العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

كثير النسيان ولست مخرِّفا (5)

عانيت‭ ‬ومازلت‭ ‬أعاني‭ ‬من‭ ‬اتهام‭ ‬زوجتي‭ ‬لي‭ ‬بالخرف‭ ‬والعته،‭ ‬لأن‭ ‬ذاكرتي‭ ‬صارت‭ ‬غربالا‭/‬منخلا‭ ‬تتسرب‭ ‬منه‭ ‬المعلومات‭ ‬فور‭ ‬دخولها‭ ‬فيه،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هناك‭ ‬هو‭ ‬أنني‭ ‬أعاني‭ ‬من‭ ‬النسيان‭ ‬غير‭ ‬الضار،‭ ‬مثل‭ ‬عدم‭ ‬قدرتي‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬على‭ ‬تذكر‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬تركت‭ ‬فيه‭ ‬مفتاح‭ ‬السيارة،‭ ‬أو‭ ‬النظارة،‭ ‬وعانيت‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬النسيان‭ ‬غير‭ ‬الحميد‭ ‬عندما‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬مسافرة‭ ‬معي‭ ‬الى‭ ‬جدة‭ ‬في‭ ‬السعودية‭ ‬ونسيت‭ ‬أمرها‭ ‬منذ‭ ‬لحظة‭ ‬الهبوط‭ ‬من‭ ‬الطائرة‭ ‬ولم‭ ‬أتذكر‭ ‬أنها‭ ‬معي‭ ‬إلا‭ ‬وأنا‭ ‬أقدم‭ ‬جوازي‭ ‬سفر‭ ‬لشرطي‭ ‬الجوازات‭ ‬في‭ ‬المطار‭ ‬الذي‭ ‬نظر‭ ‬إلي‭ ‬مرتابا‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬حسب‭ ‬انني‭ ‬استخدم‭ ‬جوازي‭ ‬سفر‭ ‬أحدهما‭ ‬نسوي،‭ ‬في‭ ‬عمليات‭ ‬إجرامية،‭ ‬ولم‭ ‬ينقذ‭ ‬الموقف‭ ‬الا‭ ‬وصول‭ ‬المدام‭ ‬والشرّ‭ (‬براء‭ ‬واحدة‭) ‬يتطاير‭ ‬من‭ ‬عينيها‭.‬

المخ‭ ‬البشري‭ ‬مذهل‭ ‬وعجيب‭. ‬نعم‭ ‬أشكو‭ ‬من‭ ‬آفة‭ ‬النسيان‭ ‬ولكنني‭ ‬أستطيع‭ ‬ان‭ ‬أتكلم‭ ‬عشرين‭ ‬ساعة‭ ‬متواصلة‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬السودان‭ ‬الحديث،‭ ‬والحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬وشطحات‭ ‬الحزب‭ ‬الجمهوري‭ ‬الأمريكي‭ ‬منذ‭ ‬نصف‭ ‬قرن،‭ ‬موردا‭ ‬أدق‭ ‬التفاصيل‭ ‬والمواقيت‭. ‬ولكنني‭ ‬نسيت‭ ‬ان‭ ‬أزور‭ ‬صديقي‭ ‬الذي‭ ‬أجرى‭ ‬عملية‭ ‬قلب‭ ‬مفتوح‭ ‬رغم‭ ‬انني‭ ‬بقيت‭ ‬خارج‭ ‬غرفة‭ ‬العمليات‭ ‬وغرفة‭ ‬الانعاش‭ ‬يوم‭ ‬خضع‭ ‬للجراحة‭ ‬طوال‭ ‬12‭ ‬ساعة‭. ‬وقبلها‭ ‬اصطحبت‭ ‬ابنتي‭ ‬الى‭ ‬عيادة‭ ‬خاصة‭ ‬وقلت‭ ‬لها‭ ‬انني‭ ‬سأزود‭ ‬سيارتي‭ ‬بالبنزين‭ ‬وأعود‭ ‬اليها‭ ‬قبل‭ ‬موعد‭ ‬مقابلتها‭ ‬للطبيب‭. ‬وشربت‭ ‬سيارتي‭ ‬كفايتها‭ ‬من‭ ‬البنزين‭ ‬وانطلقت‭ ‬الى‭ ‬مكتبي‭ ‬وجلست‭ ‬أقلب‭ ‬الأوراق‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬ان‭ ‬أتذكر‭ ‬‮«‬لماذا‭ ‬عدت‭ ‬الى‭ ‬المكتب‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬ساعات‭ ‬عملي‭ ‬المعتادة؟‮»‬‭ ‬ثم‭ ‬رن‭ ‬هاتفي‭ ‬الجوال‭ ‬وجاءني‭ ‬صوت‭ ‬ابنتي‭: ‬خير‭ ‬يا‭ ‬بابا‭ ‬انت‭ ‬كويس؟‭ ‬قلت‭ ‬لها‭ ‬نعم‭ ‬انا‭ ‬بخير‭ ‬ولكن‭ ‬منذ‭ ‬متى‭ ‬صرت‭ ‬حنينة‭ ‬وتتفقدين‭ ‬حال‭ ‬بابا؟‭ ‬صاحت‭ ‬وهي‭ ‬تخنق‭ ‬دموعها‭: ‬بابا‭ ‬انا‭ ‬في‭ ‬العيادة‭ ‬في‭ ‬انتظارك‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ساعتين‭! ‬خير‭ ‬يا‭ ‬بنتي‭.. ‬رحتِ‭ ‬العيادة‭ ‬ليه‭ ‬ومع‭ ‬مين؟‭ ‬هنا‭ ‬جاءني‭ ‬الرد‭ ‬السخيف‭: ‬فعلا‭ ‬كلام‭ ‬ماما‭ ‬صح‭ ‬وانت‭ ‬خرَّفت‭.‬

قبل‭ ‬أعوام‭ ‬سمعت‭ ‬بإصابة‭ ‬صديق‭ ‬‮«‬عبد‭ ‬الصمد‮»‬‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬حادث‭ ‬مروري‭ ‬فهرعت‭ ‬الى‭ ‬قسم‭ ‬الطوارئ‭ ‬في‭ ‬المستشفى‭ ‬ووجدته‭ ‬مغطى‭ ‬بالدماء‭.. ‬كان‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬كسور‭ ‬في‭ ‬الأضلاع‭ ‬والرأس‭ ‬واليد‭ ‬والكتف‭ ‬وينزف‭ ‬من‭ ‬فمه‭ ‬وأذنه‭ ‬وأنفه‭.. ‬كنت‭ ‬مضطربا‭ ‬ومنهار‭ ‬القوى‭ ‬وأنا‭ ‬أرى‭ ‬الأطباء‭ ‬والممرضين‭ ‬منهمكين‭ ‬في‭ ‬إسعافه‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬غيبوبة‭. ‬وفجأة‭ ‬سمعت‭ ‬اسمي‭ ‬وتلفت‭ ‬فلم‭ ‬أجد‭ ‬شخصا‭ ‬أعرفه‭ ‬بغرفة‭ ‬الطوارئ‭ ‬ولكن‭ ‬طبيبا‭ ‬التفت‭ ‬إلي‭ ‬وسألني‭: ‬أنت‭ ‬جعفر؟‭ ‬قلت‭ ‬نعم،‭ ‬فقال‭ ‬لي‭: ‬‮«‬المريض‭ ‬فتح‭ ‬عينه‭ ‬ونطق‭ ‬باسمك،‭ ‬اذهب‭ ‬وكلمه‭ ‬وشجعه‭ ‬على‭ ‬ان‭ ‬يفتح‭ ‬عينيه‭ ‬ويواصل‭ ‬الكلام‭ ‬معك‮»‬‭.‬

وعملت‭ ‬بتوجيهات‭ ‬الطبيب‭ ‬وفتح‭ ‬عبدالصمد‭ ‬عينيه‭ ‬مجددا‭ ‬ونطق‭ ‬باسمي‭ ‬وسألني‭: ‬هل‭ ‬سأموت؟‭ ‬امتلأت‭ ‬عيناي‭ ‬بالدموع‭ ‬وجاهدت‭ ‬لإخفائها‭ ‬ولحسن‭ ‬حظي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬راح‭ ‬في‭ ‬غيبوبة‭ ‬ثانية،‭ ‬ثم‭ ‬فتح‭ ‬عينيه‭ ‬وقال‭: ‬اتصل‭ ‬بأصدقائي‭ ‬فلان‭ ‬وفلان‭ ‬وعلان‭ ‬وأبلغهم‭ ‬بما‭ ‬حصل‭ ‬ونطق‭ ‬بأرقام‭ ‬هواتفهم‭. ‬واتصلت‭ ‬بالأرقام‭ ‬تلك‭ ‬وكانت‭ ‬‮«‬صحيحة‮»‬‭. ‬وبعدها‭ ‬بدقائق‭ ‬قال‭: ‬أمي‭ ‬في‭ ‬مكة‭ ‬لأداء‭ ‬العمرة‭ ‬ولا‭ ‬أريد‭ ‬لها‭ ‬ان‭ ‬تعرف‭ ‬بالحادث‭ ‬فاحرص‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬تسريب‭ ‬الخبر‭ ‬خارج‭ ‬دائرة‭ ‬أصدقائي‭ ‬الثلاثة‭ ‬وأنت‭. ‬ذهلت‭ ‬لأن‭ ‬أمه‭ ‬بالفعل‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬مكة،‭ ‬فبرغم‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬بين‭ ‬الحياة‭ ‬والموت‭ ‬كان‭ ‬يتذكر‭ ‬أشياء‭ ‬مهمة‭ ‬بدقة‭. ‬ثم‭ ‬طلب‭ ‬مني‭ ‬ان‭ ‬اقترب‭ ‬منه‭ ‬وامسك‭ ‬بيدي‭ ‬بقوة‭ ‬وظل‭ ‬ممسكا‭ ‬بها‭ ‬وهم‭ ‬ينقلونه‭ ‬من‭ ‬قسم‭ ‬الأشعة‭ ‬المقطعية‭ ‬الى‭ ‬قسم‭ ‬أشعة‭ ‬إكس‭.. ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬وهو‭ ‬يتوه‭ ‬أي‭ ‬يغيب‭ ‬عن‭ ‬الوعي‭ ‬ويعود‭.. ‬وبعد‭ ‬تحسن‭ ‬حالته‭ ‬نسبيا‭ ‬تم‭ ‬تسفيره‭ ‬الى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬لاستكمال‭ ‬العلاج‭ ‬وبعد‭ ‬عودته‭ ‬عاتبني‭: ‬عيب‭ ‬يا‭ ‬جعفر‭... ‬جميع‭ ‬أصدقائي‭ ‬زاروني‭ ‬يوم‭ ‬الحادث‭ ‬وبعده‭ ‬وأنت‭ ‬لم‭ ‬تزرني‭ ‬ولا‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭! ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يذكر‭ ‬شيئا‭ ‬مما‭ ‬دار‭ ‬بيننا‭ ‬يوم‭ ‬الحادث‭ ‬ولا‭ ‬الأيام‭ ‬التالية‭.. ‬ألم‭ ‬أقل‭ ‬لكم‭ ‬ان‭ ‬المخ‭ ‬البشري‭ ‬عجيب‭ ‬ومذهل؟

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا