العدد : ١٧٠٨١ - السبت ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٧ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨١ - السبت ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٧ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

لأرامكو في عنقي دين

سبق‭ ‬لي‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬تجربتي‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬لدى‭ ‬شركة‭ ‬النفط‭ ‬العملاقة‭ ‬أرامكو‭ ‬مترجما،‭ ‬وسأكتب‭ ‬عنها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬العمر‭ ‬بقية،‭ ‬لأنني‭ ‬مدين‭ ‬لتلك‭ ‬الشركة‭ ‬مهنيا،‭ ‬ويكفي‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬وجود‭ ‬اسمها‭ ‬في‭ ‬سيرتي‭ ‬الذاتية‭ ‬فتح‭ ‬أمامي‭ ‬مغاليق‭ ‬عمل‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬مواقع‭ ‬مختلفة،‭ ‬وكانت‭ ‬تجربة‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬أرامكو‭ ‬التي‭ ‬خضتها‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬صعبة‭ ‬في‭ ‬بداياتها،‭ ‬فلأول‭ ‬مرة‭ ‬وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬أعمل‭ ‬وأكتب‭ ‬حتى‭ ‬تصاب‭ ‬أصابعي‭ ‬بالألم‭ ‬والله‭ ‬العظيم،‭ ‬كنت‭ ‬أحياناً‭ ‬أجلس‭ ‬وأترجم‭ ‬حتى‭ ‬تتيبس‭ ‬مفاصل‭ ‬أصابعي،‭ ‬فأطقطقها،‭ ‬وأقوم‭ ‬بعملية‭ ‬مساج‭ ‬لها‭ ‬حتى‭ ‬يسري‭ ‬الدم‭ ‬فيها،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬وقتها‭ ‬كمبيوتر،‭ ‬فكنا‭ ‬نكتب‭ ‬بأقلام‭ ‬الرصاص،‭ ‬حتى‭ ‬يتسنى‭ ‬لنا‭ ‬محو‭ ‬المفردات‭ ‬والعبارات‭ ‬الخطأ‭ ‬بالممحاة‭ ‬المطاطية،‭ ‬ويحمل‭ ‬عامل‭ ‬ما‭ ‬نكتب‭ ‬إلى‭ ‬قسم‭ ‬الطباعة‭ ‬ثم‭ ‬يعود‭ ‬به‭ ‬لندققه‭ ‬ونراجعه‭ ‬ونصحح‭ ‬ما‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬أخطاء،‭ ‬ويقوم‭ ‬من‭ ‬يتولى‭ ‬الطباعة‭ ‬بمسح‭ ‬الكلمة‭ ‬الخطأ‭ ‬بمادة‭ ‬بيضاء‭ ‬ثم‭ ‬يعيد‭ ‬الطباعة‭ ‬فوق‭ ‬الخط‭ ‬الأبيض،‭ ‬وبنهاية‭ ‬اليوم‭ ‬كنت‭ ‬أحس‭ ‬بأن‭ ‬كل‭ ‬ريال‭ ‬يدخل‭ ‬جيبي‭ ‬من‭ ‬الشركة‭ ‬حلال‭ ‬100‭ ‬بالمائة،‭ ‬فليس‭ ‬في‭ ‬الشركة‭ ‬مجال‭ ‬للاستهبال‭ ‬والبلطجة،‭ ‬وفي‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬فإنك‭ ‬تكافأ‭ ‬على‭ ‬حسن‭ ‬الأداء،‭ ‬وربما‭ ‬كانت‭ ‬أرامكو‭ ‬وقتها‭ ‬الجهة‭ ‬الوحيدة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تطبق‭ ‬نظام‭ ‬العطلة‭ ‬الأسبوعية‭ ‬المؤلفة‭ ‬من‭ ‬يومين‭.‬

وأرامكو‭ ‬اليوم‭ ‬غير‭ ‬أرامكو‭ ‬التي‭ ‬عرفتها‭ ‬قبل‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬ولكن‭ ‬بمعنى‭ ‬أنها‭ ‬صارت‭ ‬أفضل‭ ‬حالاً،‭ ‬وأجزم‭ ‬بأنها‭ ‬الجهة‭ ‬الوحيدة‭ ‬في‭ ‬السعودية‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬تتعامل‭ ‬مع‭ ‬سعودة‭ ‬الوظائف‭ ‬بمسؤولية‭ ‬وصدق،‭ ‬وياما‭ ‬التحق‭ ‬بها‭ ‬شبان‭ ‬يافعون‭ ‬قليلو‭ ‬الزاد‭ ‬من‭ ‬المهارات‭ ‬والعلم،‭ ‬فعلمتهم‭ ‬ودربتهم‭ ‬فصعدوا‭ ‬السلالم‭ ‬الوظيفية‭ ‬بعرق‭ ‬الجبين‭ ‬وليس‭ ‬لأنهم‭ ‬عيال‭ ‬فلان‭ ‬أو‭ ‬علان،‭ ‬فسياسة‭ ‬التوظيف‭ ‬فيها‭ ‬لا‭ ‬تسمح‭ ‬بالمجاملات،‭ ‬وتجد‭ ‬اليوم‭ ‬آلاف‭ ‬السعوديين‭ ‬في‭ ‬مراقي‭ ‬الشركة‭ ‬العليا،‭ ‬وقد‭ ‬يحسدهم‭ ‬كثيرون‭ ‬على‭ ‬الامتيازات‭ ‬التي‭ ‬يتمتعون‭ ‬بها‭ ‬ولكنهم‭ ‬نالوها‭ ‬عن‭ ‬جدارة‭ ‬واستحقاق؛‭ ‬فمعظم‭ ‬كبار‭ ‬المديرين‭ ‬فيها،‭ ‬بمن‭ ‬فيهم‭ ‬من‭ ‬شغل‭ ‬أعلى‭ ‬المناصب‭ ‬فيها،‭ ‬بدأوا‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬السلم،‭ ‬وكان‭ ‬لهم‭ ‬حظهم‭ ‬من‭ ‬التقريع‭ ‬ولفت‭ ‬النظر‭ ‬والثناء‭ ‬والترقية‭ ‬والحرمان‭ ‬من‭ ‬العلاوة‭ ‬والحافز‭ ‬التشجيعي،‭ ‬ولهذا‭ ‬تجد‭ ‬في‭ ‬أرامكو‭ ‬ولاء‭ ‬عجيباً‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬موظفيها‭ ‬القدماء‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬صارت‭ ‬الشركة‭ ‬‮«‬قبيلتهم‮»‬‭ ‬التي‭ ‬يتفاخرون‭ ‬بالانتماء‭ ‬إليها‭.‬

وبحكم‭ ‬العيش‭ ‬طويلا‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬أعرف‭ ‬كيف‭ ‬تتحايل‭ ‬جهات‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬توطين‭ ‬العمالة،‭ ‬فتقوم‭ ‬بعمليات‭ ‬توظيف‭ ‬دفترية‭ ‬لأهل‭ ‬البلد،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنها‭ ‬عندما‭ ‬تكون‭ ‬مطالبة‭ ‬بتوطين‭ ‬نسبة‭ ‬معينة‭ ‬من‭ ‬وظائفها‭ ‬فإنها‭ ‬تعمد‭ ‬الى‭ ‬الاستهبال‭ ‬فتعين‭ ‬جيشا‭ ‬من‭ ‬المواطنين‭ ‬في‭ ‬وظائف‭ ‬هامشية،‭ ‬بحيث‭ ‬تؤكد‭ ‬دفاترها‭ ‬وجود‭ ‬النسبة‭ ‬المطلوبة‭ ‬من‭ ‬العمالة‭ ‬المحلية،‭ ‬بينما‭ ‬أرامكو‭ ‬تأتي‭ ‬بشباب‭ ‬بلا‭ ‬خبرة‭ ‬وتلحقهم‭ ‬بمعاهدها‭ ‬وتؤهلهم‭ ‬لشغل‭ ‬وظائف‭ ‬محددة‭ ‬بحسب‭ ‬قدراتهم‭ ‬وتطورهم‭ ‬المهني‭ ‬والأكاديمي‭.‬

ومشكلة‭ ‬معظم‭ ‬من‭ ‬يتحدثون‭ ‬عن‭ ‬أرامكو‭ ‬هي‭ ‬أنهم‭ ‬يحسبونها‭ ‬شركة‭ ‬‮«‬وبس‮»‬‭.. ‬لا،‭ ‬لن‭ ‬أتكلم‭ ‬عن‭ ‬حجم‭ ‬نشاطها‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬النفط‭ ‬والغاز‭.. ‬أرامكو‭ ‬كيان‭ ‬ضخم،‭ ‬به‭ ‬خدمات‭ ‬بلدية‭ (‬طرق‭ ‬وبساتين‭ ‬وحدائق‭ ‬ومواصلات‭ ‬ومرافق‭ ‬عامة‭ ‬ومكتبات‭) ‬وصحية‭ ‬وبيئية‭ ‬وترفيهية‭ ‬وتعليمية‭ ‬وطبية‭ ‬وخيرية‭.. ‬تعداد‭ ‬الخلق‭ ‬الذين‭ ‬تعنى‭ ‬أرامكو‭ ‬بشؤونهم‭ ‬يفوق‭ ‬تعداد‭ ‬سكان‭ ‬نحو‭ ‬عشر‭ ‬دول‭ ‬في‭ ‬العالم‭.. ‬مدن‭ ‬أرامكو‭ ‬من‭ ‬أنظف‭ ‬مدن‭ ‬العالم‭ ‬ومدارسها‭ ‬من‭ ‬أفضل‭ ‬مدارس‭ ‬العالم،‭ ‬وبها‭ ‬خدمات‭ ‬طبية‭ ‬لا‭ ‬يحلم‭ ‬بها‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية،‭ ‬وعلى‭ ‬الموظف‭ ‬في‭ ‬أرامكو‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬بالعمل‭ ‬الموكل‭ ‬إليه‭ ‬فقط‭ ‬و«لا‭ ‬يحمل‭ ‬هم‮»‬‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬آخر،‭ ‬فهناك‭ ‬الكهربائيون‭ ‬والسباكون‭ ‬ورجال‭ ‬الإسعاف‭ ‬والسائقون‭ ‬وغيرهم‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬شغل‭ ‬لهم‭ ‬سوى‭ ‬حل‭ ‬المشكلات‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬الموظفين‭ ‬والعمال‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬الساعة‭.. ‬ولعل‭ ‬الكثيرين‭ ‬سيعجبون‭ ‬إذا‭ ‬قلت‭ ‬لهم‭ ‬إنني‭ ‬قرأت‭ ‬أمهات‭ ‬كتب‭ ‬الأدب‭ ‬والتراث‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬أرامكو‭ ‬بل‭ ‬وجدت‭ ‬فيها‭ ‬كتباً‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬السودان‭ ‬لم‭ ‬أجدها‭ ‬في‭ ‬أعرق‭ ‬جامعات‭ ‬السودان‭.. ‬هناك‭ ‬قرأت‭ ‬جميع‭ ‬مجلدات‭ ‬الأغاني‭ ‬للأصفهاني‭ ‬والعقد‭ ‬الفريد‭ ‬لابن‭ ‬عبد‭ ‬ربه‭ ‬وبداية‭ ‬المجتهد‭ ‬ونهاية‭ ‬المقتصد‭ ‬ومقامات‭ ‬الحريري‭ ‬وديوان‭ ‬المتنبي‭.. ‬وأعتقد‭ ‬أنه‭ ‬لو‭ ‬قامت‭ ‬كل‭ ‬دولة‭ ‬عربية‭ ‬بإيفاد‭ ‬طواقمها‭ ‬العليا‭ ‬من‭ ‬وزراء‭ ‬ومديرين‭ ‬إلى‭ ‬أرامكو‭ ‬في‭ ‬دورات‭ ‬تدريبية‭ ‬مدة‭ ‬سنة‭ ‬واحدة‭ ‬فستنتقل‭ ‬تلك‭ ‬الدول‭ ‬من‭ ‬العصر‭ ‬الحجري‭ ‬إلى‭ ‬بدايات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬لتواصل‭ ‬مسيرتها‭ ‬من‭ ‬هناك‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬مدروس‭ ‬وعلمي‭ ‬ومنهجي‭. ‬أرفع‭ ‬عمامتي‭ ‬احتراماً‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬تشييد‭ ‬هذا‭ ‬الصرح‭ ‬الشامخ‭ ‬المشرّف‭ ‬الباسق‭. ‬وهذه‭ ‬محاولة‭ ‬مني‭ ‬لرد‭ ‬الجميل‭ ‬إليها‭ ‬بالكلمة‭ ‬الطيبة‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا