العدد : ١٧٠٨١ - السبت ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٧ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨١ - السبت ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٧ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

اللغة تجمع وتفرِّق

كتبت‭ ‬ونشرت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مقال‭ ‬هنا‭ ‬حاثا‭ ‬جيل‭ ‬الشباب‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬اتقان‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬بوصفها‭ ‬اللغة‭ ‬الأولى‭ ‬عالميا‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬ثورة‭ ‬المعلومات،‭ ‬وقلت‭ ‬فيما‭ ‬قلت‭ ‬إن‭ ‬اتقان‭ ‬تلك‭ ‬اللغة‭ ‬الأجنبية،‭ ‬مع‭ ‬ضعف‭ ‬الإلمام‭ ‬باللسان‭ ‬الأم‭ -‬اللغة‭ ‬العربية‭- ‬عيب‭ ‬ونقيصة،‭ ‬وتأسيسا‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬أروي‭ ‬لكم‭ ‬كيف‭ ‬قضت‭ ‬محكمة‭ ‬مصرية‭ ‬بالتفريق‭ ‬بين‭ ‬زوجين‭ ‬بطلب‭ ‬من‭ ‬الزوجة،‭ ‬وقد‭ ‬سعدت‭ ‬بهذا‭ ‬القرار،‭ ‬تعاطفا‭ ‬مع‭ ‬الزوج‭ ‬الذي‭ ‬يعمل‭ ‬طبيباً‭. ‬الزوجة‭ ‬مترجمة‭ ‬في‭ ‬شركة‭ ‬خاصة‭ ‬ونالت‭ ‬البكالوريوس‭ ‬من‭ ‬الجامعة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬وطلبت‭ ‬الطلاق‭ ‬لأن‭ ‬زوجها‭ ‬‮«‬متخلف‮»‬‭ ‬ويصر‭ ‬على‭ ‬التحدث‭ ‬معها‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬البيت‭: ‬تصور‭ ‬يا‭ ‬حضرة‭ ‬القاضي‭ ‬أنا‭ ‬أكلمه‭ ‬بالإنجليزي‭ ‬يقوم‭ ‬يرد‭ ‬عليّ‭ ‬بالعربي‭. ‬أففففف،‭ ‬إمبوسيبل‭. ‬قال‭ ‬لها‭ ‬القاضي‭: ‬طب‭ ‬مالو‭ ‬يا‭ ‬بنت‭ ‬الناس‭ ‬ما‭ ‬أهه‭ ‬إنتي‭ ‬بتتكلمي‭ ‬عربي‭ ‬تمام‭ ‬التمام،‭ ‬ليه‭ ‬ما‭ ‬تكلميه‭ ‬بالعربي‭ ‬وتريحي‭ ‬نفسك؟‭ ‬ردت‭ ‬عليه‭: ‬إكسكيوز‭ ‬مي‭ ‬سير‭.. ‬أي‭ ‬دونت‭ ‬لايك‭ ‬تو‭ ‬سبيك‭ ‬إن‭ ‬أرابيك‭! ‬ضحك‭ ‬القاضي‭: ‬ما‭ ‬كنا‭ ‬كويسين‭ ‬ليه‭ ‬قلبتيها‭ ‬رطانة‭ ‬انجليزية‭.. ‬معليش‭ ‬طالما‭ ‬انت‭ ‬في‭ ‬المحكمة‭ ‬لازم‭ ‬تتكلمي‭ ‬عربي‭.. ‬وفشل‭ ‬القاضي‭ ‬في‭ ‬إقناع‭ ‬المدام‭ ‬بأن‭ ‬الكلام‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬بين‭ ‬زوجين‭ ‬عربيين‭ ‬لا‭ ‬يسبب‭ ‬العجز‭ ‬الجنسي‭ ‬أو‭ ‬العقم‭ ‬أو‭ ‬تدهور‭ ‬الصحة‭ ‬العامة‭ ‬وقضى‭ ‬لها‭ ‬بالطلاق‭.‬

وفي‭ ‬تقديري‭ ‬فإن‭ ‬قرار‭ ‬القاضي‭ ‬عادل‭ ‬وحكيم،‭ ‬لماذا؟‭  ‬سؤال‭ ‬ساذج‭ ‬ويدل‭ ‬على‭ ‬ضعف‭ ‬في‭ ‬الحس‭ ‬الإنساني‭ ‬والاجتماعي،‭ ‬بس‭ ‬سأجيب‭ ‬عليه‭: ‬الزوج‭ ‬طبيب‭ ‬محترم‭ ‬وحسب‭ ‬إفادة‭ ‬الزوجة‭ ‬فإنه‭ ‬يجيد‭ ‬الانجليزية‭ ‬لأنه‭ ‬درس‭ ‬الطب‭ ‬بالإنجليزية،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬يتصرف‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬كشخص‭ ‬طبيعي‭ ‬ويتكلم‭ ‬بالعربية‭ ‬لأنها‭ ‬لسانه‭ ‬الأم،‭ ‬والإنسان‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬بارتياح‭ ‬بلغته‭ ‬الأصلية‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬درجة‭ ‬إجادته‭ ‬للغة‭ ‬أجنبية‭.‬

أنا‭ ‬مثلا‭ ‬لغتي‭ ‬الأم‭ ‬هي‭ ‬النوبية‭ ‬واتحدث‭ ‬العربية‭ ‬بطلاقة‭ ‬وظلت‭ ‬اللغة‭ ‬الانجليزية‭ ‬أداتي‭ ‬لأكل‭ ‬العيش‭ ‬وكسب‭ ‬الرزق‭ ‬منذ‭ ‬ان‭ ‬غادرت‭ ‬مقاعد‭ ‬الدراسة،‭ ‬ولكن‭ ‬وفي‭ ‬لحظات‭ ‬الزنقة‭ ‬والغضب‭ ‬والضعف‭ ‬العاطفي‭ ‬أجد‭ ‬نفسي‭ ‬أتكلم‭ ‬فقط‭ ‬بالنوبية‭. ‬وإذا‭ ‬نرفزني‭ ‬سائق‭ ‬سيارة‭ ‬فإن‭ ‬الشتيمة‭ ‬التي‭ ‬تصدر‭ ‬عن‭ ‬فمي‭ ‬هي‭ ‬‮«‬كج‭ ‬نندي‮»‬‭ ‬وتعني‭ ‬الحمار‭ ‬الذكر‭ (‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬النوبية‭ ‬يعتبر‭ ‬الحمار‭ ‬الذكر‭ ‬أكثر‭ ‬غباء‭ ‬من‭ ‬الأنثى‭/‬الاتان‭). ‬وإذا‭ ‬أردت‭ ‬ان‭ ‬أدعو‭ ‬الله‭ ‬لي‭ ‬أو‭ ‬لغيري‭ ‬هتفت‭: ‬وو‭ ‬نور‭ ‬كمبو‭ ‬كقر‭ (‬يا‭ ‬الله‭ ‬يا‭ ‬قوي‭ ‬يا‭ ‬جبار‭)‬،‭ ‬وإذا‭ ‬سمعت‭ ‬ان‭ ‬شخصا‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬ورطة‭ ‬أوقع‭ ‬فيها‭ ‬نفسه‭ ‬بسوء‭ ‬تصرفه‭ ‬قلت‭ ‬له‭: ‬اُرمود‭ ‬إكا‭ ‬جابو‭ ... ‬والأرمود‭ ‬هو‭ ‬الرماد‭.. ‬والعبارة‭ ‬تعني‭ ‬‮«‬سينهال‭ ‬عليك‭ ‬الرماد‮»‬‭ ‬وكان‭ ‬أهلنا‭ ‬فيما‭ ‬مضى‭ ‬يهيلون‭ ‬الرماد‭ ‬على‭ ‬رؤوسهم‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬الحزن‭ ‬الشديد‭ ‬لموت‭ ‬عزيز،‭ ‬وإلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬فإن‭ ‬تأثير‭ ‬هذا‭ ‬الطقس‭ ‬النوبي‭ ‬واضح‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬عامية‭ ‬السودان‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬فالرماد‭ ‬في‭ ‬عموم‭ ‬بلاد‭ ‬السودان‭ ‬يرمز‭ ‬إلى‭ ‬المصائب‭ ‬وإذا‭ ‬صاحت‭ ‬امرأة‭ ‬سودانية‭ ‬‮«‬رمادي‮»‬‭ ‬فلا‭ ‬تطلب‭ ‬لها‭ ‬سيارة‭ ‬الإطفاء‭ ‬بل‭ ‬حاول‭ ‬مواساتها‭.‬

أعتقد‭ ‬أن‭ ‬القاضي‭ ‬الذي‭ ‬حكم‭ ‬بطلاق‭ ‬الست‭ ‬الأمريكانية‭ ‬رأفة‭ ‬بالزوج،‭ ‬لأن‭ ‬جوهر‭ ‬الدعوى‭ ‬‮«‬هايف‮»‬‭. ‬وياما‭ ‬هناك‭ ‬زيجات‭ ‬ناجحة‭ ‬بين‭ ‬رجال‭ ‬ونساء‭ ‬يتكلمون‭ ‬لغات‭ ‬مختلفة‭ ‬تماما‭ ‬بل‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬بعض‭ ‬أطرافها‭ ‬صما‭ ‬بكما،‭ ‬وتأتي‭ ‬الست‭ ‬هانم‭ ‬هذه‭ ‬وتلجأ‭ ‬إلى‭ ‬القضاء‭ ‬لأنه‭ ‬وكلما‭ ‬طلبت‭ ‬من‭ ‬زوجها‭ ‬شيئا‭ ‬قال‭ ‬لها‭: ‬حاضر‭ ‬يا‭ ‬روحي،‭ ‬بدل‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬لها‭: ‬أوكي‭ ‬سويت‭ ‬هارت‭..  ‬وبالمناسبة‭ ‬فالجامعة‭ ‬الأمريكية‭ ‬التي‭ ‬درست‭ ‬بها‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬القاهرة،‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬أنها‭ ‬متخوجنة‭ ‬بالعافية‭ ‬وليست‭ ‬خواجية‭ ‬بحكم‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬الخواجات‭ ‬الأمريكان‭.‬

ولو‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬الست‭ ‬مقياسا‭ ‬يعتد‭ ‬به‭ ‬لقمت‭ ‬برفع‭ ‬دعاوى‭ ‬على‭ ‬عيالي‭ ‬في‭ ‬المحاكم‭ ‬لأنهم‭ ‬يوجعون‭ ‬قلبي‭ ‬بالتحدث‭ ‬بالإنجليزية‭ ‬مع‭ ‬أصدقائهم‭ ‬وزملائهم،‭ ‬الذين‭ ‬درسوا‭ ‬معهم‭ ‬مناهج‭ ‬العلوج‭ ‬والطراطير‭ (‬الأمريكان‭ ‬والبريطانيين‭ ‬حسب‭ ‬تعبير‭ ‬حبيب‭ ‬الجماهير‭ ‬وزير‭ ‬الإعلام‭ ‬العراقي‭ ‬الأسبق‭ ‬محمد‭ ‬سعيد‭ ‬الصحاف‭)‬،‭ ‬وهناك‭ ‬سودانيون‭ ‬يحدثونني‭ ‬بالعامية‭ ‬الخليجية،‭ ‬ويكون‭ ‬عمر‭ ‬الواحد‭ ‬منهم‭ ‬25‭ ‬سنة‭ ‬أي‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬السنوات‭ ‬التي‭ ‬قضيتها‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الخليج‭ ‬فأود‭ ‬لو‭ ‬أحشو‭ ‬أفواههم‭ ‬بالشطة‭.‬

وبسبب‭ ‬طول‭ ‬الغياب‭ ‬عن‭ ‬السودان‭ ‬فإنني‭ ‬أجهل‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المفردات‭ ‬المستجدة‭ ‬في‭ ‬العامية‭ ‬السودانية،‭ ‬ومن‭ ‬عجائبها‭ ‬أنك‭ ‬قد‭ ‬تسمع‭ ‬شابا‭ ‬أو‭ ‬شابة‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬الفردة‭ ‬فتحسب‭ ‬أن‭ ‬الحديث‭ ‬يتعلق‭ ‬بحذاء‭ (‬فردة‭ ‬يمين‭ ‬أو‭ ‬شمال‭) ‬ثم‭ ‬تكتشف‭ ‬أن‭ ‬فردة‭ ‬تعني‭ ‬الحبيب‭ ‬أو‭ ‬الحبيبة‭..  ‬وهذا‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬فساد‭ ‬مريع‭ ‬في‭ ‬الذوق‭ ‬العام‭ ‬لأن‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬الحبيب‭ ‬ب‭ ‬‮«‬الفردة‮»‬‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬المتكلم‭ ‬فردة‭ ‬وأن‭ ‬كليهما‭ ‬يمثلان‭ ‬‮«‬زوجا‭ - ‬ثنائيا‭ ‬مكملا‭ ‬لبعضه‭ ‬البعض‮»‬‭.. ‬بس،‭ ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬فردة‭ ‬أو‭ ‬فردتين‭ ‬ترمز‭ ‬إلى‭ ‬الجزمة‭!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا