توجهت السلطات السورية الجديدة إلى «إصلاح التعليم» بتعديل مواد تعليمية تتعلق بالدين بصفة خاصة. لا تنفرد سوريا بذلك فدول كثيرة تسعى إلى تشكيل المجتمع من خلال التعليم، وتسير به إما نحو التقدم والازدهار والمنعة، وإما نحو التراجع والتصلب الفكري. في سوريا أثار ذلك جدلا سعت السلطات إلى تهدئته. الآن لدى القيادة السورية فرصة لإعادة تشكيل المجتمع، إما أن يكون وفق التعددية وحق الاختلاف؛ وإما وفق رؤية أحادية أيديولوجية ترفض الاختلاف وتقصي الآخر؟ إصلاح المجتمع يبدأ بالتعليم وكذلك هدمه وتحجر العقليات وتربية العنف. الفكر الذي يغرسه فيه التعليم إما يفسد عقلية الطلبة ويخلق جيلا متعصبا يرفض أي رأي مختلف وإما أنه يخلق عقلية متفتحة تتوق إلى المعرفة أيا كان مصدرها وتناقش فرضيات هذه المعارف وتتأكد من سلامتها علميا وفلسفيا وتنتهي بصلاح الإنسان وتوازنه. ينسجم ذلك مع كثير من المفكرين والإسلاميين الذي اعتبروا التفكير الحر فريضة إسلامية، وإن تخلف البلاد الإسلامية بدأ عندما توقفوا عن الاجتهاد الديني (د. محمد عبدالغني شامة أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر، الشيخ عكرمة صبري خطيب المسجد الأقصى، محمود العقاد). نتعشم في القيادة السورية المسار المنفتح التواق إلى المعرفة.
التعليم الذي يعتمد على تلقين ما هو «صحيح» يفوت الفرص على الطلاب للنقاش وتداول الأفكار وتفحصها وتدقيق منطلقاتها. فمثلا القول إن هذا الرأي أو الفهم هو «الصحيح» يفترض أن هذا التفسير (الفهم) هو الوحيد الصحيح وما غيره باطل؟ بينما اختلف العلماء في مختلف المجالات من العلوم الإنسانية وحتى العلوم الطبيعية حول ما هو صحيح. ومع ذلك تم الحجر على محاولات الفهم والتفسير واعتبر أي اجتهاد مختلف هو باطل. وهذا بداية التعطل الفكري الذي ساد قرونا في أوروبا وبعدها في الشرق الأوسط بأكمله والآن بعد أن تحررت بعض الأوطان من التصلب والتعنت وعدم قبول الرأي الآخر فلماذا يصر البعض على أن هذا التفسير هو «الصحيح»، وأن ما دونه باطل. ألا يعني ذلك الحجر على أي اجتهاد. ما معنى الآحادية إذًا؟ ألسنا نؤمن نحن المسلمين بأن الوحدانية لله سبحانه فقط وما عداه متعدد. ألا يشمل ذلك الفكر والفهم والاختلاف. (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ؛ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)[هود:118-119)، ألا تدل هذه الآية على أن غاية الخلق هو الاختلاف، والاختلاف، بالضرورة، يفترض الحرية وتحمل تبعاتها. ألا يفهم من هذه الآية أن أي اعتبار لشيء على أنه وحيد هو نوع من عدم الالتزام بقيم الدين؟ (لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون)، والسؤال يشمل المناقشة والمراجعة والتوضيح والتصحيح والنقد. وبالتالي فإن أي فهم لأي شيء هو موضع نقاش وحوار وتداول أفكار. وبالتالي ينتفي مفهوم «الصحيح» المطلق ويبدأ مفهوم الصحيح النسبي.
النقد بداية التقدم، فقد خضعت العلوم الطبيعية للنقد والمراجعة واعتبرت نتائجها على أنها لا تزال فرضيات تم إثباتها بالتجربة العلمية، وهذا لا يعني أنها أبدية ونهائية؟ كثير من المعارف والثوابت العلمية تم تغييرها عندما برزت أدلة تدحضها. وضع الفرضيات وتفسيرها يعتمد على الفهم والميول الإنسانية. يختلف ذلك من إنسان إلى آخر ومن زمن إلى آخر ومن مكان إلى آخر. والأصل في النظريات وثوابتها مطابقتها للواقع والمشاهدات. هكذا تم استبدال فكر أرسطو حول الكون والأرض وغيرها من الثوابت العلمية التي سادت ما يزيد على ألفي سنة. المعيار في العلوم الطبيعية مرجعها الطبيعة، والعلوم الإنسانية مرجعها الإنسان والمجتمعات، والعلوم الدينية مرجعها الكتب والنصوص الدينية. وقد اختلف رجال الدين حول معظم المواضيع ولذلك تعددت المذاهب الفقهية والمدارس العقائدية وبالتالي من الصعب أن يدعي أحد أن هذا هو الصحيح. يقول الشيخ عكرمة صبري (خطيب المسجد الأقصى) إن التفكير فريضة إسلامية، ونتيجة التفكير الطبيعية أن الناس قد تختلف في النتائج. فكيف نوفق بين حرية التفكير وضرورة تقبل نتائجه المختلفة؟ هذه أزمة ملحمية عربية إسلامية ينبغي معالجتها لتفادي الضرر الذي يحدثه إجبار المجتمع على فكر أحادي؟!
مشروع التعايش السلمي الذي يرعاه جلالة الملك يدفع باتجاه التعددية الدينية والفكرية وقبول الاختلاف. ينطلق المشروع من أن التعايش يقوم على مبدأ أن الله سبحانه خلق البشر مختلفين وهذا مناط الحرية والتكليف. ومن دون الاختلاف تنتفي الحرية وينتفي التكليف. لذلك فإن الاختلاف هو طبيعة بشرية وعلينا أن نقبلها ونمارس حياتنا موقنين بأنها باقية وهي الطبيعة والأصل. السؤال كيف نستثمر هذا الاختلاف في بناء مجتمع منتج مبدع يتمتع بحرية التفكير وحق الاختلاف ويؤمن بهما. مجتمع يُعرِّف الإسلام على أنه إيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، كما تكرر في كثير من آيات القرآن الكريم. وهذا التعريف تشترك فيه معظم الأديان السماوية. أما غير المسلمين (الذين قطعوا صلتهم بالله) فإن حسابهم عند الله وليس لنا الحق في الاعتداء على ما يعتقدون (إنَّ الذين ءَامَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة إن الله عَلَى كُلِّ شيء شَهِيدٌ). غرس هذه الروح في الشباب تخلق مجتمعا متصالحا مع نفسه، يرفض العنف والإقصاء والنفاق ويوحد الأمة. هذا الفكر يكون مجتمعا يعظم الفكر والعقلانية التي أمرنا الله بها في كثير من الآيات. فالله سبحانه يخاطب الناس ويدعوهم إلى التفكر والتدبر. وللحديث بقية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك