العدد : ١٧٠٨١ - السبت ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٧ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨١ - السبت ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٧ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عملٌ منسيٌّ للطيب صالح (1)

ربطني‭ ‬بالروائي‭ ‬السوداني‭ ‬الطيب‭ ‬صالح‭ ‬ود‭ ‬قوي‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الشخصي،‭ ‬وجالسته‭ ‬طويلا‭ ‬عديد‭ ‬المرات،‭ ‬وذات‭ ‬مرة‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬ما‭ ‬معناه‭ ‬إنه‭ ‬يتعجب‭ ‬لأن‭ ‬روايته‭ ‬موسم‭ ‬الهجرة‭ ‬الى‭ ‬الشمال‭ ‬لاقت‭ ‬من‭ ‬الاستحسان‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تنله‭ ‬رواية‭ ‬بندر‭ ‬شاه،‭ ‬مما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الطيب‭ ‬صالح‭ ‬ان‭ ‬بندر‭ ‬شاه‭ ‬كانت‭ ‬الأقرب‭ ‬الى‭ ‬قلبه،‭ ‬وعاش‭ ‬الطيب‭ ‬معظم‭ ‬سنوات‭ ‬حياته‭ ‬في‭ ‬بريطانيا،‭ ‬فقد‭ ‬غادر‭ ‬وطنه‭ ‬شابا‭ ‬يافعا‭ ‬غض‭ ‬العود،‭ ‬والتحق‭ ‬بإذاعة‭ ‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي‭ ‬العربية،‭ ‬وهناك‭ ‬تفتحت‭ ‬مواهبه‭ ‬بفضل‭ ‬عصامية‭ ‬حملته‭ ‬على‭ ‬النهل‭ ‬من‭ ‬ينابيع‭ ‬المعرفة،‭ ‬فأجاد‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬ووجد‭ ‬فيها‭ ‬جسرا‭ ‬يفضي‭ ‬إلى‭ ‬بحار‭ ‬من‭ ‬الفنون‭ ‬والآداب‭ ‬والعلوم‭ ‬المتلاطمة‭. ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬الطيب‭  ‬باعترافه‭ ‬انغمس‭ ‬في‭ ‬أجواء‭ ‬الثقافة‭ ‬البريطانية،‭ ‬وتعلق‭ ‬بالآداب‭ ‬الإنجليزية‭ ‬وأغرم‭ ‬بشعراء‭ ‬ذلك‭ ‬البلد،‭ ‬وصار‭ ‬–‭ ‬وهو‭ ‬القروي‭ ‬العربيقي،‭ ‬أي‭ ‬العربي‭ ‬–‭ ‬الإفريقي‭ ‬يتذوق‭ ‬الأوبرا‭ ‬والباليه،‭ ‬فإنه‭ ‬ازداد‭ ‬تمسكا‭ ‬بثقافته‭ ‬الإسلامية‭ ‬–‭ ‬العربية،‭ ‬فعندما‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬النقطة‭ ‬التي‭ ‬يكاد‭ ‬فيها‭ ‬الإنسان‭ ‬المهاجر‭ ‬من‭ ‬وطنه‭ ‬أن‭ ‬ينسى‭ ‬لسانه‭ ‬الأصلي،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬صار‭ ‬يرطن‭ ‬باقتدار‭ ‬بلغة‭ ‬بلد‭ ‬المهجر،‭ ‬قرر‭ ‬الطيب‭ ‬صالح‭ ‬أن‭ ‬يتحصن‭ ‬بجذوره‭ ‬فالتفت‭ ‬إلى‭ ‬الآداب‭ ‬والفنون‭ ‬العربية‭ ‬وقرأ‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬أمهات‭ ‬كتب‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي،‭ ‬ومن‭ ‬يقرأ‭ ‬للطيب‭ ‬صالح‭ ‬أو‭ ‬يستمع‭ ‬إليه‭ ‬متحدثا‭ ‬في‭ ‬منبر،‭ ‬يعجب‭ ‬كيف‭ ‬تسنى‭ ‬لشخص‭ ‬عاش‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬في‭ ‬بريطانيا،‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ملما‭ ‬بشتى‭ ‬مكونات‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬ولعل‭ ‬لحبه‭ ‬الشديد‭ ‬لشعر‭ ‬أبي‭ ‬الطيب‭ ‬المتنبي‭ ‬دورا‭ ‬في‭ ‬صقل‭ ‬لسانه‭ ‬وإكسابه‭ ‬فصاحة‭ ‬وجزالة‭ ‬تبدو‭ ‬شديدة‭ ‬الوضوح‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬موسم‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬الشمال‭ ‬التي‭ ‬احتفى‭ ‬فيها‭ ‬الطيب‭ ‬بـ«اللغة‮»‬‭ ‬احتفاء‭ ‬شديدا‭!‬

وكثيرون‭ ‬يحبون‭ ‬الطيب‭ ‬صالح‭ ‬لأنهم‭ ‬قرأوا‭ ‬له‭ ‬أو‭ ‬استمعوا‭ ‬إليه،‭ ‬لكنني‭ ‬أحبه‭ ‬فوق‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬لأنني‭ ‬كما‭ ‬أسلفت‭ ‬عرفته‭ ‬عن‭ ‬قرب،‭ ‬وسعدت‭ ‬بتواضعه‭ ‬ونهلت‭ ‬من‭ ‬ثقافته‭ ‬الموسوعية‭ ‬وبكونه‭ ‬‮«‬ابن‭ ‬بلد‮»‬‭ ‬بسيطا،‭ ‬وصاحب‭ ‬دعابة‭ ‬رفيعة،‭ ‬نهل‭ ‬من‭ ‬الثقافة‭ ‬البريطانية‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يفقد‭ ‬أصالته‭ ‬القروية،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬كان‭ ‬إذا‭ ‬ضحك‭ ‬يرتج‭ ‬جسمه‭ ‬كله،‭ ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬البسطاء‭ ‬الذين‭ ‬يتكلمون‭ ‬ويضحكون‭ ‬ويعطسون‭ ‬بعفوية‭.‬

وإذا‭ ‬لم‭ ‬تقرأ‭ ‬له‭ ‬كتابه‭ ‬عن‭ ‬‮«‬منسي‮»‬‭ ‬فنص‭ ‬عمرك‭ ‬ضاع،‭ ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬العربي‭ ‬يولد‭ ‬ونص‭ ‬عمره‭ ‬ضائع‭ ‬–‭ ‬مجازا‭ ‬–‭ ‬فأنت‭ ‬ميت‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬قد‭ ‬قرأت‭ ‬الكتاب‭ (‬حاول‭ ‬أن‭ ‬تتذكر‭ ‬كم‭ ‬مرة‭ ‬قيل‭ ‬لك‭ ‬إن‭ ‬نصف‭ ‬عمرك‭ ‬ضاع‭ ‬لأنك‭ ‬لم‭ ‬تفعل‭ ‬أو‭ ‬تشهد‭ ‬أمرا،‭ ‬وسيخيل‭ ‬إليك‭ ‬أنك‭ ‬كائن‭ ‬بألف‭ ‬روح‭: ‬ما‭ ‬شفت‭ ‬الفيلم؟‭  ‬نص‭ ‬عمرك‭ ‬ضاع‭!  ‬ما‭ ‬رحت‭ ‬بانكوك؟‭  ‬نص‭ ‬عمرك‭ ‬ضاع‭!  ‬ما‭ ‬أكلت‭ ‬فول‭ ‬في‭ ‬مطعم‭ ‬الحمار‭ ‬الذهبي؟‭  ‬نص‭ ‬عمرك‭ ‬ضاع‭! ‬ما‭ ‬شفت‭ ‬سيارتي‭ ‬الجديدة؟‭ ‬نص‭ ‬عمرك‭ ‬ضاع‭.. ‬هل‭ ‬‮«‬النصف‮»‬‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬غير‭ ‬النصف‭ ‬المعروف‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الحساب؟‭).‬

منسي‭ ‬شخصية‭ ‬حقيقة،‭ ‬مصري‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬بريطانيا‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬خمسينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وكان‭ ‬‮«‬فلتة‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬مسيحيا‭ ‬قبطيا،‭ ‬ومات‭ ‬تاركا‭ ‬وراءه‭ ‬عيالا‭ ‬بعضهم‭ ‬مسلم‭ ‬وبعضهم‭ ‬مسيحي‭! ‬وكان‭ ‬شخصا‭ ‬فهلويا‭ ‬ومستهبلا‭ ‬وفوضويا‭. ‬قرر‭ ‬فجأة‭ ‬اعتناق‭ ‬الإسلام‭ ‬بل‭ ‬وهاجر‭ ‬من‭ ‬بريطانيا‭ ‬إلى‭ ‬أمريكا‭ ‬وأسس‭ ‬إذاعة‭ ‬محلية‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬الإسلام،‭ ‬وكان‭ ‬يحلو‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬للطيب‭ ‬صالح‭ ‬ان‭ ‬العشرات‭ ‬أسلموا‭ ‬على‭ ‬يديه،‭ ‬ثم‭ ‬يسأل‭ ‬الطيب‭: ‬وأنت‭ ‬كم‭ ‬واحد‭ ‬دخلوا‭ ‬الإسلام‭ ‬على‭ ‬إيدك‭ ‬يا‭ ‬صاحبي؟‭ ‬ومع‭ ‬هذا،‭ ‬ولأنه‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يستقر‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬واحد،‭ ‬فات‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يدخل‭ ‬عياله‭ ‬من‭ ‬زوجته‭ ‬الأولى‭ ‬الإسلام‭.‬

كان‭ ‬منسي‭ ‬يتقن‭ ‬الإنجليزية‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أهلها‭ ‬وعمل‭ ‬حمالا‭ ‬ومترجما‭ ‬وممثلا‭ ‬ومدرسا،‭ ‬واستطاع‭ ‬بفهلوته‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬طرفا‭ ‬في‭ ‬مناظرة‭ ‬حول‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬النائب‭ ‬عن‭ ‬حزب‭ ‬العمال‭ ‬البريطاني‭ ‬ريتشارد‭ ‬كروسمان‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يناصر‭ ‬إسرائيل‭ ‬بقوة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬منسي‭ ‬يعرف‭ ‬عن‭ ‬قضية‭ ‬فلسطين‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يعرفه‭ ‬عنها‭ ‬شعبولا،‭ ‬وفي‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬انعقاد‭ ‬الندوة‭ ‬طلب‭ ‬من‭ ‬الطيب‭ ‬صالح‭: ‬بسرعة‭ ‬قول‭ ‬لي‭ ‬شوية‭ ‬حاجات‭ ‬عن‭ ‬فلسطين‭.. ‬هو‭ ‬أصل‭ ‬الحكاية‭ ‬إيه؟‭ ‬وعد‭ ‬بلفور‭ ‬والحاجات‭ ‬دي‭.. ‬وزوده‭ ‬الطيب‭ ‬بطراطيش‭ ‬كلام‭ ‬عن‭ ‬جذور‭ ‬المسألة،‭ ‬ووقف‭ ‬منسي‭ ‬على‭ ‬المنصة،‭ ‬ومسح‭ ‬بكروسمان‭ ‬الأرض‭ ‬وحاز‭ ‬إعجاب‭ ‬الحضور‭.‬

ابحثوا‭ ‬عن‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬منسي‭ ‬شخص‭ ‬نادر‭ ‬على‭ ‬طريقته‮»‬‭ ‬واستمتعوا‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا