العدد : ١٧٠٧٨ - الأربعاء ٢٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٧٨ - الأربعاء ٢٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

كيف نلنا البراءة من الخرف

بالرغم‭ ‬من‭ ‬أنني‭ ‬عملت‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التلفزيون‭ ‬زهاء‭ ‬ثلاثين‭ ‬سنة،‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬شديد‭ ‬التحفظ‭ ‬حول‭ ‬كثير‭ ‬مما‭ ‬تبثه‭ ‬القنوات‭ ‬التلفزيونية،‭ ‬وظللت‭ ‬وسأظل‭ ‬سيء‭ ‬الظن‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬الفضائيات‭ ‬العربية‭ ‬التجارية،‭ ‬ثم‭ ‬مدّ‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬أيامي‭ ‬وشهدت‭ ‬عصر‭ ‬يوتيوب،‭ ‬فأغناني‭ ‬هذا‭ ‬التطبيق‭ ‬عن‭ ‬متابعة‭ ‬البث‭ ‬التلفزيوني‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الأخبار،‭ ‬ثم‭ ‬لحقت‭ ‬بعصر‭ ‬نيفليكس،‭ ‬فانتقل‭ ‬بي‭ ‬إلى‭ ‬ماض‭ ‬جميل‭ ‬في‭ ‬مجالي‭ ‬السينما‭ ‬والتلفزة‭.‬

وبصفة‭ ‬عامة‭ ‬فإنني‭ ‬أحمد‭ ‬الله‭ ‬بكرة‭ ‬وعشية‭ ‬لأنه‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬أفراد‭ ‬أسرتي‭ ‬الصغيرة‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬الخرف‭ ‬أو‭ ‬أعراضه،‭ ‬بسبب‭ ‬نعمة‭ ‬أنعمها‭ ‬الله‭ ‬علينا،‭ ‬وهي‭ ‬أننا‭ ‬جميعاً‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لنا‭ ‬بالمسلسلات‭ ‬التلفزيونية،‭ ‬لا‭ ‬عربية‭ ‬ولا‭ ‬إفرنجية،‭ ‬وأقول‭ ‬بكل‭ ‬فخر‭ ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬تتردد‭ ‬في‭ ‬بيتنا‭ ‬العبارات‭ ‬السخيفة‭ ‬المحفوظة‭: ‬الجوازة‭ ‬دي‭ ‬مش‭ ‬ممكن‭ ‬تتم‭..  ‬بحبه‭ ‬يا‭ ‬بابا‭..  ‬قطيعة‭ ‬تقطع‭ ‬الرجالة‭ ‬وسنين‭ ‬الرجالة‭..  ‬يللا‭ ‬نروح‭ ‬الأوتيل‭..  ‬بدي‭ ‬أبعد‭ ‬عن‭ ‬جو‭ ‬البيت‭ ‬لأن‭ ‬الماما‭ ‬كتير‭ ‬كتير‭ ‬رجعية‭..  ‬ميرسي‭ ‬كتير‭ ‬لي‭ ‬الله‭.. (‬ترجمتها‭: ‬الشكر‭ ‬لله‭).. ‬جوزي‭ ‬ما‭ ‬بيتعقد‭ ‬لما‭ ‬يشوفني‭ ‬برقص‭ ‬سلو‭ ‬مع‭ ‬حدا‭ ‬غيرو‭ (‬يعني‭ ‬تحمد‭ ‬الله‭ ‬لأن‭ ‬زوجها‭ ‬تيس‭ ‬وهذا‭ ‬حمد‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬موضعه‭.  ‬وهو‭ ‬كأن‭ ‬تقول‭: ‬خطيب‭ ‬بنتي‭ ‬عاطل‭ ‬ولكن‭ ‬الحمد‭ ‬لله‭ ‬أبوه‭ ‬غني‭. ‬مهرب‭ ‬مخدرات‭ ‬كبير‭).‬

نعم،‭ ‬نعمة‭ ‬ألا‭ ‬تسمع‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬الكلام‭ ‬الركيك‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬منه‭ ‬مسلسل‭ ‬تلفزيوني‭ ‬واحد‭. ‬ونعمة‭ ‬أن‭ ‬تحترم‭ ‬عقلك‭ ‬فلا‭ ‬تتابع‭ ‬حكايات‭ ‬مملة‭ ‬ومستنسخة،‭ ‬ونعمة‭ ‬ألا‭ ‬يعرف‭ ‬عيالك‭ ‬مهند‭ ‬ونور‭ ‬وبقية‭ ‬البلطجية‭ ‬الأتراك،‭ ‬وألا‭ ‬تجد‭ ‬في‭ ‬بيتك‭ ‬شاشة‭ ‬تدور‭ ‬فيها‭ ‬مشاجرة‭ ‬بين‭ ‬أم‭ ‬مكسيكية‭ ‬وبنتها‭ ‬لأن‭ ‬الأم‭ ‬دخلت‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬مع‭ ‬بوي‭ ‬فريند‭ ‬بنتها،‭ ‬ولا‭ ‬هنودا‭ ‬يفاجئونك‭ ‬بأن‭ ‬زوجة‭ ‬بطل‭ ‬المسلسل،‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬أمه،‭ ‬وأن‭ ‬بنته‭ ‬هي‭ ‬أخته‭.‬

نشرت‭ ‬الصحف‭ ‬البريطانية‭ ‬قبل‭ ‬أيام‭ ‬نتائج‭ ‬دراسة‭ ‬أجرتها‭ ‬مراكز‭ ‬بحوث‭ ‬طبية‭ ‬وجامعات‭ ‬أثبتت‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يتابعون‭ ‬المسلسلات‭ ‬التلفزيونية‭ ‬بانتظام‭ ‬يكونون‭ ‬أكثر‭ ‬عرضة‭ ‬للخرف‭ ‬والتخريف‭ ‬بما‭ ‬يعادل‭ ‬13‭ ‬ضعفا‭ ‬من‭ ‬غيرهم‭ ‬الذين‭ ‬تقتصر‭ ‬مشاهداتهم‭ ‬التلفزيونية‭ ‬على‭ ‬الأخبار‭ ‬والبرامج‭ ‬العلمية‭ ‬والثقافية‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬البرامج‭ ‬الكلامية‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالدردشة‭ ‬مع‭ ‬الممثلين‭ ‬والمطربين‭ ‬والمشاهير‭ ‬لها‭ ‬نفس‭ ‬التأثير‭ ‬الضار‭ ‬بالدماغ،‭ ‬أي‭ ‬إنها‭ ‬بدورها‭ ‬تزيد‭ ‬احتمالات‭ ‬الخرف‭.‬

لاحظ‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬البحوث‭ ‬تتعلق‭ ‬بمسلسلات‭ (‬متعوب‭ ‬فيها‭)‬،‭ ‬يعني‭ ‬بذل‭ ‬فيها‭ ‬جهد‭ ‬فني‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الحبكة‭ ‬الدرامية‭ ‬وفنيات‭ ‬التصوير،‭ ‬وفي‭ ‬بريطانيا‭ ‬مسلسلات‭ ‬استمرت‭ ‬أربعين‭ ‬أو‭ ‬ثلاثين‭ ‬ونيف‭ ‬سنة‭ ‬مثل‭ ‬كورونيشن‭ ‬ستريت‭ (‬مات‭ ‬ثلاثة‭ ‬أرباع‭ ‬من‭ ‬شاركوا‭ ‬في‭ ‬حلقاته‭ ‬المائة‭ ‬الأولى‭) ‬وكروس‭ ‬رودز‭ ‬وإيست‭ ‬أندرز،‭ ‬وتقابلها‭ ‬مسلسلات‭ ‬أمريكية‭ ‬وأسترالية‭ ‬مثل‭ ‬السوبرانوز‭ ‬ودالاس‭ ‬ونيبرز‭.‬

أعني‭ ‬أنه‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬مسلسلات‭ ‬ينفق‭ ‬منتجها‭ ‬مئات‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬الدولارات‭ ‬تسبب‭ ‬الخرف،‭ ‬فما‭ ‬بالك‭ ‬بمسلسلاتنا‭ ‬التي‭ ‬تكلف‭ ‬مئات‭ ‬الملاليم‭.‬

ومن‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬ادعاء‭ ‬للتواضع‭ ‬فإنني‭ ‬أعتقد‭ ‬أنني‭ ‬ذكي‭ ‬بل‭ ‬عبقري،‭ ‬ففي‭ (‬عصري‭ ‬الجاهلي‭)‬،‭ ‬كنت‭ ‬أتوقف‭ ‬بضع‭ ‬دقائق‭ ‬عند‭ ‬مسلسل‭ ‬تلفزيوني‭ ‬عربي‭ ‬دون‭ ‬الالتفات‭ ‬إلى‭ ‬رقم‭ ‬الحلقة،‭ ‬وكنت‭ ‬بعدها‭ ‬أكتب‭ ‬في‭ ‬ذاكرتي‭ ‬ما‭ ‬فاتني‭ ‬منها‭ ‬من‭ ‬أحداث‭ ‬وما‭ ‬ستنتهي‭ ‬إليه‭ ‬الأحداث‭ ‬بانتهاء‭ ‬المسلسل،‭ ‬وكنت‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الحالات‭ ‬أكتشف‭ ‬أن‭ ‬تقديراتي‭ ‬في‭ ‬منتهى‭ ‬الدقة‭:  ‬سامي‭ ‬سيطلق‭ ‬سالي‭ ‬ومايا‭ ‬ستنتحر،‭ ‬ويونس‭ ‬القفل‭ ‬سيدخل‭ ‬السجن‭.  ‬تماما‭ ‬كما‭ ‬كنت‭ ‬أمتحن‭ ‬عبقريتي‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬أعمل‭ ‬بالصحافة‭ ‬المكتوبة‭ ‬وأعد‭ ‬تقارير‭ ‬عن‭ ‬نتائج‭ ‬القمم‭ ‬العربية‭ ‬قبل‭ ‬انعقادها‭ ‬وصدور‭ ‬قراراتها‭ ‬بنحو‭ ‬أسبوعين‭ ‬ولم‭ ‬تخيب‭ ‬قمة‭ ‬قط‭ ‬ظني‭ ‬فكانت‭ ‬القرارات‭ ‬كما‭ ‬توقعت‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة،‭ ‬بل‭ ‬بلغت‭ ‬بي‭ ‬الثقة‭ ‬بالنفس‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬خلال‭ ‬عملي‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬الورقية‭ ‬أجهز‭ ‬الكلمة‭ ‬الافتتاحية‭ ‬عن‭ ‬نتائج‭ ‬أي‭ ‬قمة‭ ‬عربية،‭ ‬قبل‭ ‬انعقادها‭ ‬بأيام،‭ ‬وأسلمها‭ ‬لرئيس‭ ‬التحرير‭ ‬وأقول‭ ‬له‭: ‬لو‭ ‬اكتشفت‭ ‬أنني‭ ‬أخطأت‭ ‬في‭ ‬الاستنتاج‭ ‬والتحليل‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬‮«‬شبه‭ ‬جملة‮»‬،‭ ‬فلك‭ ‬أن‭ ‬تجعل‭ ‬حياتي‭ ‬‮«‬غمة‮»‬،‭ ‬فكان‭ ‬يقول‭ ‬لي‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬هاذي‭ ‬السوالف‭ ‬أنتم‭ ‬يا‭ ‬سودانيين‭ ‬أصلا‭ ‬تنطقون‭ ‬القمة‭ ‬غمة‭.. ‬ولم‭ ‬يحدث‭ ‬أن‭ ‬‮«‬غمني‮»‬‭ ‬رئيس‭ ‬التحرير‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا