العدد : ١٧٠٨١ - السبت ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٧ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨١ - السبت ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٧ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

النسخة العصرية من استعمار «العقول»

بقلم: منصور الجنادي

الاثنين ٠٢ سبتمبر ٢٠٢٤ - 02:00

منذ‭ ‬حركة‭ ‬التنوير‭ ‬بالقرن‭ ‬السابع‭ ‬عشر،‭ ‬سيطر‭ ‬الإنسان‭ ‬الغربي‭ -‬بالعلم‭ ‬المادي‭ ‬الملموس‭- ‬على‭ ‬الطبيعة،‭ ‬ما‭ ‬أفاد‭ ‬البشرية‭ ‬كثيرًا،‭ ‬ولكن‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬الآن‭ ‬على‭ ‬شفا‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة،‭ ‬يرتد‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬اللا‭ ‬ملموس‮»‬؟‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬السيارة‭ ‬والطعام،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬مما‭ ‬يمكن‭ ‬‮«‬لمسه‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬الذهن‭ ‬البشرى‭ ‬‮«‬اللا‭ ‬ملموس‮»‬،‭ ‬كمُنتج‭ ‬ومُستهلك‭ ‬وسلعة‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭. ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬الذهن‭ ‬البشرى‭ ‬صار‭ ‬ورقة‭ ‬رابحة‭ ‬منذ‭ ‬ثورة‭ ‬تشومسكى‭ ‬الذهنية‭ ‬بمنتصف‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬والتي‭ ‬كشفت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬أسرار‭ ‬المخ‭ ‬البشرى،‭ ‬لدرجة‭ ‬اختراع‭ ‬‮«‬المخ‮»‬‭ (‬الذكاء‭) ‬الاصطناعي‭. ‬عرف‭ ‬الغرب‭ ‬الآن‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬كسب‭ ‬اهتمام‭ ‬الإنسان،‭ ‬وتوجيه‭ ‬رغباته،‭ ‬وتوظيفها‭ ‬لتحقيق‭ ‬مصالحه،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬احتلال‭ ‬لأرض،‭ ‬أو‭ ‬اعتداء‭ ‬على‭ ‬أوطان‭. ‬بمعنى‭ ‬ما،‭ ‬عالم‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬عالم‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الاستعمار‭ ‬وما‭ ‬بعد‭ ‬التصنيع‭ ‬أيضًا‭.‬

الشعوب‭ ‬مُستعمرة‭ ‬اليوم‭ ‬عن‭ ‬بُعد،‭ ‬بواسطة‭ ‬الموبايل،‭ ‬الذي‭ ‬نُدخل‭ ‬فيه‭ ‬جميعًا،‭ ‬طوعًا،‭ ‬معلوماتنا،‭ ‬لتتجمع‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬الـ«بج‭ ‬داتا‮»‬‭ (‬المعلومات‭ ‬الضخمة‭)‬،‭ ‬ذهب،‭ ‬وبترول،‭ ‬وثروة‭ ‬عصرنا‭ ‬الحالي‭. ‬تلك‭ ‬الثروة‭ ‬المتركزة‭ ‬حاليًا‭ ‬في‭ ‬أيدي‭ ‬شركات‭ ‬الخدمات‭ ‬‮«‬اللا‭ ‬ملموسة‮»‬،‭ ‬مثل‭ ‬جوجل‭ ‬وأمازون‭. ‬قطاع‭ ‬الخدمات‭ ‬يشكل‭ ‬اليوم‭ ‬77%‭ ‬من‭ ‬الناتج‭ ‬المحلي‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تسهم‭ ‬الصناعة‭ ‬بـ18%،‭ ‬والزراعة‭ ‬بـ1%‭ ‬فقط‭.‬

كان‭ ‬الذهن‭ ‬البشرى‭ ‬سابقًا‭ ‬مَحَلِّي‭ ‬الفكر‭ ‬والقيم‭ ‬والأخلاق‭. ‬لكل‭ ‬شعب‭ ‬أفكاره‭ ‬وقيمه،‭ ‬وفق‭ ‬ظروفه‭ ‬البيئية‭ ‬والتاريخية‭. ‬وكان‭ ‬حاكم‭ ‬كل‭ ‬شعب‭ ‬حريصًا‭ ‬على‭ ‬صون‭ ‬القيم‭ ‬المحلية،‭ ‬كوسيلة‭ ‬لتجانس‭ ‬المجتمع،‭ ‬وسهولة‭ ‬حُكمه،‭ ‬فرأينا‭ ‬الحاكم‭ ‬الإله‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬القديمة،‭ ‬وملكة‭ ‬بريطانيا‭ ‬رئيسة‭ ‬للكنيسة‭. ‬أما‭ ‬اليوم،‭ ‬حيث‭ ‬صار‭ ‬العالم‭ ‬قرية‭ ‬واحدة،‭ ‬فمَن‭ ‬الحاكم،‭ ‬وبأي‭ ‬قِيَمٍ‭ ‬سيحكم؟‭ ‬السلاح‭ ‬والثروة‭ ‬وحدهما‭ ‬غير‭ ‬كافيين‭. ‬لابد‭ ‬من‭ ‬‮«‬اللا‭ ‬ملموس‮»‬‭. ‬الأسطورة‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬سيجتمع‭ ‬عليها‭ ‬البشر‭. ‬لا‭ ‬لفكر‭ ‬المؤامرة‭. ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬غالبًا‭ ‬من‭ ‬يجلس‭ ‬على‭ ‬كرسي‭ ‬مريح‭ ‬ويرسم‭ ‬الخطط‭ ‬لتغيير‭ ‬العالم‭. ‬العالم‭ ‬معقد،‭ ‬متشابك،‭ ‬والمصالح‭ ‬متضاربة‭ ‬متصارعة‭. ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يرى‭ ‬المستقبل‭. ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الجميع‭ ‬يقفون‭ ‬مكتوفي‭ ‬الأيدي‭ ‬وينتظرون‭ ‬المفاجآت‭.‬

هناك‭ ‬‮«‬الجي‭ ‬7‮»‬‭ ‬و«الجي‭ ‬20‮»‬،‭ ‬ومؤتمر‭ ‬دافوس،‭ ‬وكثير‭ ‬من‭ ‬المنظمات،‭ ‬و«لوبى‮»‬‭ ‬أصحاب‭ ‬الثروات،‭ ‬والشركات‭ ‬العابرة‭ ‬للقارات‭. ‬نعم‭ ‬العالم‭ ‬أكثر‭ ‬تعقيدًا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلك،‭ ‬وهناك‭ ‬قوى‭ ‬كثيرة‭ ‬متصارعة،‭ ‬طبيعية‭ ‬وبشرية،‭ ‬سيَنتج‭ ‬عن‭ ‬صراعاتها‭ ‬مستقبل‭ ‬يصعب‭ ‬التنبؤ‭ ‬به‭. ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬الإنسان‭ ‬تجاهل‭ ‬ظواهر‭ ‬واضحة‭ ‬جلية،‭ ‬تنتشر‭ ‬بسرعة‭ ‬وزخم‭ ‬مدهش‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬كله،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتساءل‭: ‬مَن،‭ ‬ولماذا؟‭ ‬ظاهرة‭ ‬‮«‬المثلية‮»‬‭ (‬LGBT‭....) ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭.‬

أفلام‭ ‬نتفليكس‭ ‬وصلت‭ ‬العالم‭ ‬بأكمله،‭ ‬وكثير‭ ‬منا‭ ‬يعرف‭ ‬اتجاهات‭ ‬أفلامها‭. ‬ألوان‭ ‬الطيف،‭ ‬رمز‭ ‬الحركة،‭ ‬تقع‭ ‬أعيننا‭ ‬عليها‭ ‬ليل‭ ‬نهار‭. ‬أعلام‭ ‬‮«‬المثليين‮»‬‭ ‬تعلو‭ ‬المباني‭ ‬الحكومية،‭ ‬ومداخل‭ ‬مدارس‭ ‬الأطفال‭. ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬تحتفل‭ ‬بالمثلية،‭ ‬والقوانين‭ ‬تُسَن‭ ‬لحمايتها‭. ‬والنتائج‭ ‬مبهرة‭: ‬فقط‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬1988‭ ‬و1998‭ ‬انخفضت‭ ‬نسبة‭ ‬المعارضين‭ ‬لأفكار‭ ‬المثليين‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الامريكية‭ ‬من‭ ‬75%‭ ‬إلى‭ ‬55%‭. ‬أما‭ ‬اليوم‭ ‬فصار‭ ‬الاعتراف‭ ‬بأفكار‭ ‬المثليين‭ ‬علامة‭ ‬على‭ ‬التحضر‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬وأصبح‭ ‬نقدها‭ ‬من‭ ‬المحرمات‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وربما‭ ‬قريبًا،‭ ‬القانونية‭.‬

في‭ ‬عام‭ ‬2003‭ ‬صدر‭ ‬كتاب‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬أجندة‭ ‬المثلية‭ ‬الجنسية‭: ‬فَضْح‭ ‬التهديد‭ ‬الرئيسي‭ ‬للحرية‭ ‬الدينية‮»‬،‭ ‬يرى‭ ‬مؤلفاه،‭ ‬آلان‭ ‬سيرز،‭ ‬وكريج‭ ‬أوستن،‭ ‬أن‭ ‬حركة‭ ‬المثليين‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬التفوق‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الجماعات‭ ‬والحركات‭ ‬الأخرى،‭ ‬خاصة‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدينية‭. ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬يذكر،‭ ‬مصري‭ ‬الأصل،‭ ‬د‭. ‬نبيل‭ ‬سليمان،‭ ‬أستاذ‭ ‬الأعصاب‭ ‬والطب‭ ‬النفسي‭ ‬بجامعة‭ ‬سان‭ ‬فرنسيسكو،‭ ‬أن‭ ‬أجندة‭ ‬المثليين‭ ‬لا‭ ‬تذكر‭ ‬كلمة‭ ‬واحدة‭ ‬عن‭ ‬البوذية،‭ ‬أو‭ ‬الكنفوشيوسية‭ ‬مثلاً،‭ ‬وإنما‭ ‬تُركز‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬الديانات‭ ‬التوحيدية‭ (‬اليهودية‭ ‬والمسيحية‭ ‬والإسلام‭)‬،‭ ‬وبذلك‭ ‬تتماهى‭ ‬مع‭ ‬الحركة‭ ‬الإبراهيمية‭.‬

حركة‭ ‬المثليين‭ ‬اليوم‭ ‬صارت‭ ‬حركة‭ ‬هوية،‭ ‬ودين،‭ ‬واقتصاد،‭ ‬وسياسة‭. ‬حتى‭ ‬دولة‭ ‬مثل‭ ‬جورجيا‭ ‬تموج‭ ‬الآن‭ ‬بالمظاهرات،‭ ‬احتجاجًا‭ ‬على‭ ‬عزم‭ ‬البرلمان‭ ‬إصدار‭ ‬قوانين‭ ‬لمنع‭ ‬المثلية،‭ ‬ما‭ ‬أصبح‭ ‬رمزًا‭ ‬للاتجاه‭ ‬السياسي‭ ‬والثقافي‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬روسيا‭ ‬والصين،‭ ‬وليس‭ ‬غربًا‭ ‬كما‭ ‬يفضل‭ ‬المتظاهرون‭.‬

يقول‭ ‬البعض‭: ‬لماذا‭ ‬القلق؟‭ ‬أليست‭ ‬المثلية‭ ‬قديمة‭ ‬قدم‭ ‬التاريخ،‭ ‬وكذلك‭ ‬النظم‭ ‬والقيم‭ ‬والأيديولوجيات‭ ‬التي‭ ‬قضى‭ ‬كلٌّ‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬سبقه‭ ‬من‭ ‬قناعات‭ ‬كانت‭ ‬يومًا‭ ‬مؤكدة؟‭ ‬أليس‭ ‬تاريخ‭ ‬البشر‭ ‬هو‭ ‬تاريخ‭ ‬استعمار‭ ‬العقول؟

ربما‭. ‬ولكن‭ ‬الجديد‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬شمول‭ ‬المكان‭ ‬وتسارع‭ ‬الزمان‭. ‬حركة‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬المثليين‮»‬‭ ‬هدفها‭ ‬ليس‭ ‬أمريكا،‭ ‬وإنما‭ ‬العالم‭ ‬بأسره‭. ‬وتحقيق‭ ‬نتائجها‭ ‬يسير‭ ‬بسرعة‭ ‬البرق،‭ ‬بفضل‭ ‬ظهيريها‭: ‬رأس‭ ‬المال،‭ ‬وتكنولوجيا‭ ‬صناعة‭ ‬الأذهان‭. ‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا