العدد : ١٧٠٩٦ - الأحد ١٢ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ١٢ رجب ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٩٦ - الأحد ١٢ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ١٢ رجب ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

القرآن.. بين العموم والخصوص

بقلم: عبدالرحمن علي البنفلاح

الأحد ١٢ يناير ٢٠٢٥ - 02:00

جاء‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬القمر،‭ ‬في‭ ‬أربعة‭ ‬مواضع‭ ‬منها‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭: (‬ولقد‭ ‬يسرنا‭ ‬القرآن‭ ‬للذكر‭ ‬فهل‭ ‬من‭ ‬مدكر‭) ‬الآيات‭: (‬17،‭ ‬22،‭ ‬32‭ ‬،40‭) ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الآيات‭ ‬رفع‭ ‬الحق‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬الحرج‭ ‬عن‭ ‬المؤمنين‭ ‬عند‭ ‬محاولة‭ ‬فهم‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تدبر‭ ‬الآيات‭ ‬التي‭ ‬نتلوها‭ ‬في‭ ‬صلاتنا،‭ ‬وفِي‭ ‬تلاوتنا‭ ‬للقرآن‭ ‬طلبًا‭ ‬للأجر،‭ ‬وتقربًا‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭.‬

وضرورة‭ ‬فهم‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭ ‬وإدراك‭ ‬مقاصده‭ ‬وغاياته‭ ‬لنستعين‭ ‬بهذا‭ ‬الفهم‭ ‬حتى‭ ‬نطبق‭ ‬الأحكام‭ ‬القرآنية‭ ‬في‭ ‬حياتنا،‭ ‬ونعرف‭ ‬حدود‭ ‬المباح‭ ‬فلا‭ ‬نتجاوزه،‭ ‬وندرك‭ ‬خطر‭ ‬المعاصي‭ ‬فلا‭ ‬نكتفي‭ ‬بتركها،‭ ‬بل‭ ‬نحاول‭ ‬أن‭ ‬نتجنب‭ ‬السبيل‭ ‬إليها‭.‬

ولأن‭ ‬القرآن‭ ‬إنما‭ ‬نزل‭ ‬للتدبر،‭ ‬وتنظيم‭ ‬حركة‭ ‬الحياة،‭ ‬والتطبيق‭ ‬لما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬من‭ ‬أوامر‭ ‬ونواه،‭ ‬وهذا‭ ‬المسألة‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬أمرين‭ ‬اثنين‭ ‬الأول‭: ‬فهم‭ ‬مقاصد‭ ‬القرآن،‭ ‬والثاني‭: ‬فهم‭ ‬أسرار‭ ‬الإنسان‭ ‬وقدراته،‭ ‬فقد‭ ‬يكون‭ ‬الإنسان‭ ‬قادرًا،‭ ‬فيصبح‭ ‬عاجزًا،‭ ‬ويكون‭ ‬سليمًا‭ ‬فتداهمه‭ ‬الأمراض‭ ‬فيعجز‭ ‬عن‭ ‬أداء‭ ‬التكاليف‭ ‬بتمامها،‭ ‬فيخفف‭ ‬عنه‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬شيئًا‭ ‬من‭ ‬شروط‭ ‬التكاليف،‭ ‬وهذا‭ ‬الفهم‭ ‬الذي‭ ‬نسعى‭ ‬إليه‭ ‬للنص‭ ‬القرآني‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬التصالح‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬في‭ ‬عمومه‭ ‬وخصوصه،‭ ‬وكما‭ ‬أن‭ ‬للعموم‭ ‬مفاتيح،‭ ‬فكذلك‭ ‬للخصوص‭ ‬مفاتيح،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬مفتاح‭ ‬العموم‭ ‬هو‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭: (‬قل‭ ‬يا‭ ‬أيها‭ ‬الناس‭..)‬،‭ ‬فإن‭ ‬المفتاح‭ ‬الآخر‭ ‬هو‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭: (‬يا‭ ‬أيها‭ ‬الذين‭ ‬آمنوا‭ ‬استعينوا‭ ‬بالصبر‭ ‬والصلاة‭ ‬إن‭ ‬الله‭ ‬مع‭ ‬الصابرين‭) ‬البقرة‭ / ‬153‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬الغالب‭ ‬في‭ ‬خطاب‭ ‬يا‭ ‬أيها‭ ‬الناس‭ ‬يدور‭ ‬حول‭ ‬قضايا‭ ‬العقائد‭ ‬وما‭ ‬شابهها‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬التي‭ ‬يشترك‭ ‬فيها‭ ‬المؤمن‭ ‬وغير‭ ‬المؤمن،‭ ‬فإن‭ ‬الخطاب‭ ‬بـ‮«‬‭ ‬يا‭ ‬أيها‭ ‬الذين‭ ‬آمنوا‮»‬‭ ‬خاص‭ ‬بالتكاليف‭ ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬قسم‭ ‬العلماء‭ ‬آيات‭ ‬القرآن‭ ‬إلى‭ ‬مكي‭ ‬ومدني،‭ ‬فالذي‭ ‬نزل‭ ‬في‭ ‬مكة‭ ‬الغالب‭ ‬على‭ ‬آياته‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬التوحيد،‭ ‬وأما‭ ‬القسم‭ ‬الثاني‭ ‬فهو‭ ‬المدني‭ ‬أي‭ ‬الذي‭ ‬نزل‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬وغالب‭ ‬آياته‭ ‬تتعلق‭ ‬بالأحكام‭ ‬الفقهية‭.‬

إذًا،‭ ‬فمن‭ ‬آيات‭ ‬العموم‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭: (‬يا‭ ‬أيها‭ ‬الناس‭ ‬ضرب‭ ‬مثلٌ‭ ‬فاستمعوا‭ ‬له‭ ‬إن‭ ‬الذين‭ ‬تدعون‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الله‭ ‬لن‭ ‬يخلقوا‭ ‬ذبابًا‭ ‬ولو‭ ‬اجتمعوا‭ ‬له‭ ‬وإن‭ ‬يسلبهم‭ ‬الذباب‭ ‬شيئًا‭ ‬لا‭ ‬يستنقذوه‭ ‬منه‭ ‬ضعف‭ ‬الطالب‭ ‬والمطلوب‭ (‬72‭) ‬ما‭ ‬قدروا‭ ‬الله‭ ‬حق‭ ‬قدره‭ ‬إن‭ ‬الله‭ ‬لقوي‭ ‬عزيز‭(‬73‭)) (‬سورة‭ ‬الحج‭).‬

قضية‭ ‬أخرى‭ ‬يتوجه‭ ‬إليها‭ ‬القرآن‭ ‬في‭ ‬صراحة‭ ‬ووضوح،‭ ‬وهي‭ ‬قوله‭ ‬سبحانه‭: (‬يا‭ ‬أيها‭ ‬الناس‭ ‬اعبدوا‭ ‬ربكم‭ ‬الذي‭ ‬خلقكم‭ ‬والذين‭ ‬من‭ ‬قبلكم‭ ‬لعلكم‭ ‬تتقون‭) ‬البقرة‭ / ‬21‭. ‬وأيضًا‭ ‬حين‭ ‬يدعوهم‭ ‬إلى‭ ‬أمر‭ ‬يهمهم‭ ‬جميعًا‭ ‬ولا‭ ‬يستثني‭ ‬منهم‭ ‬أحدًا،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بمعاشهم‭ ‬من‭ ‬الطعام‭ ‬والشراب،‭ ‬فيبين‭ ‬لهم‭ ‬الحلال‭ ‬الطيب،‭ ‬والحرام‭ ‬الخبيث،‭ ‬وطعام‭ ‬الضرورة،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬في‭ ‬أصله‭ ‬حرام‭ ‬ولكن‭ ‬يبيح‭ ‬الحق‭ ‬سبحانه‭ ‬شيئًا‭ ‬منه‭ ‬عند‭ ‬الضرورة،‭ ‬ومن‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬نطلق‭ ‬عليه‭ ‬‮«‬طعام‭ ‬الضرورة‮»‬‭ ‬وهذا‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬سماحة‭ ‬الإسلام‭ ‬ويسره‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬عنه‭: (‬يريد‭ ‬الله‭ ‬بكم‭ ‬اليسر‭ ‬ولا‭ ‬يريد‭ ‬بكم‭ ‬العسر‭..) ‬البقرة‭/ ‬185‭.‬

وأيضًا‭ ‬هناك‭ ‬خطاب‭ ‬عامٌ‭ ‬للناس‭ ‬جميعًا‭ ‬حول‭ ‬الإيمان‭ ‬بنبوة‭ ‬الرسول‭ ‬محمد‭ (‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭) ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭: (‬قل‭ ‬يا‭ ‬أيها‭ ‬الناس‭ ‬إني‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬إليكم‭ ‬جميعًا‭ ‬الذي‭ ‬له‭ ‬ملك‭ ‬السموات‭ ‬والأرض‭ ‬لا‭ ‬إله‭ ‬إلا‭ ‬هو‭ ‬يحي‭ ‬ويميت‭ ‬فآمنوا‭ ‬بالله‭ ‬ورسوله‭ ‬النبي‭ ‬الأمي‭ ‬الذي‭ ‬يؤمن‭ ‬بالله‭ ‬وكلماته‭ ‬واتبعوه‭ ‬لعلكم‭ ‬تهتدون‭) ‬الأعراف‭/ ‬158‭.‬

هذا‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بخطاب‭ ‬العموم،‭ ‬أما‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بخطاب‭ ‬الخصوص،‭ ‬فهو‭ ‬خطاب‭ ‬له‭ ‬سماته،‭ ‬وبداياته‭ ‬ونهاياته،‭ ‬والغالب‭ ‬أن‭ ‬مفتاح‭ ‬هذا‭ ‬الخطاب‭ ‬هو‭ ‬التكاليف‭ ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬عقب‭ ‬الاستفتاح‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭: (‬يا‭ ‬أيها‭ ‬الذين‭ ‬آمنوا‭..)‬،‭ ‬إن‭ ‬المخاطب‭ ‬هنا‭ ‬هم‭ ‬المؤمنون‭ ‬الذين‭ ‬يدينون‭ ‬لله‭ ‬تعالى‭ ‬بالولاء‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬تشوبه‭ ‬شائبة‭ ‬من‭ ‬شرك‭ ‬خفي‭ ‬أو‭ ‬جلي‭.‬

وفِي‭ ‬بيان‭ ‬واضح‭ ‬وصريح‭ ‬يرفع‭ ‬الحرج‭ ‬عن‭ ‬المؤمنين‭ ‬في‭ ‬مواضع‭ ‬من‭ ‬القرآن‭ ‬العظيم،‭ ‬ففي‭ ‬مواضع‭ ‬أخرى‭ ‬يأمر‭ ‬بالعزائم،‭ ‬ففي‭ ‬المباحات‭ ‬يكتفي‭ ‬بالأمر‭ ‬إلى‭ ‬فعلها،‭ ‬وأما‭ ‬في‭ ‬النواهي،‭ ‬فلا‭ ‬يكتفي‭ ‬بالنهي‭ ‬عن‭ ‬التعدي،‭ ‬بل‭ ‬ينهي‭ ‬ويشدد‭ ‬في‭ ‬النهي‭ ‬عن‭ ‬مجرد‭ ‬الاقتراب‭ ‬منها‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬سبحانه‭ ‬عن‭ ‬النهي‭ ‬عن‭ ‬الزنا‭ ‬قال‭ ‬تعالى‭: (‬ولا‭ ‬تقربوا‭ ‬الزنا‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬فاحشة‭ ‬وساء‭ ‬سبيلا‭) ‬الإسراء‭/ ‬32‭.‬

ولقد‭ ‬تضمن‭ ‬برنامج‭ ‬التدريب‭ ‬الذي‭ ‬أُعد‭ ‬لآدم‭ (‬عليه‭ ‬السلام‭) ‬الأمرين‭ ‬معًا،‭ ‬قال‭ ‬تعالى‭: (‬يا‭ ‬آدم‭ ‬اسكن‭ ‬أنت‭ ‬وزوجك‭ ‬الجنة‭ ‬فكلا‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬شئتما‭ ‬ولا‭ ‬تقربا‭ ‬هذه‭ ‬الشجرة‭ ‬فتكونا‭ ‬من‭ ‬الظالمين‭) ‬الأعراف‭ / ‬19‭.‬

إذًا،‭ ‬فجميع‭ ‬أشجار‭ ‬الجنة‭ ‬مباحة‭ ‬إلا‭ ‬هذه‭ ‬الشجرة‭ ‬الوحيدة‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬ممنوع‭ ‬الأكل‭ ‬منها،‭ ‬بل‭ ‬ممنوع‭ ‬حتى‭ ‬مجرد‭ ‬الاقتراب‭ ‬منها،‭ ‬وقال‭ ‬العلماء‭: ‬‮«‬إن‭ ‬الأصل‭ ‬في‭ ‬الأشياء‭ ‬الإباحة،‭ ‬ولا‭ ‬تحريم‭ ‬إلا‭ ‬بنص‮»‬‭.‬

هذا‭ ‬هو‭ ‬الإسلام،‭ ‬وهذه‭ ‬عظمة‭ ‬شرائعه‭.. ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬منهجه‭ ‬القويم‭ ‬الذي‭ ‬صلح‭ ‬عليه‭ ‬أمر‭ ‬الدنيا‭ ‬والآخرة،‭ ‬الدين‭ ‬الذي‭ ‬يرفع‭ ‬شعار‭: ‬‮«‬يريد‭ ‬الله‭ ‬بكم‭ ‬اليسر،‭ ‬ولا‭ ‬يريد‭ ‬بكم‭ ‬العسر‮»‬‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا