العدد : ١٧٠٨١ - السبت ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٧ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨١ - السبت ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٧ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

أبو شلاخ البرمائي (1)

تواصلت‭ ‬معي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬قارئة‭ ‬لمست‭ ‬فيها‭ ‬سعة‭ ‬الاطلاع،‭ ‬وسداد‭ ‬الرأي‭ ‬ودقة‭ ‬وصحة‭ ‬العبارة،‭ ‬وسألتني‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬الأدبيات‭ ‬الساخرة‭ ‬فاقترحت‭ ‬عليها‭ ‬رواية‭ ‬له‭ ‬أصدرها‭ ‬الحبيب‭ ‬الراحل‭ ‬د‭. ‬غازي‭ ‬القصيبي،‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬هي‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬شلاخ‭ ‬البرمائي‮»‬،‭ ‬وعنّ‭ ‬لي‭ ‬ان‭ ‬اتطرق‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الرواية،‭ ‬والشلاخ‭ ‬هو‭ ‬الكذاب‭ ‬المحترف‭ ‬وكذبه‭ ‬مصحوب‭ ‬بنفخات‭ ‬كاذبة‭ ‬‮«‬فعلت‭ ‬وسويت‭ ‬وتعشيت‭ ‬ويا‭ ‬الوزير‭ ‬وقلت‭ ‬له‭ ‬بصراحة‭ ‬كيت‭ ‬وكيت‮»‬،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬حلم‭ ‬الشلاخ‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬مصادقة‭ ‬سائق‭ ‬عربة‭ ‬أي‭ ‬وزير،‭ ‬وعلى‭ ‬غلاف‭ ‬الكتاب‭ ‬شخص‭ ‬أنيق‭ ‬الملبس‭ ‬يجلس‭ ‬على‭ ‬كرسي‭ ‬فخم،‭ ‬ولكن‭ ‬الشخص‭ ‬بدون‭ ‬رأس‭ (‬وهنا‭ ‬رمزية‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬تقريرية‭ ‬وعندما‭ ‬نقول‭ ‬في‭ ‬العامية‭ ‬إن‭ ‬شخصا‭ ‬بدون‭ ‬رأس‭ ‬فإننا‭ ‬نقصد‭ ‬أنه‭ ‬يفتقر‭ ‬إلى‭ ‬المخ‭/‬العقل‭).‬

ورغم‭ ‬أن‭ ‬القصيبي‭ ‬وصف‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬شلاخ‭ ‬البرمائي‮»‬‭ ‬بأنها‭ ‬رواية،‭ ‬فإن‭ ‬القصيبي‭ ‬استطاع‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬رأيه‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والعلمية،‭ ‬مستترا‭ ‬وراء‭ ‬المجني‭ ‬عليه‭ ‬أبي‭ ‬شلاخ‭ ‬الذي‭ ‬مارس‭ ‬القصيبي‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬الشلخ،‭ ‬وهو‭ ‬الكذب‭ ‬الجسيم‭ ‬والمبالغة،‭ ‬تفادياً‭ ‬للمباشرة‭ ‬والتقريرية‭ ‬الفجة‭. ‬

يبدأ‭ ‬القصيبي‭ ‬روايته‭ ‬بكذبة‭ ‬بلقاء‭ ‬عن‭ ‬مولد‭ ‬أبي‭ ‬شلاخ‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬سحبته‭ ‬القابلة‭/‬الداية‭ ‬من‭ ‬يده،‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬رأسه،‭ ‬ولم‭ ‬يحدد‭ ‬القصيبي‭ ‬سنة‭ ‬الميلاد،‭ ‬لأن‭ ‬التلاعب‭ ‬بالتاريخ‭ ‬والجغرافيا‭ ‬وقوانين‭ ‬الطبيعة‭ ‬هو‭ ‬جوهر‭ ‬التشليخ‭ ‬القصيبي،‭ ‬فالمؤلف‭ ‬سافر‭ ‬بأبي‭ ‬شلاخ‭ ‬إلى‭ ‬الماضي‭ ‬ثم‭ ‬عاد‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬المستقبل،‭ ‬مستخدماً‭ ‬أدوات‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬قد‭ ‬اختُرعت،‭ ‬ليلتقي‭ ‬بهتلر‭ ‬والرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬الأسبق‭ ‬جونسون‭ ‬وغيرهما،‭ ‬ويلعن‭ ‬أبو‭ ‬شلاخ‭ ‬سنسفيلنا‭ ‬بلا‭ ‬هوادة‭ ‬ولكن‭ ‬بغير‭ ‬إقذاع،‭ ‬ذلك‭ ‬ان‭ ‬القصيبي‭ ‬ساخر‭ ‬مطبوع‭ ‬تحدثا‭ ‬ونثرا‭ ‬وشعرا،‭ ‬ولم‭ ‬تفلح‭ ‬قيود‭ ‬المناصب‭ ‬الوزارية‭ ‬في‭ ‬لجم‭ ‬لسانه،‭ ‬ولعل‭ ‬أقذع‭ ‬النقد‭ ‬الاجتماعي‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬بذله‭ ‬عبر‭ ‬وقائع‭ ‬سريالية،‭ ‬عن‭ ‬مسألة‭ ‬العمالة‭ ‬الوافدة‭ ‬ونظام‭ ‬الكفيل‭ ‬والخادمات‭ ‬الآسيويات‭ ‬والعصبية‭ ‬القبلية‭ ‬والأسرية‭.‬

ومن‭ ‬أجمل‭ ‬إشراقات‭ ‬أبي‭ ‬شلاخ‭ ‬أنه‭ ‬استغل‭ ‬ولع‭ ‬الناس‭ ‬بالأصل‭ ‬والفصل،‭ ‬وأقام‭ ‬شركة‭ ‬لإعداد‭ ‬وتسويق‭ ‬أشجار‭ ‬الأنساب،‭ ‬وقد‭ ‬أعجبتني‭ ‬الفكرة،‭ ‬لأن‭ ‬بعض‭ ‬أهل‭ ‬السودان‭ ‬يعايرونني‭ ‬وأهلي‭ ‬النوبيين‭ ‬بعدم‭ ‬الانتماء‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬أشراف‮»‬‭ ‬العرب،‭ ‬وبما‭ ‬أنني‭ ‬جعفر‭ ‬بن‭ ‬عباس‭ ‬بن‭ ‬السيد‭ ‬بن‭ ‬أحمد‭ ‬وأخواتي‭ ‬يحملن‭ ‬اسماء‭ ‬ذات‭ ‬دلالات‭ ‬تاريخية‭ ‬وشقيقي‭ ‬الأكبر‭ ‬زين‭ ‬العابدين،‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬يؤهلني‭ ‬لإنتاج‭ ‬شجرة‭ ‬عائلة،‭ ‬تمتد‭ ‬عروقها‭ ‬في‭ ‬تربة‭ ‬الحجاز‭ (‬بس‭ ‬اللون‭ ‬مشكلة‭!)‬

وأعتقد‭ ‬ان‭ ‬القيمة‭ ‬الكبرى‭ ‬لـ«أبو‭ ‬شلاخ‭ ‬البرمائي‮»‬‭ ‬هي‭ ‬كونه‭ ‬أول‭ ‬عمل‭ ‬أدبي‭ ‬ساخر‭ ‬بالكامل‭ ‬في‭ ‬قالب‭ ‬روائي‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ (‬لا‭ ‬مجال‭ ‬للمقارنة‭ ‬بمؤلفات‭ ‬الجاحظ‭ ‬لأنها‭ ‬رصد‭ ‬سردي‭ ‬في‭ ‬معظمها،‭ ‬لأحوال‭ ‬عصره‭ ‬وناس‭ ‬وبهائم‭ ‬ذلك‭ ‬العصر،‭ ‬ولا‭ ‬بأعمال‭ ‬القصيبي‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تقوم‭ ‬كليا‭ ‬على‭ ‬السخرية‭)‬،‭ ‬وقد‭ ‬نجح‭ ‬القصيبي‭ ‬في‭ ‬إضفاء‭ ‬الترابط‭ ‬على‭ ‬تشليخاته‭ ‬التي‭ ‬رمى‭ ‬بها‭ ‬يعقوب‭ ‬أبو‭ ‬شلاخ‭ ‬وانسل،‭ ‬بأن‭ ‬جعل‭ ‬هناك‭ ‬خيطاً‭ ‬رفيعاً‭ ‬كخيط‭ ‬المسبحة،‭ ‬يشد‭ ‬الوقائع‭ ‬إلى‭ ‬بعضها،‭ ‬فهناك‭ ‬‮«‬وديعة‭ ‬روزفلت‮»‬‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬الأسبق‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يستعين‭ ‬بأبي‭ ‬شلاخ‭ ‬في‭ ‬الملمات،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬أوصى‭ ‬خلفاءه‭ ‬به‭ ‬خيرا،‭ ‬وهكذا‭ ‬أصبح‭ ‬في‭ ‬مقدور‭ ‬أبي‭ ‬شلاخ‭ ‬ان‭ ‬يزور‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬العهود،‭ ‬ناصحا‭ ‬ومحللا‭ ‬وناقدا،‭ ‬وبذلك‭ ‬نجح‭ ‬القصيبي‭ ‬في‭ ‬إقناع‭ ‬جون‭ ‬كينيدي‭ ‬بأن‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬شركة‭ ‬وكمارا‭ ‬وهي‭ ‬ارامكو‭ (‬قلب‭ ‬حروفها‭)‬،‭ ‬وبذلك‭ ‬تسنى‭ ‬له‭ ‬ان‭ ‬يربط‭ ‬الأحداث‭ ‬المحلية‭ ‬بالعالمية،‭ ‬فخلق‭ ‬بالتشليخ‭ ‬عالما‭ ‬بهيا‭ ‬من‭ ‬الفنتازيا‭.‬

وبرغم‭ ‬ان‭ ‬الكتاب‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬الشلخ‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬الكذب‭ ‬والمبالغة‭ ‬كما‭ ‬أسلفنا،‭ ‬فإن‭ ‬جوهره‭ ‬ابعد‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬عن‭ ‬الشلخ،‭ ‬فالقصيبي‭ ‬استغل‭ ‬مولده‭ ‬ونشأته‭ ‬في‭ ‬أعوام‭ ‬الرمادة،‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬حال‭ ‬عرب‭ ‬الجزيرة‭ ‬يحنن‭ ‬قلب‭ ‬الكافر،‭ ‬ومعاصرته‭ ‬للتحولات‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬أحدثتها‭ ‬الطفرة‭ ‬النفطية،‭ ‬في‭ ‬السعودية‭ ‬وجاراتها،‭ ‬لتشريح‭ ‬أحداث‭ ‬الحقبتين‭ ‬مستعيناً‭ ‬بخبراء‭ ‬أفذاذ‭ ‬من‭ ‬‮«‬تأليفه‭ ‬وإخراجه‮»‬،‭ ‬وأدهشني‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬قرأت‭ ‬اكثر‭ ‬من‭ ‬مقال‭ ‬صحفي‭ ‬يصفه‭ ‬بأنه‭ ‬صنيعة‭ ‬للغرب‭ ‬رصد‭ ‬بدقة‭ ‬شديدة‭ ‬الوقائع‭ ‬التي‭ ‬تثبت‭ ‬مدى‭ ‬تآمر‭ ‬الغرب‭ ‬على‭ ‬الشعوب‭ ‬المستضعفة،‭ ‬وكال‭ ‬لأمريكا‭ ‬النقد‭ ‬بالطن‭ ‬المتري،‭ ‬وحسبت‭ ‬قبل‭ ‬ان‭ ‬اكمل‭ ‬الكتاب‭ ‬ان‭ ‬القصيبي‭ ‬كادر‭ ‬شيوعي‭ ‬سري،‭ ‬وخاصة‭ ‬ان‭ ‬هناك‭ ‬قواسم‭ ‬فسيولوجية‭ ‬مشتركة‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬غورباتشوف،‭ (‬الهيكل‭ ‬العام‭ ‬والصلعة‭ ‬البهية‭).‬

فعندما‭ ‬التقى‭ ‬متخفيا‭ ‬بطاقية‭ ‬أبي‭ ‬شلاخ‭ ‬بالمناضل‭ ‬الفيتنامي‭ ‬الجسور‭ ‬هوشي‭ ‬منه‭ ‬كان‭ ‬واضحاً‭ ‬انه‭ ‬يكن‭ ‬احتراماً‭ ‬بلا‭ ‬حدود‭ ‬للرجل،‭ ‬ومعركته‭ ‬ضد‭ ‬الوجود‭ ‬الأمريكي‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬فيتنام،‭ ‬وحدث‭ ‬نفس‭ ‬الشيء‭ ‬عندما‭ ‬قابل‭ ‬ارنستو‭ ‬تشي‭ ‬غيفارا،‭ ‬ذلك‭ ‬الثوري‭ ‬الحالم،‭ ‬وكاد‭ ‬القصيبي‭ ‬ينشد‭ ‬مع‭ ‬أحمد‭ ‬فؤاد‭ ‬نجم‭: ‬غيفارا‭ ‬مات‭ ‬يا‭ ‬انتيكات‭... ‬يا‭ ‬دفيانين‭ ‬ومولعين‭ ‬الدفايات‭.. ‬يا‭ ‬بتوع‭ ‬نضال‭ ‬آخر‭ ‬زمن‭ ‬في‭ ‬العوامات‭... ‬ولكن‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬الذي‭ ‬حال‭ ‬بين‭ ‬القصيبي‭ ‬والانضمام‭ ‬إلى‭ ‬الحركة‭ ‬الشيوعية‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬عاناه‭ ‬أبو‭ ‬شلاخ‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬في‭ ‬كوبا،‭ ‬وخيبة‭ ‬أمله‭ ‬في‭ ‬الزعيم‭ ‬الصيني‭ ‬الراحل‭ ‬ماوتسي‭ ‬تونغ،‭ ‬الذي‭ ‬سكر‭ ‬و«لبخ‮»‬‭ ‬كلما‭ ‬تحركت‭ ‬الصين‭ ‬نحو‭ ‬الغنى،‭ ‬ودشن‭ ‬‮«‬ثورة‭ ‬ثقافية‮»‬‭ ‬تعيدها‭ ‬إلى‭ ‬الفقر‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا