العدد : ١٧٠٧٩ - الخميس ٢٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٧٩ - الخميس ٢٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

متسول على مستوى

بيني‭ ‬وبين‭ ‬مدينة‭ ‬الدمام‭ ‬السعودية‭ ‬ود‭ ‬قديم،‭ ‬مما‭ ‬يجعلها‭ ‬قريبة‭ ‬إلى‭ ‬قلبي،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬مستقري‭ ‬عندما‭ ‬التحقت‭ ‬بشركة‭ ‬أرامكو‭ ‬مترجما‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬بعيدة،‭ ‬وفيها‭ ‬مارست‭ ‬الحبو‭ ‬الصحفي،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬جريدة‭ ‬اليوم‭ ‬هي‭ ‬مسقط‭ ‬رأسي‭ ‬الصحفي،‭ ‬أي‭ ‬انني‭ ‬مارست‭ ‬الكتابة‭ ‬الصحفية‭ ‬الراتبة‭ ‬فيها‭ ‬لأول‭ ‬مرة،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬سعدت‭ ‬بتلقي‭ ‬دعوة‭ ‬من‭ ‬صديق‭ ‬سعودي‭ ‬ميسور‭ ‬الحال‭ ‬جداـ‭ ‬بقضاء‭ ‬أمسية‭ ‬في‭ ‬الشاليه‭ ‬الخاص‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬النخيل‭ ‬التي‭ ‬تتمدد‭ ‬في‭ ‬دلال‭ ‬على‭ ‬شاطئ‭ ‬الخليج،‭ ‬وفي‭ ‬جلسة‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الشاطئ،‭ ‬كان‭ ‬بين‭ ‬الحضور‭ ‬شخص‭ ‬طاعن‭ ‬في‭ ‬السن‭ ‬وحسن‭ ‬الملبس‭ ‬ويعقب‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يقال‭ ‬شعرا‭ ‬أو‭ ‬استشهادا‭ ‬بآية‭ ‬قرآنية‭ ‬أو‭ ‬حديث‭ ‬شريف،‭ ‬وبعد‭ ‬الانتهاء‭ ‬من‭ ‬تناول‭ ‬وجبة‭ ‬العشاء،‭ ‬تسلل‭ ‬ذلك‭ ‬الرجل‭ ‬خارجاً،‭ ‬وانفجر‭ ‬مضيفي‭ ‬ضاحكا‭. ‬ثم‭ ‬أجرى‭ ‬اتصالا‭ ‬هاتفيا‭ ‬قصيرا‭ ‬مع‭ ‬طرف‭ ‬ما،‭ ‬وضحك‭ ‬مجددا‭ ‬وقال‭: ‬الشيخ‭ ‬راح‭ ‬يتعشى‭ ‬مع‭ ‬جماعة‭ ‬الأمن‭ ‬في‭ ‬مدخل‭ ‬القرية‭. ‬ثم‭ ‬شرح‭ ‬كيف‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬الشيخ‭ ‬الوقور‭ ‬مدمن‭ ‬تسول،‭ ‬وعندما‭ ‬عاد‭ ‬صاحبنا‭ ‬همس‭ ‬لي‭ ‬مضيفي‭: ‬اطلب‭ ‬من‭ ‬الشيخ‭ ‬مساعدة‭ ‬مالية‭ ‬ثم‭ ‬انظر‭ ‬رد‭ ‬فعله‭.. ‬فقلت‭: ‬يا‭ ‬شيخ‭ ‬فلان‭ ‬أنا‭ ‬من‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬وقد‭ ‬شتت‭ ‬الحروب‭ ‬أفراد‭ ‬عائلتي‭ ‬فاستقر‭ ‬بعضهم‭ ‬في‭ ‬الصومال‭ ‬وأفغانستان،‭ ‬وجزاك‭ ‬الله‭ ‬خيرا‭ ‬يا‭ ‬شيخ‭ ‬لو‭ ‬أعطيتني‭ ‬بعض‭ ‬المال،‭ ‬و‭.. ‬لم‭ ‬يدعني‭ ‬أكمل،‭ ‬لأنه‭ ‬انفجر‭ ‬باكيا‭. ‬نعم‭ ‬بكى‭ ‬بحرقة‭ ‬وبصوت‭ ‬مسموع،‭ ‬فأحسست‭ ‬بالحرج‭ ‬الشديد‭ ‬لأن‭ ‬كذبتي‭ ‬جعلت‭ ‬الرجل‭ ‬يحزن‭ ‬لحال‭ ‬أهلي،‭ ‬ولكن‭ ‬طبطب‭ ‬مضيفي‭ ‬على‭ ‬كتف‭ ‬الشيخ‭ ‬وسأله‭ ‬عما‭ ‬يبكيه‭ ‬فتحول‭ ‬بكاؤه‭ ‬الى‭ ‬نشيج‭ ‬جعل‭ ‬جسمه‭ ‬كله‭ ‬يهتز‭. ‬وبصوت‭ ‬متهدج‭ ‬قال‭ ‬ما‭ ‬معناه‭: ‬توسمت‭ ‬فيك‭ ‬الخير‭ ‬يا‭ ‬جعفر‭ ‬وحسبت‭ ‬أنه‭ ‬أكيد‭ ‬عندك‭ ‬فلوس‭ ‬وبطلع‭ ‬منك‭ ‬بعطية‭ ‬طيبة‭.. ‬تقوم‭ ‬تشحت‭ ‬مني؟‭ ‬حسبي‭ ‬الله‭ ‬ونعم‭ ‬الوكيل‭. ‬وشرع‭ ‬في‭ ‬البكاء‭ ‬مجددا‭. ‬بكاء‭ ‬حقيقي‭ ‬بدموع‭ ‬وبلاوي‭ ‬تنزل‭ ‬من‭ ‬فتحتي‭ ‬الأنف‭. ‬والله‭ ‬العظيم‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬حصل‭. ‬ثم‭ ‬نهض‭ ‬وتركنا‭ ‬وهو‭ ‬يلعن‭ ‬حظه‭ ‬الأغبر‭ ‬الذي‭ ‬جمعه‭ ‬بجعفر‭. ‬ثم‭ ‬شرح‭ ‬صديقي‭ ‬كيف‭ ‬أنه‭ ‬عندما‭ ‬يذهب‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬الى‭ ‬البنك‭ ‬فإن‭ ‬المدير‭ ‬شخصيا‭ ‬يخرج‭ ‬لاستقباله‭ ‬لأن‭ ‬رصيده‭ ‬يتراوح‭ ‬بين‭ ‬300‭ ‬مليون‭ ‬و400‭ ‬مليون‭ ‬ريال‭. ‬صحت‭: ‬تتكلم‭ ‬جد؟‭ ‬أكد‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬جمع‭ ‬مئات‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬التسول‭ ‬فسألته‭: ‬ما‭ ‬عنده‭ ‬بنت‭ ‬عانس‭ ‬فاتها‭ ‬قطار‭ ‬الزواج؟‭ ‬أجاب‭: ‬وهل‭ ‬تعتقد‭ ‬ان‭ ‬شخصا‭ ‬مثله‭ ‬يفكر‭ ‬قط‭ ‬في‭ ‬الزواج‭ ‬والإنفاق‭ ‬على‭ ‬الزوجة‭ ‬والأطفال‭.‬

كانت‭ ‬بداية‭ ‬العلاقة‭ ‬بينهما‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬صديقي‭ ‬يتجول‭ ‬ذات‭ ‬عام‭ ‬في‭ ‬الحرم‭ ‬المكي‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬مكان‭ ‬يصلي‭ ‬فيه،‭ ‬عندما‭ ‬أتاه‭ ‬‮«‬الشيخ‮»‬‭ ‬وقال‭ ‬له‭: ‬تفضل،‭ ‬أنا‭ ‬حاجز‭ ‬لك‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬الصف‭ ‬الأول،‭ ‬واتضح‭ ‬انه‭ ‬لا‭ ‬يكتفي‭ ‬فقط‭ ‬بالتسول،‭ ‬بل‭ ‬يحجز‭ ‬مكانا‭ ‬في‭ ‬الصف‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬الفروض‭ ‬الخمسة‭ ‬في‭ ‬الحرم‭ ‬ثم‭ ‬يتنازل‭ ‬عنه‭ ‬لمن‭ ‬يعرف‭ ‬أنهم‭ ‬أثرياء‭ ‬ثم‭ ‬يطاردهم‭ ‬طالبا‭ ‬‮«‬البقشيش‮»‬،‭ ‬وبعد‭ ‬منع‭ ‬التسول‭ ‬في‭ ‬الحرم‭ ‬حاول‭ ‬صديقي‭ ‬ذاك‭ ‬كفالته‭ ‬وخصص‭ ‬له‭ ‬سكنا‭ ‬وراتبا‭ ‬معلوما،‭ ‬ولكنه‭ ‬ظل‭ ‬يأتيه‭ ‬ثم‭ ‬‮«‬يزوغ‮»‬‭ ‬بضعة‭ ‬أشهر‭. ‬ثم‭ ‬شنت‭ ‬السلطات‭ ‬في‭ ‬مكة‭ ‬حملة‭ ‬على من‭ ‬يحجزون‭ ‬أماكن‭ ‬للصلاة‭ ‬حول‭ ‬الكعبة‭ ‬ويبيعون‭ ‬المكان‭ ‬الواحد‭ ‬بما‭ ‬يعادل‭ ‬300‭ ‬دولار،‭ ‬فنقل‭ ‬نشاطه‭ ‬خارج‭ ‬مكة‭.‬

من‭ ‬نوادر‭ ‬شيخنا‭ ‬هذا‭ ‬أنه‭ ‬استوقف‭ ‬سيارة‭ ‬مليونير‭ ‬معروف‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬الشرقية‭ ‬في‭ ‬السعودية،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬مع‭ ‬المليونير‭ ‬مال‭ ‬فتناول‭ ‬من‭ ‬سائقه‭ ‬500‭ ‬ريال‭ ‬وأعطاها‭ ‬إياه،‭ ‬وعينك‭ ‬ما‭ ‬تشوف‭ ‬إلا‭ ‬النور‭.. ‬صار‭ ‬الشيخ‭ ‬يصيح‭ ‬بأعلى‭ ‬صوته‭: ‬وش‭ ‬أقول‭ ‬للناس؟‭ ‬فلان‭ ‬بن‭ ‬فلان‭ ‬ما‭ ‬يعطي‭ ‬فقيرا‭ ‬مثلي‭ ‬إلا‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬المبلغ‭ ‬الهزيل‭ ..‬أين‭ ‬أنت‭ ‬من‭ ‬أخيك‭ ‬فلان‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعطي‭ ‬السائل‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬20‭ ‬ألف‭ ‬ريال‮ ‬‭..‬‮ ‬طلب‭ ‬منه‭ ‬المليونير‭ ‬أن‭ ‬يهدأ‭ ‬ويركب‭ ‬معه‭ ‬سيارته‭ ‬واصطحبه‭ ‬إلى‭ ‬متجر‭ ‬واستدان‭ ‬منه‭ ‬20‭ ‬ألف‭ ‬ريال‭ ‬لإسكات‭ ‬المتسول‭ ‬الأرستقراطي‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا