العدد : ١٧٠٨٠ - الجمعة ٢٧ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٦ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨٠ - الجمعة ٢٧ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٦ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

التواضع الفكري أساس تطور التفكير العقلاني في المجتمع

بقلم: نبيلة رجب

الخميس ٢٦ سبتمبر ٢٠٢٤ - 02:00

قد‭ ‬نشعر‭ ‬بأن‭ ‬الإيمان‭ ‬المطلق‭ ‬بصحة‭ ‬أفكارنا‭ ‬يضفي‭ ‬علينا‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬الطمأنينة‭ ‬العقلية،‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬الإيمان‭ ‬قد‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬فخ‭ ‬يمنعنا‭ ‬من‭ ‬رؤية‭ ‬الحقيقة‭ ‬بوضوح‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ (‬التمسك‭ ‬بالصوابية‭) ‬هي‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬التشبث‭ ‬المفرط‭ ‬بالرأي‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬تعيق‭ ‬الفرد‭ ‬عن‭ ‬تقبل‭ ‬النقد‭ ‬أو‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬احتمالية‭ ‬خطئه‭. ‬

في‭ ‬البداية،‭ ‬هذا‭ ‬الإصرار‭ ‬قد‭ ‬يوفر‭ ‬شعورًا‭ ‬بالراحة‭ ‬والثقة،‭ ‬لأنه‭ ‬يمنحنا‭ ‬وهما‭ ‬بأننا‭ ‬نعرف‭ ‬كل‭ ‬شيء‭. ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الوقت،‭ ‬تتحول‭ ‬هذه‭ ‬الثقة‭ ‬إلى‭ ‬عائق‭ ‬أمام‭ ‬تطورنا‭. ‬عندما‭ ‬نعتقد‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬نعرفه‭ ‬هو‭ ‬الحقيقة‭ ‬الوحيدة،‭ ‬نغلق‭ ‬الباب‭ ‬أمام‭ ‬تساؤلات‭ ‬قد‭ ‬تكشف‭ ‬لنا‭ ‬جوانب‭ ‬جديدة‭. ‬وكما‭ ‬قال‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭: ‬‮«‬الحقيقة‭ ‬لا‭ ‬تضاد‭ ‬الحقيقة،‭ ‬بل‭ ‬توافقها‭ ‬وتشهد‭ ‬لها‮»‬‭. ‬فالحقيقة‭ ‬ليست‭ ‬حكرًا‭ ‬على‭ ‬رأي‭ ‬واحد،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬نتاج‭ ‬تفاعل‭ ‬وتبادل‭ ‬للآراء‭ ‬المختلفة‭.‬

في‭ ‬حياتنا‭ ‬اليومية،‭ ‬نجد‭ ‬أمثلة‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬لها‭ ‬على‭ ‬تأثير‭ ‬الصوابية‭. ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬ينغلق‭ ‬الأفراد‭ ‬على‭ ‬وجهات‭ ‬نظرهم‭ ‬ويشكلون‭ ‬فقاعات‭ ‬فكرية‭ ‬تعزز‭ ‬اعتقادهم‭ ‬بأنهم‭ ‬على‭ ‬صواب‭ ‬دائم‭. ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬انقسامات‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬حول‭ ‬قضايا‭ ‬سياسية‭ ‬واجتماعية‭. ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬النقاشات‭ ‬أو‭ ‬اللغط‭ ‬حول‭ ‬قضايا‭ ‬معينة‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬خلافات‭ ‬عميقة،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬التمسك‭ ‬بالصوابية‭ ‬في‭ ‬النقاش‭ ‬يحول‭ ‬الحوار‭ ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬معركة‭ ‬بحيث‭ ‬يسعى‭ ‬كل‭ ‬طرف‭ ‬إلى‭ ‬إثبات‭ ‬أنه‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬يملك‭ ‬المعلومات‭ ‬الصحيحة‭ ‬والدقيقة‭.‬

من‭ ‬الناحية‭ ‬النفسية،‭ ‬الصوابية‭ ‬ليست‭ ‬إلا‭ ‬درعا‭ ‬نحتمي‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬احتمالية‭ ‬الاعتراف‭ ‬بأننا‭ ‬قد‭ ‬نكون‭ ‬مخطئين‭. ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬يحمي‭ ‬الأنا،‭ ‬ويجعل‭ ‬الفرد‭ ‬يشعر‭ ‬بالسيطرة‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬حوله‭. ‬لكن‭ ‬الاعتراف‭ ‬بالخطأ‭ ‬قد‭ ‬يبدو‭ ‬صعبا،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬السبيل‭ ‬الوحيد‭ ‬نحو‭ ‬النمو‭ ‬والتعلم‭. ‬كلما‭ ‬تشبثنا‭ ‬بمعتقداتنا‭ ‬دون‭ ‬التحقق‭ ‬منها‭ ‬ومنحها‭ ‬فرصة‭ ‬للخطأ،‭ ‬زادت‭ ‬احتمالية‭ ‬أن‭ ‬نبقى‭ ‬عالقين‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬مغلقة،‭ ‬نعيد‭ ‬فيها‭ ‬تكرار‭ ‬الأفكار‭ ‬نفسها‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬تقدم‭.‬

في‭ ‬بيئة‭ ‬العمل،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬الصوابية‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬أحد‭ ‬أكبر‭ ‬العوائق‭ ‬أمام‭ ‬التقدم‭ ‬والإبداع‭. ‬فرق‭ ‬العمل‭ ‬الناجحة‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬النقاش‭ ‬المفتوح‭ ‬والمرونة‭ ‬في‭ ‬الأفكار‭. ‬حين‭ ‬يعتقد‭ ‬الأفراد‭ ‬أنهم‭ ‬يمتلكون‭ ‬الصواب‭ ‬المطلق،‭ ‬يعيقون‭ ‬تقدم‭ ‬الفريق،‭ ‬ويصبح‭ ‬التعاون‭ ‬شبه‭ ‬مستحيل‭. ‬تخيل‭ ‬كيف‭ ‬سيكون‭ ‬حال‭ ‬فريق‭ ‬عمل‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يستمع‭ ‬أو‭ ‬يقبل‭ ‬بتغيير‭ ‬رأيه‭. ‬هنا‭ ‬تصبح‭ ‬الصوابية‭ ‬أكبر‭ ‬أعداء‭ ‬العمل‭ ‬الجماعي‭ ‬المنتج‭.‬

الأخطر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬تأثير‭ ‬الصوابية‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الاجتماعي‭. ‬وقتما‭ ‬تؤمن‭ ‬مجموعة‭ ‬ما‭ ‬بأنها‭ ‬وحدها‭ ‬المحقة،‭ ‬يتشكل‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التعصب‭ ‬الذي‭ ‬يقود‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬إلى‭ ‬التطرف‭. ‬الصوابية‭ ‬تزرع‭ ‬بذور‭ ‬الانقسام،‭ ‬حيث‭ ‬تنمو‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬مغلقة‭ ‬لا‭ ‬تسمح‭ ‬بالنقاش‭ ‬المفتوح‭. ‬مثال‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬التمسك‭ ‬الشديد‭ ‬بأيديولوجية‭ ‬معينة‭ ‬إلى‭ ‬نشوء‭ ‬حركات‭ ‬متطرفة‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬فرض‭ ‬أفكارها‭ ‬بالقوة،‭ ‬مثل‭ ‬الجماعات‭ ‬التي‭ ‬تلجأ‭ ‬إلى‭ ‬العنف‭ ‬ضد‭ ‬من‭ ‬يخالفها‭ ‬الرأي‭ ‬مما‭ ‬يهدد‭ ‬التماسك‭ ‬والسلم‭ ‬المجتمعي‭.‬

من‭ ‬المفيد‭ ‬أن‭ ‬نسعى‭ ‬دائما‭ ‬لتطوير‭ ‬قدرتنا‭ ‬على‭ ‬الإصغاء،‭ ‬سواء‭ ‬للآخرين‭ ‬أو‭ ‬لأنفسنا‭. ‬الإصغاء‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الأصوات‭ ‬الداخلية‭ ‬التي‭ ‬تدفعنا‭ ‬أحيانا‭ ‬إلى‭ ‬التفكير‭ ‬مجددًا‭ ‬في‭ ‬قناعاتنا،‭ ‬خاصة‭ ‬عندما‭ ‬نشعر‭ ‬بالثقة‭ ‬الزائدة‭ ‬فيها‭. ‬العلاقات‭ ‬الإنسانية‭ ‬تزدهر‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬التواضع‭ ‬الفكري،‭ ‬حيث‭ ‬يصبح‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬بناء‭ ‬علاقة‭ ‬صحية‭ ‬عندما‭ ‬يسيطر‭ ‬رأي‭ ‬واحد‭ ‬على‭ ‬الحوار‭. ‬كلما‭ ‬انفتحنا‭ ‬على‭ ‬آراء‭ ‬الآخرين،‭ ‬أصبحت‭ ‬علاقاتنا‭ ‬أكثر‭ ‬قوة‭ ‬وتماسكا‭.‬

التخلص‭ ‬من‭ ‬فخ‭ ‬الصوابية،‭ ‬يتطلب‭ ‬شجاعة‭ ‬الاعتراف‭ ‬بأننا‭ ‬قد‭ ‬نكون‭ ‬على‭ ‬خطأ،‭ ‬وأن‭ ‬أفكارنا‭ ‬ليست‭ ‬حصونا‭ ‬منيعة‭. ‬كلما‭ ‬زادت‭ ‬قدرتنا‭ ‬على‭ ‬قبول‭ ‬النقد،‭ ‬اقتربنا‭ ‬من‭ ‬الحقيقة‭. ‬فالحقيقة‭ ‬ليست‭ ‬محطة‭ ‬نصل‭ ‬إليها،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬عملية‭ ‬مستمرة‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬والتعلم،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬الوصول‭ ‬إليها‭ ‬إلا‭ ‬بالانفتاح‭ ‬والشك‭ ‬البناء‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يفتح‭ ‬الباب‭ ‬لتطور‭ ‬التفكير‭ ‬العقلاني‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬ويمكِّنها‭ ‬من‭ ‬التقدم‭ ‬إلى‭ ‬الامام‭ ‬باستمرار‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬الدوران‭ ‬في‭ ‬دوائر‭ ‬مفرغة‭ ‬من‭ ‬الجدال‭ ‬العقيم‭ ‬والجمود‭ ‬الفكري‭.‬

في‭ ‬النهاية،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نفهم‭ ‬أن‭ ‬التمسك‭ ‬بالصوابية‭ ‬ليست‭ ‬قوة،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬ضعف‭ ‬يغلق‭ ‬عقولنا‭ ‬ويمنعنا‭ ‬من‭ ‬النمو‭. ‬في‭ ‬زمن‭ ‬تشتد‭ ‬فيه‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬التفكير‭ ‬النقدي‭ ‬والإبداعي،‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬أكثر‭ ‬استعدادًا‭ ‬للشك‭ ‬في‭ ‬رؤانا،‭ ‬لأن‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشك‭ ‬تكمن‭ ‬الحقيقة‭. ‬وكما‭ ‬قال‭ ‬جون‭ ‬ستيوارت‭ ‬ميل‭: ‬‮«‬إذا‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬البشر‭ ‬ما‭ ‬عدا‭ ‬شخص‭ ‬واحد‭ ‬يتفقون‭ ‬على‭ ‬شيء،‭ ‬فإن‭ ‬الحق‭ ‬ليس‭ ‬بالضرورة‭ ‬معهم‮»‬‭.‬

الحقيقة‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬نصنعه‭ ‬من‭ ‬حوارنا‭ ‬المستمر،‭ ‬وما‭ ‬نكتسبه‭ ‬من‭ ‬تواضعنا‭ ‬الفكري‭.‬

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا