العدد : ١٧٠٨١ - السبت ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٧ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨١ - السبت ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٧ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

أعطوا العيال حق تقرير المصير

في‭ ‬معظم‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬ينتهي‭ ‬العام‭ ‬الدراسي‭ ‬في‭ ‬المراحل‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الجامعية‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬يونيو،‭ ‬ولهذا‭ ‬فهذا‭ ‬الشهر‭ ‬ثقيل‭ ‬على‭ ‬نفوس‭ ‬ملايين‭ ‬الطلاب،‭ ‬لأنه‭ ‬موسم‭ ‬امتحانات‭ ‬نهاية‭ ‬العام‭ ‬الدراسي،‭ ‬ولكن‭ ‬نصفه‭ ‬الثاني‭ ‬مبهج‭ ‬لبعض‭ ‬أولئك‭ ‬الملايين‭ ‬لأنه‭ ‬بداية‭ ‬إجازة‭ ‬صيفية‭ ‬طويلة،‭ ‬بينما‭ ‬تعيش‭ ‬بعض‭ ‬شرائح‭ ‬الطلاب‭ ‬في‭ ‬أجواء‭ ‬من‭ ‬التوتر‭ ‬الشديد‭ ‬خلال‭ ‬الجزء‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الشهر،‭ ‬لأنهم‭ ‬يكونون‭ ‬بانتظار‭ ‬نتائج‭ ‬امتحانات‭ ‬حاسمة،‭ ‬تقرر‭ ‬مستقبلهم‭ ‬الأكاديمي‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬المهني،‭ ‬ولولا‭ ‬أن‭ ‬العرب‭ ‬مصابون‭ ‬بضعف‭ ‬الذاكرة‭ ‬الإرادي،‭ ‬لأصيبوا‭ ‬عند‭ ‬مقدم‭ ‬كل‭ ‬شهر‭ ‬يوني‭/ ‬حزيران‭ ‬باكتئاب‭ ‬وبائي،‭ ‬لأنه‭ ‬الشهر‭ ‬الذي‭ ‬هزمت‭ ‬فيه‭ ‬إسرائيل‭ ‬ثلاثة‭ ‬جيوش‭ ‬عربية‭ ‬واحتلت‭ ‬سيناء‭ ‬وغزة‭ ‬والضفة‭ ‬الغربية‭ ‬والجولان،‭ ‬ثم‭ ‬أسموا‭ ‬الهزيمة‭ ‬نكسة،‭ ‬بمعنى‭ ‬كبوة‭ ‬عابرة‭ ‬يستأنف‭ ‬الفارس‭ ‬بعدها‭ ‬‮«‬السباق‮»‬‭.‬

وكتبت‭ ‬كثيرا،‭ ‬وسأظل‭ ‬أكتب‭ ‬عن‭ ‬كرهي‭ ‬للامتحانات،‭ ‬لأنها‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬القسر‭ ‬والقهر،‭ ‬وتشكل‭ ‬من‭ ‬ثم‭ ‬ضغطاً‭ ‬شديداً‭ ‬على‭ ‬أعصاب‭ ‬أولادنا‭ ‬وبناتنا‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬أنظمة‭ ‬تعليمية‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬الحشو،‭ ‬وليس‭ ‬فيها‭ ‬أي‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬الديمقراطية‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بحرية‭ ‬الاختيار،‭ ‬ففي‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬تحديدا،‭ ‬فأنت‭ ‬إما‭ (‬أدبي‭) ‬وإما‭ (‬علمي‭). ‬هب‭ ‬أنني‭ ‬فعلا‭ ‬أدبي‭ ‬الميول،‭ ‬ولكنني‭ ‬لا‭ ‬أحب‭ ‬مادة‭ ‬التاريخ‭. ‬حسب‭ ‬النظم‭ ‬القائمة‭ ‬سيقولون‭ ‬لي‭: ‬ستدرس‭ ‬التاريخ‭ ‬رغم‭ ‬أنفك‭ ‬وأنوف‭ (‬من‭ ‬خلَّفوك‭) ‬طالما‭ ‬أنك‭ ‬في‭ ‬المساق‭ ‬الأدبي،‭ ‬وقد‭ ‬أكون‭ ‬بارعا‭ ‬في‭ ‬الرياضيات‭ ‬والفيزياء،‭ ‬ولكنني‭ ‬لا‭ ‬أحب‭ ‬علم‭ ‬الأحياء،‭ ‬وهنا‭ ‬أيضاً‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬حق‭ ‬رفض‭ ‬هذه‭ ‬المادة،‭ ‬فالمقررات‭ ‬مقسومة‭ ‬إلى‭ ‬فئتين،‭ ‬وعليك‭ ‬اختيار‭ ‬جميع‭ ‬مواد‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬الفئتين‭ ‬ورجلك‭ ‬فوق‭ ‬رقبتك‭.‬

هذا‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالمدرسة‭.. ‬أما‭ ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬فإن‭ ‬90‭ ‬بالمائة‭ ‬من‭ ‬العائلات‭ ‬تلوي‭ ‬أيدي‭ ‬العيال‭ ‬ليلتحقوا‭ ‬بالمساق‭ ‬العلمي‭ ‬لأنه‭ ‬وحده‭ ‬الذي‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬دراسة‭ ‬الهندسة‭ ‬والطب،‭ ‬واسمحوا‭ ‬لي‭ ‬بممارسة‭ ‬دور‭ (‬الأستاذ‭) ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الخيارات‭ ‬الأكاديمية،‭ ‬وأن‭ ‬أخاطب‭ ‬أولياء‭ ‬أمور‭ ‬الطلاب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن،‭ ‬ويؤهلني‭ ‬لذلك‭ ‬الدور‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬يوما‭ ‬ما‭ ‬طالباً‭ ‬ثم‭ ‬صرت‭ ‬مدرساً‭ ‬بالمرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬ثم‭ ‬نلت‭ ‬ترقية‭ ‬وصرت‭ (‬أباً‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬الآباء‭ ‬الذين‭ ‬يعتقدون‭ ‬أن‭ ‬أهم‭ ‬خدمة‭ ‬يسديها‭ ‬الوالدان‭ ‬لعيالهما‭ ‬هي‭ ‬منحهم‭ ‬أفضل‭ ‬الفرص‭ ‬التعليمية‭.‬

وكتبت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬عن‭ ‬كيف‭ ‬إنني‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬يلتحق‭ ‬احد‭ ‬عيالي‭ ‬بالمرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬أبدأ‭ ‬مناقشته‭ ‬عن‭ ‬مسيرته‭ ‬الأكاديمية‭ ‬المستقبلية‭: ‬ما‭ ‬المواد‭ ‬التي‭ ‬ترغب‭ ‬في‭ ‬دراستها‭ ‬وتحسب‭ ‬أنك‭ ‬تستطيع‭ ‬ان‭ ‬تتفوق‭ ‬فيها‭ ‬نسبيا‭.. ‬ويستمر‭ ‬النقاش‭ ‬قرابة‭ ‬سنتين‭ ‬إلى‭ ‬ان‭ ‬يستطيع‭ ‬تحديد‭ ‬نوع‭ ‬الدراسة‭ ‬الجامعية‭ ‬التي‭ ‬يرغب‭ ‬فيها‭.. ‬وكانت‭ ‬كبرى‭ ‬بناتي‭ ‬متفوقة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مراحلها‭ ‬الدراسية‭ ‬وحصلت‭ ‬على‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الجوائز‭ ‬والدروع‭ (‬طبعا‭ ‬طالعة‭ ‬لأبيها‭!!)‬،‭ ‬وعندما‭ ‬قررت‭ ‬دراسة‭ ‬اللغة‭ ‬الانجليزية‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬ذهل‭ ‬أقرباؤنا‭ ‬وأصدقاؤنا‭: ‬حرام‭.. ‬البنت‭ ‬شاطرة‭ ‬وتقدر‭ ‬تدخل‭ ‬أي‭ ‬كلية‭ ‬علمية‭/‬عملية‭! ‬قلت‭ ‬لهم‭ ‬إنها‭ ‬تريد‭ ‬دراسة‭ ‬الانجليزية‭ ‬والقرار‭ ‬لها‭. ‬مصمصوا‭ ‬شفاههم‭ ‬سخرية‭ ‬أو‭ ‬شفقة‭ ‬على‭ ‬المسكين‭ ‬الذي‭ ‬ترك‭ ‬بنته‭ ‬تدرس‭ ‬مادة‭ ‬لا‭ ‬تؤهلها‭ ‬لأي‭ ‬وظيفة‭ ‬محترمة،‭ ‬هذه‭ ‬البنت‭ ‬نالت‭ ‬دبلوما‭ ‬عالياً‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬الفرنسية‭ ‬والماجستير‭ ‬في‭ ‬فقه‭ ‬اللغة‭ ‬التطبيقي‭ ‬في‭ ‬الانجليزية‭ ‬ثم‭ ‬صارت‭ ‬مدرسة‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬وعمرها‭ ‬23‭ ‬سنة‭ (‬قولوا‭ ‬ما‭ ‬شاء‭ ‬الله‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬حصلت‭ ‬على‭ ‬الدكتوراه‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬بريطانية،‭ ‬وليس‭ ‬قصدي‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬التباهي‭ ‬بتفوق‭ ‬ابنتي،‭ ‬بل‭ ‬تقديم‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أترك‭ ‬الطالب‭ ‬يختار‭ ‬ما‭ ‬يريده‭ ‬من‭ ‬موادّ‭ ‬تكفل‭ ‬له‭ ‬التفوق‭ ‬الأكاديمي‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬الوظيفي‭.‬

عندما‭ ‬أحرزت‭ ‬في‭ ‬الشهادة‭ ‬الثانوية‭ ‬درجات‭ ‬طيبة،‭ ‬أجبرني‭ ‬أحد‭ ‬أقاربي‭ ‬وكان‭ ‬أستاذاً‭ ‬جامعيا‭ ‬في‭ ‬القانون،‭ ‬على‭ ‬دخول‭ ‬كلية‭ ‬القانون،‭ ‬ومكثت‭ ‬بتلك‭ ‬الكلية‭ ‬ثلاثة‭ ‬أشهر‭ ‬حسبتها‭ ‬ثلاثة‭ ‬قرون،‭ ‬وهربت‭ ‬منها‭ ‬وطلبت‭ ‬اللجوء‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬ولكن‭ ‬كان‭ ‬عليّ‭ ‬أن‭ ‬ألتحق‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬الدراسي‭ ‬التالي‭ ‬وبذلك‭ ‬تأخرت‭ ‬مسيرتي‭ ‬التعليمية‭ ‬سنة‭ ‬كاملة،‭ ‬ولكنني‭ ‬لم‭ ‬أندم‭ ‬قط‭ ‬على‭ ‬التحاقي‭ ‬بكلية‭ ‬الآداب‭ ‬التي‭ ‬قضيت‭ ‬بها‭ ‬أخصب‭ ‬سنوات‭ ‬عمري‭.‬

من‭ ‬سيدرس‭ ‬ويتعب‭ ‬هو‭ ‬ولدك‭ ‬أو‭ ‬ابنتك‭ ‬فاترك‭ ‬له‭/‬لها‭ ‬حق‭ ‬تقرير‭ ‬المصير‭ ‬والمسير‭ ‬والمسار‭ ‬الأكاديمي‭.. ‬ولو‭ ‬تحقق‭ ‬حلم‭ ‬جميع‭ ‬أولياء‭ ‬الأمور‭ ‬بجعل‭ ‬عيالهم‭ ‬أطباء‭ ‬ومهندسين‭ ‬لكان‭ ‬جميع‭ ‬الحمالين‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭ ‬الشعبية‭ ‬وغاسلي‭ ‬السيارات‭ ‬من‭ ‬حاملي‭ ‬بكالوريوس‭ ‬الطب‭ ‬والهندسة‭..‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا