتهاد،‭ ‬ومن‭ ‬غير‭ ‬ملل‭ ‬وكلل،‭ ‬وكانت‭ ‬تلتقط‭ ‬الحبوب‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬وهناك،‭ ‬وتصعد‭ ‬جذوع‭ ‬الأشجار‭ ‬وتقطع‭ ‬من‭ ‬أوراقها،‭ ‬وتنقل‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تلتقطه‭ ‬في‭ ‬الحقل‭ ‬إلى‭ ‬مساكنها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬تقطيعه‭ ‬بأحجام‭ ‬مناسبة‭ ‬لتخزنه‭ ‬في‭ ‬غرف‭ ‬خاصة‭. ‬

وتستمر‭ ‬رحلتها‭ ‬طوال‭ ‬النهار،‭ ‬وفي‭ ‬المساء‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬مسكنها‭ ‬لتستريح،‭ ‬وتستعيد‭ ‬طاقاتها،‭ ‬حتى‭ ‬تعاود‭ ‬عملها‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الثاني‭.‬

لاحظ‭ ‬ذلك‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬صراصير‭ ‬الحقل‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعيش‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬مسكن‭ ‬النمل،‭ ‬فكان‭ ‬يشاهد‭ ‬تلك‭ ‬الأسراب‭ ‬من‭ ‬النمل‭ ‬وهي‭ ‬تعمل‭ ‬بكل‭ ‬جهد‭ ‬واجتهاد‭ ‬طوال‭ ‬النهار،‭ ‬ولا‭ ‬تأكل‭ ‬إلا‭ ‬القليل‭ ‬من‭ ‬الطعام‭ ‬أو‭ ‬مما‭ ‬تجمع‭ ‬خلال‭ ‬فترات‭ ‬العمل،‭ ‬لكنها‭ ‬تعمل‭ ‬باجتهاد‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬عليها‭ ‬رقيب‭. ‬وقف‭ ‬الصرصور‭ ‬يراقب‭ ‬فترة‭ ‬طويلة‭ ‬وفي‭ ‬الأخير‭ ‬قرر‭ ‬أن‭ ‬يوقف‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬النملات‭ ‬ويحاورها‭ ‬ويسألها‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الجهد‭ ‬والتعب‭.‬

وبالفعل‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬صباح،‭ ‬وقف‭ ‬الصرصور‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬سرب‭ ‬النمل‭ ‬الذاهب‭ ‬إلى‭ ‬الحقل،‭ ‬واعترض‭ ‬السرب‭ ‬وقال‭ ‬لهم‭: ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬تخرج‭ ‬واحدة‭ ‬منكم‭ ‬وتقول‭ ‬لي‭ ‬ما‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬تفعلون؟‭ ‬ولماذا‭ ‬تفعلون‭ ‬ذلك؟

فخرجت‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬النمل‭ ‬وقالت‭: ‬نحن‭ ‬مجتمع‭ ‬النمل،‭ ‬نعمل‭ ‬هكذا‭ ‬بنظام‭ ‬وانتظام،‭ ‬وبرامج‭ ‬عمل‭ ‬يومية‭ ‬حتى‭ ‬عندما‭ ‬يأتي‭ ‬الشتاء‭ ‬نستقر‭ ‬في‭ ‬مساكننا‭ ‬ونرتاح‭ ‬ونأكل‭ ‬مما‭ ‬تم‭ ‬تجميعه‭ ‬طوال‭ ‬شهور‭ ‬السنة‭.‬

لم‭ ‬يقتنع‭ ‬الصرصور‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الكلام،‭ ‬فقال‭ ‬للنملة‭: ‬إني‭ ‬لا‭ ‬أفهم‭ ‬هذا‭ ‬الكلام،‭ ‬ولكن‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أشاهد‭ ‬بنفسي‭ ‬حقيقة‭ ‬ما‭ ‬تقولين‭.‬

ففكرت‭ ‬النملة‭ ‬قليلاً،‭ ‬ثم‭ ‬قالت‭: ‬تعال‭ ‬معي‭.‬

فذهب‭ ‬الصرصور‭ ‬مع‭ ‬النمل‭ ‬حتى‭ ‬بلغا‭ ‬قرية‭ ‬النمل،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬تطأ‭ ‬أرجل‭ ‬الصرصور‭ ‬أرض‭ ‬القرية،‭ ‬قالت‭ ‬النملة‭: ‬انتظر‭ ‬هنا‭ ‬حتى‭ ‬أعود‭ ‬إليك‭.‬

غادرت‭ ‬النملة‭ ‬وذهبت‭ ‬إلى‭ ‬ملكة‭ ‬النمل‭ ‬وشرحت‭ ‬لها‭ ‬كل‭ ‬تفاصيل‭ ‬الموضوع،‭ ‬وطلبت‭ ‬منها‭ ‬أن‭ ‬تسمح‭ ‬للصرصور‭ ‬بدخول‭ ‬مساكن‭ ‬النمل‭ ‬حتى‭ ‬يشاهد‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يرغب‭ ‬بأم‭ ‬عينيه،‭ ‬فوافقت‭ ‬ملكة‭ ‬النمل‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬ثم‭ ‬قامت‭ ‬وسلمت‭ ‬النملة‭ ‬شرابا‭ ‬لذيذا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تصغير‭ ‬حجم‭ ‬الصرصور‭ ‬حتى‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬مسكن‭ ‬النمل،‭ ‬لأن‭ ‬حجم‭ ‬الصرصور‭ ‬كبير‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬المسكن‭.‬

فدخل‭ ‬الصرصور‭ ‬مع‭ ‬النملة،‭ ‬فقالت‭ ‬النملة‭: ‬يتراوح‭ ‬عدد‭ ‬الأفراد‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬النمل‭ ‬بين‭ ‬30‭ ‬و80‭ ‬ألف‭ ‬نسمة،‭ ‬وربما‭ ‬يزيدون‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان،‭ ‬حيث‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نبلغ‭ ‬حوالي‭ ‬100‭ ‬ألف‭ ‬نسمة‭.‬

الصرصور‭: ‬يا‭ ‬إلهي،‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬العدد‭ ‬كبير‭.‬

النملة‭: ‬بالطبع،‭ ‬لذلك‭ ‬تصبح‭ ‬عملية‭ ‬النظام‭ ‬واختيار‭ ‬السكن‭ ‬ونظافته‭ ‬والاهتمام‭ ‬به‭ ‬قضية‭ ‬من‭ ‬الأولويات‭ ‬الضرورية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬غنى‭ ‬عنها،‭ ‬هذا‭ ‬طبعًا‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬توفير‭ ‬الغذاء‭ ‬والاهتمام‭ ‬بالصغار‭.‬

الصرصور‭: ‬إنها‭ ‬أعمال‭ ‬كثيرة‭.‬

النملة‭: ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬ينعم‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع‭ ‬بالأمن‭ ‬والاستقرار‭.‬

التفت‭ ‬الصرصور‭ ‬إلى‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬النمل‭ ‬يقومون‭ ‬برص‭ ‬بعض‭ ‬المواد‭ ‬الطينية‭ ‬فوق‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭ ‬فيكونون‭ ‬الغرف‭ ‬والحجرات،‭ ‬فقال‭ ‬الصرصور‭: ‬رائع،‭ ‬حقيقة‭ ‬عمل‭ ‬جميل‭ ‬ومذهل‭. ‬ثم‭ ‬التفت‭ ‬الصرصور‭ ‬إلى‭ ‬الجهة‭ ‬الأخرى‭ ‬فوجد‭ ‬عددا‭ ‬من‭ ‬النمل‭ ‬يقومون‭ ‬بجمع‭ ‬المخلفات‭ ‬المتساقطة‭ ‬من‭ ‬عمليات‭ ‬البناء‭. ‬

فقالت‭ ‬النملة‭: ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬من‭ ‬الشغالات‭ ‬مسؤوليتهن‭ ‬ترك‭ ‬المسكن‭ ‬نظيفاً‭ ‬دائمًا،‭ ‬فعملهن‭ ‬رفع‭ ‬البقايا‭ ‬والمخلفات‭ ‬الأخرى‭ ‬أيًا‭ ‬كانت‭.‬

وسار‭ ‬الصرصور‭ ‬مع‭ ‬النملة،‭ ‬وشاهد‭ ‬من‭ ‬تحته‭ ‬ومن‭ ‬فوقه‭ ‬أسرابا‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬النمل،‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬من‭ ‬المسكن‭ ‬يقوم‭ ‬بعمله‭ ‬بصورة‭ ‬منضبطة‭ ‬وبطريقة‭ ‬سلسة‭ ‬ومن‭ ‬غير‭ ‬أي‭ ‬مشاكل،‭ ‬فلا‭ ‬يتزاحمون‭ ‬على‭ ‬مكان‭ ‬ولا‭ ‬يأخذ‭ ‬أحد‭ ‬دور‭ ‬أحد،‭ ‬وإنما‭ ‬كل‭ ‬يعمل‭ ‬بحسب‭ ‬أنظمة‭ ‬ثابتة‭ ‬وكأنها‭ ‬راسخة‭ ‬من‭ ‬عشرات‭ ‬القرون،‭ ‬استغرب‭ ‬الصرصور‭ ‬من‭ ‬طريقة‭ ‬العمل‭ ‬تلك،‭ ‬والتفت‭ ‬إلى‭ ‬النملة‭ ‬وقال‭ ‬لها‭: ‬إنكم‭ ‬مجتمع‭ ‬مذهل،‭ ‬فكيف‭ ‬تستطيعون‭ ‬القيام‭ ‬بكل‭ ‬هذا‭ ‬التنظيم‭ ‬وهذا‭ ‬الانضباط؟

ابتسمت‭ ‬النملة‭ ‬وقالت‭: ‬يمكنك‭ ‬أن‭ ‬تسأل‭ ‬الملكة‭ ‬عن‭ ‬ذلك،‭ ‬فهي‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تجيب‭.‬

فطلب‭ ‬الصرصور‭ ‬زيارة‭ ‬ملكة‭ ‬النمل،‭ ‬فذهبا،‭ ‬وعندما‭ ‬جلس‭ ‬الصرصور‭ ‬مع‭ ‬الملكة‭ ‬وطرح‭ ‬السؤال‭ ‬ذاته‭ ‬فقالت‭ ‬الملكة‭: ‬حسنا،‭ ‬إن‭ ‬ذلك‭ ‬يتم‭ ‬بفضل‭ ‬عوامل‭ ‬كثيرة‭ ‬أهمها،‭ ‬وجود‭ ‬مسارات‭ ‬واضحة‭ ‬ومحددة‭ ‬لتدفق‭ ‬المعلومات‭ ‬التي‭ ‬تتم‭ ‬بطريقة‭ ‬تلقائية‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أوامر‭ ‬نظمها‭ ‬تبارك‭ ‬وتعالى،‭ ‬فتقوم‭ ‬أفراد‭ ‬من‭ ‬الشغالات‭ ‬بتوفير‭ ‬معلومات‭ ‬عن‭ ‬البيئة‭ ‬المحيطة،‭ ‬مثل‭ ‬نوعية‭ ‬الغذاء‭ ‬وما‭ ‬شابه‭ ‬ذلك،‭ ‬فتنقلها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬شفرة‭ ‬خاصة،‭ ‬فمن‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الشفرات‭ ‬تنتقل‭ ‬المعلومات‭ ‬إلى‭ ‬بقية‭ ‬أفراد‭ ‬المسكن‭ ‬الذين‭ ‬يقومون‭ ‬بدورهم‭ ‬بتفسير‭ ‬هذه‭ ‬الشفرات‭ ‬إلى‭ ‬عمل،‭ ‬عندئذ‭ ‬يقوم‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬بالدور‭ ‬المنوط‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬كلل‭ ‬ولا‭ ‬ملل‭ ‬ولا‭ ‬تذمر‭.‬

تواصل‭ ‬الملكة‭ ‬وتقول‭: ‬نحن‭ ‬نجمع‭ ‬الغذاء‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الوفرة،‭ ‬ونخزنه‭ ‬بطريقة‭ ‬منهجية،‭ ‬وعندما‭ ‬يأتي‭ ‬الشتاء‭ ‬فإننا‭ ‬لا‭ ‬نعمل‭ ‬وإنما‭ ‬نستريح‭ ‬ونتغذى‭ ‬من‭ ‬المخزون‭ ‬الموجود‭ ‬لدينا‭ ‬والذي‭ ‬تم‭ ‬جمعه‭ ‬طوال‭ ‬السنة،‭ ‬وأيضًا‭ ‬استهلاك‭ ‬الغذاء‭ ‬يكون‭ ‬بطريقة‭ ‬منهجية‭ ‬مخططة‭ ‬ولا‭ ‬عشوائية‭ ‬فيها،‭ ‬ولا‭ ‬يأكل‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬نصيب‭ ‬أحد‭.‬

خرج‭ ‬الصرصور‭ ‬من‭ ‬مسكن‭ ‬النمل‭ ‬وقال‭ ‬في‭ ‬نفسه‭: ‬إنه‭ ‬شيء‭ ‬خارق‭ ‬للعادة،‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬منظم‭ ‬ومخطط‭ ‬له‭ ‬ومرتب،‭ ‬والكل‭ ‬يعمل‭ ‬بنظام‭ ‬وترتيب،‭ ‬فلا‭ ‬تصادمات‭ ‬ولا‭ ‬عشوائية،‭ ‬المسكن‭ ‬كله‭ ‬منظم،‭ ‬وخاصة‭ ‬عندما‭ ‬أقارن‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬وهذا‭ ‬الترتيب‭ ‬والتخطيط‭ ‬مع‭ ‬مجتمع‭ ‬الصراصير،‭ ‬الذين‭ ‬يعيشون‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬تخطيط‭ ‬ولا‭ ‬نظام‭ ‬ولا‭ ‬ترتيب،‭ ‬وفي‭ ‬الحقيقة‭ ‬فإنه‭ ‬أصلاً‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬مجتمع‭.‬

يقول‭ ‬جدي‭ ‬معقبًا‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الحكاية‭: ‬إن‭ ‬المجتمعات‭ ‬‭ ‬أو‭ ‬المؤسسات‭ ‬‭ ‬لا‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تبلغ‭ ‬الرقي‭ ‬والتطور‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التنظيم‭ ‬والتخطيط،‭ ‬أما‭ ‬العشوائيات‭ ‬فإنها‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تبني‭ ‬حضارة‭.‬

وربما‭ ‬يكون‭ ‬كلام‭ ‬جدي‭ ‬صحيحًا،‭ ‬فالمجتمعات‭ ‬العشوائية‭ ‬تنتشر‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬بقاع‭ ‬العالم‭ ‬وفي‭ ‬المدن‭ ‬وعدد‭ ‬من‭ ‬الدول،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬المناطق‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتوافر‭ ‬فيها‭ ‬الضروريات‭ ‬الأساسية‭ ‬للحياة،‭ ‬وتعج‭ ‬بالازدحام‭ ‬المروري‭ ‬والكثافة‭ ‬السكانية‭ ‬غير‭ ‬المدروسة،‭ ‬وظروف‭ ‬العيش‭ ‬غير‭ ‬الصحية،‭ ‬وخاصة‭ ‬عندما‭ ‬تتداخل‭ ‬مناطق‭ ‬ورش‭ ‬العمل‭ ‬بالسكن‭ ‬والحياة،‭ ‬وعندما‭ ‬تفتح‭ ‬ورش‭ ‬العمل‭ ‬الخاصة‭ ‬بتصليح‭ ‬السيارات‭ ‬التي‭ ‬تستخدم‭ ‬بعض‭ ‬المواد‭ ‬الكيميائية‭ ‬لتصليح‭ ‬وتنظيف‭ ‬السيارات‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬المساكن‭ ‬والمطاعم،‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬تُعد‭ ‬بحسب‭ ‬الأنظمة‭ ‬العالمية‭ ‬مدنا‭ ‬عشوائية‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬التخطيط‭ ‬لها‭ ‬لذلك‭ ‬فهي‭ ‬ليست‭ ‬مدنا‭ ‬صحية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬قد‭ ‬تغدو‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬ما‭ ‬غير‭ ‬مؤهلة‭ ‬للحياة‭.‬

أما‭ ‬المؤسسات‭ ‬العشوائية،‭ ‬فحدث‭ ‬ولا‭ ‬حرج‭. ‬فقد‭ ‬وجدنا‭ ‬أن‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬المؤسسات‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬أبجديات‭ ‬التنظيم‭ ‬الداخلي‭ ‬للعمل،‭ ‬فتجد‭ ‬إدارات‭ ‬بأكملها‭ ‬تعمل‭ ‬بعشوائية‭ ‬فجة‭ ‬تنعكس‭ ‬سلبًا‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬أنشطة‭ ‬تلك‭ ‬المؤسسة‭.‬

قال‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬صديق،‭ ‬وهو‭ ‬خبير‭ ‬ومستشار‭ ‬إداري‭ ‬في‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬الدول‭: ‬‮«‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظري‭ ‬البداية‭ ‬دائمًا‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬الإدارة‭ ‬العليا،‭ ‬فعشوائية‭ ‬الفكر‭ ‬يتبعها‭ ‬عشوائية‭ ‬القرارات،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬عشوائية‭ ‬الاختيار،‭ ‬ثم‭ ‬عشوائية‭ ‬التنظيم،‭ ‬والتي‭ ‬يتم‭ ‬ترجمتها‭ ‬بعشوائية‭ ‬في‭ ‬الإدارة‮»‬‭. ‬ثم‭ ‬يواصل‭ ‬ويقول‭: ‬‮«‬إن‭ ‬العشوائية‭ ‬مرض‭ ‬معدٍ‭ ‬وأضراره‭ ‬شديدة‭ ‬وتزيد‭ ‬يومًا‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬العمل‭ ‬مستمرا‭ ‬والإنتاج‭ ‬موجودا‮»‬‭.‬

لقد‭ ‬وجدنا‭ ‬أن‭ ‬العشوائية‭ ‬والابتعاد‭ ‬عن‭ ‬التخطيط‭ ‬المنهجي‭ ‬يقودان‭ ‬بصورة‭ ‬تلقائية‭ ‬إلى‭ ‬تخطيط‭ ‬سيئ‭ ‬ناتج‭ ‬من‭ ‬تفكير‭ ‬غير‭ ‬منظم،‭ ‬وطالما‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬تخطيط‭ ‬سيئ‭ ‬فلا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬تجد‭ ‬قرارات‭ ‬متخبطة،‭ ‬وغير‭ ‬مدروسة،‭ ‬وكثير‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المؤسسات‭ ‬تعمل‭ ‬بنظام‭ ‬الفرد،‭ ‬فهو‭ ‬الذي‭ ‬يفكر،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬يتخذ‭ ‬القرارات‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬حجمها،‭ ‬ووجدنا‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬المحيطين‭ ‬بمتخذ‭ ‬تلك‭ ‬القرارات‭ ‬يصفق‭ ‬ويطبل‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬جودة‭ ‬تلك‭ ‬القرارات،‭ ‬ونجد‭ ‬كذلك‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬المؤسسات‭ ‬لا‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬وتيرة‭ ‬واحدة،‭ ‬ولا‭ ‬تخدم‭ ‬هدفا‭ ‬واحدا،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإنها‭ ‬تعمل‭ ‬وفق‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬العمليات‭ ‬تنتهي‭ ‬بمخرجات‭ ‬ذات‭ ‬جودة‭ ‬سيئة‭ ‬أو‭ ‬بجودة‭ ‬قليلة‭ ‬على‭ ‬أحسن‭ ‬تقدير‭. ‬وقد‭ ‬يقول‭ ‬قائل‭ ‬إننا‭ ‬نجد‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬النتائج‭ ‬التي‭ ‬تصدر‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬المؤسسات،‭ ‬فكيف‭ ‬ذلك؟

هذا‭ ‬صحيح،‭ ‬فإن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬حتمًا‭ ‬تعطي‭ ‬نتائج،‭ ‬ولكن‭ ‬إن‭ ‬تلك‭ ‬النتائج‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬أولية‭ ‬ولن‭ ‬تستمر‭ ‬طويلاً،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬درجات‭ ‬سلم‭ ‬يهبط‭ ‬للأسفل‭ ‬فستجد‭ ‬النتائج‭ ‬تقل‭ ‬والكفاءات‭ ‬تهرب،‭ ‬وذلك‭ ‬بسبب‭ ‬أن‭ ‬الأمور‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬المؤسسات‭ ‬ستتحول‭ ‬من‭ ‬السعي‭ ‬لإتمام‭ ‬الأهداف‭ ‬إلى‭ ‬السعي‭ ‬للتنصل‭ ‬من‭ ‬الأخطاء‭ ‬والأهداف،‭ ‬فهذا‭ ‬يرمي‭ ‬التهمة‭ ‬على‭ ‬هذا،‭ ‬وهذا‭ ‬يلقي‭ ‬باللوم‭ ‬على‭ ‬الآخرين،‭ ‬والنتيجة‭ ‬معروفة‭ ‬بيئة‭ ‬عمل‭ ‬سيئة،‭ ‬مؤسسة‭ ‬عشوائية‭.‬

ومن‭ ‬خلال‭ ‬حواراتنا‭ ‬في‭ ‬المؤتمرات‭ ‬والدورات‭ ‬مع‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬وجدنا‭ ‬أن‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬المؤسسات‭ ‬العربية‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬التنظيم‭ ‬والتخطيط‭ ‬البعيد‭ ‬المدى،‭ ‬فجل‭ ‬تلك‭ ‬المؤسسات‭ ‬تفكر‭ ‬في‭ ‬الإنجاز‭ ‬والربح‭ ‬السريع،‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عما‭ ‬سيحدث‭ ‬في‭ ‬الغد‭ ‬القريب‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬البعيد،‭ ‬فعدد‭ ‬من‭ ‬المؤسسات‭ ‬العربية‭ ‬يتحدثون‭ ‬عن‭ ‬التنمية‭ ‬المستدامة‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬المؤسسي،‭ ‬إلا‭ ‬أنهم‭ ‬للأسف‭ ‬لا‭ ‬يحققون‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع،‭ ‬لذلك‭ ‬فإنهم‭ ‬يستمرون‭ ‬بعض‭ ‬الوقت‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬الزمن،‭ ‬ولكن‭ ‬حتمًا‭ ‬سيأتي‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬فيه‭ ‬سيتوقفون‭.‬

فهل‭ ‬نحن‭ ‬نسير‭ ‬وفق‭ ‬مجتمع‭ ‬النمل‭ ‬أم‭ ‬وفق‭ ‬حياة‭ ‬الصراصير؟‭ ‬

Zkhunji@hotmail‭.‬com

 

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا