العدد : ١٧٠٩٨ - الثلاثاء ١٤ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ١٤ رجب ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٩٨ - الثلاثاء ١٤ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ١٤ رجب ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

مكسب القمار «بنت»

كنت‭ ‬لحين‭ ‬من‭ ‬الدهر‭ ‬أمضي‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬لعب‭ ‬الورق‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬الأقارب‭ ‬والأصدقاء‭ ‬خلال‭ ‬العطل‭ ‬الأسبوعية‭ ‬والعامة،‭ ‬وأصيح‭ ‬مثل‭ ‬غيري‭ ‬منتشيا‭ ‬بكسب‭ ‬جولة،‭ ‬ثم‭ ‬اقترح‭ ‬بعضهم‭ ‬جعل‭ ‬المنافسات‭ ‬أكثر‭ ‬‮«‬سخونة‮»‬،‭ ‬بإدخال‭ ‬ما‭ ‬أسماه‭ ‬الحافز‭ ‬المادي‭ ‬الرمزي،‭ ‬فصار‭ ‬رابح‭ ‬الجولة‭ ‬يكسب‭ ‬نقودا‭ ‬تكفي‭ ‬لشراء‭ ‬مشروب‭ ‬بارد‭ ‬أو‭ ‬ساخن‭ ‬او‭ ‬سندويتش‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬لقي‭ ‬نظام‭ ‬الحوافز‭ ‬المزعوم‭ ‬رواجا،‭ ‬تم‭ ‬رفع‭ ‬قيمته‭ ‬النقدية،‭ ‬وعندها‭ ‬بدأ‭ ‬البعض‭ ‬في‭ ‬ممارسة‭ ‬الغش،‭ ‬ثم‭ ‬صار‭ ‬الخاسر‭ ‬يغضب‭ ‬ويسبّ‭ ‬نفسه‭ ‬و‮«‬الدنيا‮»‬،‭ ‬فأدركت‭ ‬شلّتنا‭ ‬كلها‭ ‬أن‭ ‬القمار‭ ‬‮«‬فرّاق‭ ‬الحبايب‮»‬‭ ‬كما‭ ‬نقول‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬ونعني‭ ‬أنه‭ ‬يفرق‭ ‬بين‭ ‬الأحباب‭ ‬ويشتت‭ ‬شملهم،‭ ‬وبالنسبة‭ ‬لي‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬قاصمة‭ ‬العلاقة‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬الورق‭ ‬وألعابه‭ ‬كليا‭.‬

من‭ ‬الآفات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬المسكوت‭ ‬عنها‭ ‬شُلل‭ ‬الميسر‭ ‬التي‭ ‬توجد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المدن‭ ‬تقريبا،‭ ‬وتتألف‭ ‬عادة‭ ‬من‭ ‬‮«‬أصدقاء‮»‬‭ ‬أو‭ ‬أناس‭ ‬يعرفون‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض‭ ‬جيدا‭ ‬ولا‭ ‬يسمحون‭ ‬لغريب‭ ‬بالانضمام‭ ‬إليهم،‭ ‬لأنهم‭ ‬يدركون‭ ‬ان‭ ‬ما‭ ‬يفعلونه‭ ‬أمر‭ ‬مستهجن‭ ‬اجتماعيا‭ ‬وقانونيا‭ ‬ودينيا‭. ‬ما‭ ‬يحيرني‭ ‬هو‭: ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬صديقي‭ ‬ثم‭ ‬تسلب‭ ‬مني‭ ‬على‭ ‬طاولة‭ ‬القمار‭ ‬راتبي‭ ‬بالكامل‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬بيتي‭ ‬وسيارتي‭. ‬وحتى‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬صديقا‭ ‬لمن‭ ‬تقامر‭ ‬معهم‭ ‬كيف‭ ‬ترضى‭ ‬لنفسك‭ ‬تجريدهم‭ ‬من‭ ‬مالهم‭ ‬وممتلكاتهم،‭ ‬وحتى‭ ‬لو‭ ‬كنت‭ ‬وثنيا‭ ‬أو‭ ‬هندوسيا‭ ‬أو‭ ‬سكسفونيا‭ ‬كيف‭ ‬تقبل‭ ‬لنفسك‭ ‬إعاشة‭ ‬عائلتك‭ ‬من‭ ‬مال‭ ‬مسلوب‭ ‬من‭ ‬آخرين؟‭ ‬شخصيا‭ ‬أعتقد‭ ‬أنه‭ ‬أهون‭ ‬على‭ ‬نفسي‭ ‬أن‭ ‬أتعرض‭ ‬للسرقة‭ ‬أو‭ ‬النشل‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬لصّ‭ ‬محترف‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬ظهري‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يسلبني‭ ‬شخص‭ ‬أعرفه‭ ‬مالي،‭ ‬بضربة‭ ‬حظ،‭ ‬ولكن‭ ‬بالمقابل‭ ‬فإنني‭ ‬لو‭ ‬كنت‭ ‬مقامرا‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬حقي‭ ‬أن‭ ‬أتضايق‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬صديقا‭ ‬جردني‭ ‬من‭ ‬مالي‭ ‬في‭ ‬مائدة‭ ‬قمار،‭ ‬لأنني‭ ‬شاركته‭ ‬المقامرة‭ ‬بهدف‭ ‬الاستيلاء‭ ‬على‭ ‬أمواله‭ ‬وأموال‭ ‬الآخرين‭.‬

وإليكم‭ ‬حكاية‭ ‬استقيتها‭ ‬من‭ ‬تقرير‭ ‬لوكالة‭ ‬الصحافة‭ ‬الفرنسية‭ ‬عن‭ ‬الفتاة‭ ‬الباكستانية‭ ‬رشيدة‭ ‬بيغوم،‭ ‬التي‭ ‬طالب‭ ‬صديق‭ ‬والدها‭ ‬الراحل‭ ‬بـ«امتلاكها‮»‬‭. ‬وما‭ ‬حدث‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬والد‭ ‬رشيدة‭ ‬خسر‭ ‬قبل‭ ‬وفاته‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬معه‭ ‬من‭ ‬مال‭ ‬على‭ ‬مائدة‭ ‬القمار،‭ ‬بل‭ ‬وصار‭ ‬مدينا‭ ‬للمدعو‭ ‬لال‭ ‬حيدر‭ ‬بمبلغ‭ ‬يعادل‭ ‬160‭ ‬دولارا،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬منه‭ ‬كمقامر‭ ‬محترف‭ ‬و«صاحب‭ ‬كلمة‮»‬‭ ‬يحترم‭ ‬‮«‬شرف‭ ‬المهنة‭!!!‬‮»‬‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬كتب‭ ‬مستندا‭ ‬يتنازل‭ ‬فيه‭ ‬لحيدر‭ ‬عن‭ ‬ابنته‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬أكملت‭ ‬عامها‭ ‬الأول‭ ‬وقتها‭. ‬ومؤخرا‭ ‬طالب‭ ‬حيدر‭ ‬بالفتاة‭ ‬بموجب‭ ‬صك‭ ‬التنازل‭ ‬الذي‭ ‬وقع‭ ‬عليه‭ ‬والدها،‭ ‬الذي‭ ‬توفي‭ ‬منذ‭ ‬سنوات،‭ ‬بعد‭ ‬علة‭ ‬أمهلته‭ ‬طويلا‭. ‬والدة‭ ‬رشيدة‭ ‬لم‭ ‬ترض‭ ‬لابنتها‭ ‬المهانة‭ ‬وقدمت‭ ‬لحيدر‭ ‬المال‭ ‬الذي‭ ‬عجز‭ ‬زوجها‭ ‬المتوفى‭ ‬عن‭ ‬سداده‭ ‬بالتمام‭ ‬والكمال،‭ ‬ولكن‭ ‬حيدر‭ ‬تمسك‭ ‬بشروط‭ ‬‮«‬البيع‮»‬،‭ ‬وطالب‭ ‬بحقه‭ ‬في‭ ‬اقتناء‭ ‬فتاة‭ ‬آخر‭ ‬موديل‭ ‬عمرها‭ ‬17‭ ‬سنة‭: ‬لا‭ ‬البنت‭ ‬رشيدة‭ ‬ملكي‭ ‬وأنا‭ ‬غلطان‭ ‬اللي‭ ‬سمحت‭ ‬لها‭ ‬بالبقاء‭ ‬مع‭ ‬أمها‭ ‬نحو‭ ‬16‭ ‬سنة‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أربيها‭ ‬على‭ ‬يدي‭ ‬ثم‭ ‬أتزوج‭ ‬بها‭ ‬متى‭ ‬ما‭ ‬شئت‭.‬

عادة‭ ‬أتفادى‭ ‬في‭ ‬مقالاتي‭ ‬تسبيب‭ ‬الغم‭ ‬والنكد‭ ‬للقراء،‭ ‬ولكنني‭ ‬ارتأيت‭ ‬التطرق‭ ‬إلى‭ ‬حكاية‭ ‬رشيدة‭ ‬للتدليل‭ ‬على‭ ‬وجهة‭ ‬نظري‭ ‬القائلة‭ ‬إن‭ ‬مضار‭ ‬القمار‭ ‬أفدح‭ ‬من‭ ‬مضار‭ ‬المخدرات‭. ‬وفي‭ ‬غالب‭ ‬الأحوال‭ ‬فإن‭ ‬مدمن‭ ‬المخدرات‭ ‬لا‭ ‬يؤذي،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬مباشر‭ ‬إلا‭ ‬نفسه،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬مدمن‭ ‬القمار‭ ‬قد‭ ‬يؤذي‭ ‬في‭ ‬ليلة‭ ‬واحدة‭ ‬سبع‭ ‬أو‭ ‬تسع‭ ‬عائلات‭ ‬متوسط‭ ‬عدد‭ ‬أفراد‭ ‬كل‭ ‬منها‭ ‬خمسة‭. ‬ومدمن‭ ‬المخدرات‭ ‬قد‭ ‬يتوب‭ ‬ويثوب‭ ‬إلى‭ ‬رشده‭ ‬ويكف‭ ‬أذاه‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬وعن‭ ‬أهله،‭ ‬ولكن‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬تاب‭ ‬مدمن‭ ‬القمار‭ ‬فإن‭ ‬الأذى‭ ‬الذي‭ ‬ألحقه‭ ‬بالآخرين‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬السنين‭ ‬لا‭ ‬يزول‭ ‬وينتهي‭. ‬زاملت‭ ‬خلال‭ ‬عملي‭ ‬بالتدريس‭ ‬شخصاً‭ ‬عبقرياً‭ ‬كان‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬تدريس‭ ‬الفيزياء‭ ‬والجغرافيا‭ ‬واللغة‭ ‬الانجليزية‭ ‬بكفاءة‭ ‬عالية،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬مدمن‭ ‬قمار‭ ‬ولا‭ ‬يعطي‭ ‬زوجته‭ ‬وعياله‭ ‬أي‭ ‬نقود،‭ ‬والأنكى‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يقامر‭ ‬وهو‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬الخمر،‭ ‬وبعد‭ ‬وفاته‭ ‬وأثناء‭ ‬قيامنا‭ ‬بجمع‭ ‬ممتلكات‭ ‬العائلة‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬كانت‭ ‬تستأجره،‭ ‬وجدنا‭ ‬مبالغ‭ ‬طائلة‭ ‬محشوة‭ ‬بين‭ ‬الكتب‭ ‬وداخل‭ ‬أحذية‭ ‬قديمة‭ ‬وفي‭ ‬شقوق‭ ‬الجدران‭. ‬كان‭ ‬الراحل‭ ‬قد‭ ‬خبأها‭ ‬وهو‭ ‬سكران‭ ‬ليقامر‭ ‬بها‭ ‬لاحقا،‭ ‬ونسي‭ ‬أمرها‭ ‬فيما‭ ‬يبدو،‭ ‬وبوفاته‭ ‬تحسنت‭ ‬أحوال‭ ‬عائلته‭ ‬المادية‭.. ‬فتأمل‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا