ها نحن قد عبرنا إلى عام آخر، ربما سوف نحتاج إلى بضعة أيام إضافية حتى نتخلص من ذكرى التأريخ كل يوم عند الكتابة نسبة إلى عام سبق 2024، وربما لن يمر وقت حتى يطويه النسيان.
العام خذلنا في أمور كثيرة كنا نظن أن ما كانت حروبا غائرة سوف تتوقف أو تصل إلى نهاية، على العكس ثبت أن العنف لديه قدرات عالية للاستمرار في طحن نفوس البشر، لا انتهت حرب أوكرانيا ولا انتهت حرب غزة ولا توقف القتال عن التوسع على جبهات جديدة. في حرب أوكرانيا ذهبت كييف إلى كورسك لكي تحتل أرضًا روسية تكفي للمقايضة، وأتى الروس بجنود من كوريا الشمالية لكي يصححوا توازن الوفيات الروسية.
في غزة فيما يشبه التمدد نتيجة السخونة الفائقة، وصل القتال إلى منتهاه في غزة فلم تعد هناك أرض باقية تحتلها إسرائيل؛ ولكن القتل لم يتوقف، وبلغ عدد الشهداء من الفلسطينيين 45 ألفا، 70% منهم من النساء والأطفال.
توسعت دائرة القتل فشملت لبنان أيضا، وبينما كانت الصواريخ التي تطلقها حماس وحزب الله لا تتوقف، فإن آثارها على الأرض كانت ضئيلة لأن غالبيتها جرى تفجيرها في الفضاء.
نقطة التحول في الحرب جرت مع تفجيرات أجهزة «البيجر»، أظهرت تفوقًا تكنولوجيًا واجه ذلك الصواريخ القادمة من العراق ومن اليمن وسوريا. انفجرت هذه الأخيرة في 8 ديسمبر قبل أن يأتي وداع العام ليكون الحدث الذي يعطي المراقبين سببًا للحديث عن خريطة جديدة في الشرق الأوسط، ونتنياهو سوف يكون أكثر وقاحة بأن دولته تعيد تشكيل المنطقة.
أصبحت مسارح العمليات في حرب أوكرانيا وحرب غزة مختلفة عما كانت عليه قبل عام، وساعة دخولها إلى العام الجديد كان الإرهاق قد نالها إلى حد كبير.
الأمر كان كذلك في الشرق الأوسط، ولكن الإرهاق لم يكن دافعًا بما فيه الكفاية لإنتاج «هدنة» جديدة، ولكن الأنظار باتت بعيدة عندما أصبح مصير سوريا هو القضية، وخاصة بعد أن دفعت تركيا في شمالها لحل معضلاته الاستراتيجية، أما إسرائيل فقررت استباق حرب مع فصائل الإسلام السياسي بتدمير الجيش السوري فيتغير التوازن الاستراتيجي لعقد قادم.
أصبحنا الآن في عام آخر، وعلى جسر السنوات فإن الانتخابات الأمريكية لها عادة التصويت في عام وتولي الفائز في عام آخر، ليس للأمر تفضيل علمي يمكن الاحتذاء به في بلدان أخرى، ولكن هكذا كان المسار التاريخي للانتخابات الرئاسية.
فوز دونالد ترامب كان فارقًا كبيرًا هذه المرة لأنه وفق رأي الباحثين كان هزيمة لليبرالية في آفاقها الواسعة في الفكر السياسي.
المعركة الانتخابية كانت كاشفة فقد فاز الذين يقدمون 40% من الناتج المحلي الأمريكي على هؤلاء الذين يقدمون 60% من هذا الناتج، الأولون يعيشون في الوسط والجنوب الأمريكيين حيث الولايات الحمراء الجمهورية هي الصدئة وربيبة الثورة الصناعية الثانية حيث الطبقة العاملة لا تكف عن الشكوى والسخط على الأجانب والمهاجرين.
الآخرون، السكان في الولايات الزرقاء -الديمقراطية- على الساحل المنتجة في الثورتين الثالثة والرابعة، خسروا السباق لأنهم كانوا الأقل حماسًا للذهاب إلى صناديق الانتخابات من ناحية، ولأنهم بعيدون عن القضية السياسية ويفضلون البقاء في منازلهم للعمل والابتكار.
النتيجة هي أن العالم سوف يشهد أكبر عملية تراجع فكري عرفه العالم منذ بدايات القرن العشرين. ساكن البيت الأبيض الرئيس رقم 47 لديه جدول أعمال إمبراطوري يقوم على استعادة قناة بنما مرة أخرى، ضم كندا إلى الولايات المتحدة فتكون الولاية 51، وشراء «جرين لاند» الجزيرة الثلجية الهائلة الواقعة في شمال المحيط الأطلنطي بين أوروبا وأمريكا الشمالية.
برنامج العمل الأمريكي على هذا النحو يُشْهِد العالم 2025 على تغيرات مثيرة ينظر لها بدهشة وربما تكون الصين في انتظار أن تقدم أمريكا لها عرضا بشراء «تايوان» أو تحاول الاستيلاء عليها، أو أن يكون لطف الله كبيرا فيكتفي رجل العقارات -وليس الكاوبوي- الأمريكي بنظرته الجديدة «للمجال الغربي» الذي قصره المؤسسون الأوائل للدولة الأمريكية على «الأمريكتين» الشمالية والجنوبية، فإذا بترامب يأخذ بها إلى القطب الشمالي.
انعكاسات ذلك على أوروبا وحلف الأطلنطي والشرق الأوسط؛ والتوجه الأمريكي نحو آسيا، يبدو أنها سوف تظل مؤجلة حتى تستقر الأمور الداخلية الخاصة بتقليص الدولة الفيدرالية الأمريكية ومراجعة قدراتها العسكرية وما تستطيع فعله.
المشهد الأول في الشرق الأوسط سيكون في الاستجابة إلى واقع أنه رغم التفوق الإسرائيلي، وإعلان النصر المؤزر، فإن الحرب لا تزال مستمرة، وصواريخ حماس تعبر إلى الناحية الأخرى من غزة، وصواريخ الحوثيين تصل إلى تل أبيب!.
{ كاتب ومفكر مصري
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك