العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

تأملات ودروس من حكاية امرأة مدمنة

بقلم: د. زكريا الخنجي

الأحد ١٩ مايو ٢٠٢٤ - 02:00

قالت‭ ‬لي‭ ‬مدربة،‭ ‬في‭ ‬رحلتي‭ ‬الأخيرة‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الشقيقة،‭ ‬لدي‭ ‬قصة‭ ‬صديقة‭ ‬ستعجبك‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬تنشرها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مقالك‭ ‬الأسبوعي،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التوعية‭ ‬فقط‭.‬

قلت‭ ‬لها‭: ‬تفضلي،‭ ‬وكلي‭ ‬آذان‭ ‬صاغية‭.‬

قالت‭ ‬المدربة‭: ‬تقول‭ ‬صديقتي‭.. ‬فجأة‭ ‬استيقظت‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬مقيدة‭ ‬اليدين،‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬أين‭ ‬أنا؟‭ ‬وكيف‭ ‬جئت‭ ‬إلى‭ ‬هنا؟‭ ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬في‭ ‬الغرفة‭ ‬سواي‭.‬

صرخت،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬مجيب،‭ ‬صرخت‭ ‬بصوت‭ ‬أعلى،‭ ‬وبعد‭ ‬لحظات‭ ‬دخلت‭ ‬عليّ‭ ‬سيدتان‭ ‬يبدو‭ ‬أنهما‭ ‬خادمة‭ ‬وممرضة،‭ ‬استغربت،‭ ‬سألتهن‭: ‬من‭ ‬أنتما؟‭ ‬ولماذا‭ ‬أنا‭ ‬هنا؟‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬يجيبا‭.‬

قلت‭: ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أدخل‭ ‬الحمام‭.‬

حملاني‭ ‬من‭ ‬يديّ‭ ‬المقيدتين‭ ‬وأدخلاني‭ ‬الحمام‭ ‬لقضاء‭ ‬الحاجة،‭ ‬وفي‭ ‬الطريق‭ ‬رأيت‭ ‬رجلا‭ ‬جالسا‭ ‬في‭ ‬المطبخ‭ ‬الذي‭ ‬يطل‭ ‬على‭ ‬الطريق،‭ ‬صرخت‭ ‬فيه‭: ‬لماذا‭ ‬أنا‭ ‬هنا؟‭ ‬من‭ ‬أنت؟

ولكن‭ ‬لا‭ ‬مجيب‭.‬

وقبل‭ ‬أن‭ ‬يدخلاني‭ ‬الغرفة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬قلت‭: ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬آكل،‭ ‬أريد‭ ‬طعاما‭.‬

أدخلتني‭ ‬الممرضة‭ ‬الغرفة،‭ ‬وذهبت‭ ‬الخادمة‭ ‬لإحضار‭ ‬وجبة‭ ‬غذائية‭ ‬ساخنة،‭ ‬استغربت،‭ ‬وتساءلت‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬نفسي‭ ‬‮«‬كيف‭ ‬يأتياني‭ ‬بوجبة‭ ‬ساخنة‭ ‬إن‭ ‬كنتُ‭ ‬مختطفة؟‮»‬‭ ‬ولكن‭ ‬يبدو‭ ‬أني‭ ‬لست‭ ‬مختطفة،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬الذي‭ ‬أنا‭ ‬فيه؟

قامت‭ ‬الخادمة‭ ‬بإطعامي،‭ ‬وشربت‭ ‬الماء،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬قامت‭ ‬بغسل‭ ‬فمي،‭ ‬ثم‭ ‬غادرت‭ ‬الغرفة،‭ ‬فجلست‭ ‬وحيدة‭.‬

ربما‭ ‬مرت‭ ‬ساعة‭ ‬أو‭ ‬ساعات‭ ‬لا‭ ‬أعرف،‭ ‬أجد‭ ‬نفسي‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الوقت‭ ‬أني‭ ‬نمت،‭ ‬وفي‭ ‬أوقات‭ ‬أخرى‭ ‬أشعر‭ ‬ببعض‭ ‬الآلام‭ ‬في‭ ‬جسدي‭ ‬كله،‭ ‬آلام‭ ‬رهيبة‭ ‬تجعلني‭ ‬أصرخ‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬الألم‭ ‬وأنادي،‭ ‬وأصرخ‭ ‬وأنادي،‭ ‬ولا‭ ‬مجيب‭. ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬محددة‭ ‬تدخل‭ ‬الخادمة‭ ‬والممرضة‭ ‬ليقوما‭ ‬بإدخالي‭ ‬الحمام‭ ‬وإطعامي‭ ‬وإعادتي‭ ‬إلى‭ ‬الغرفة،‭ ‬ودائمًا‭ ‬أجد‭ ‬ذلك‭ ‬الرجل‭ ‬هنا‭ ‬جالسًا‭ ‬ينظر‭ ‬إليّ‭ ‬بنظرات‭ ‬لم‭ ‬أتمكن‭ ‬حتى‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬من‭ ‬تفسيرها‭.‬

بدأت‭ ‬الآلام‭ ‬تتزايد‭ ‬يومًا‭ ‬بعد‭ ‬يوم،‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬الصبر‭ ‬عليها،‭ ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬الأيام‭ ‬أقاوم‭ ‬الألم‭ ‬بالنوم‭ ‬والتجاهل،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬كثيرة‭ ‬يغلبني‭ ‬الألم‭ ‬فأضرب‭ ‬رأسي‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬والجدار‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬موجود‭ ‬في‭ ‬الغرفة‭. ‬وكل‭ ‬الذي‭ ‬تقوم‭ ‬به‭ ‬الممرضة‭ ‬أن‭ ‬تضمد‭ ‬جراحي،‭ ‬ومن‭ ‬غير‭ ‬كلام‭.‬

لا‭ ‬أعرف‭ ‬ماذا‭ ‬يحدث،‭ ‬ولماذا‭ ‬يحدث‭ ‬ذلك‭. ‬ولكن‭ ‬كل‭ ‬الذي‭ ‬أعرفه‭ ‬أني‭ ‬أعاني‭ ‬من‭ ‬آلام‭ ‬شديدة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أعضاء‭ ‬جسمي،‭ ‬كل‭ ‬خلية‭ ‬من‭ ‬جسمي‭ ‬تعاني‭ ‬وتصرخ‭ ‬من‭ ‬الألم،‭ ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬لماذا؟

تصوروا،‭ ‬امرأة‭ ‬مربوطة‭ ‬اليدين‭ ‬وفي‭ ‬غرفة‭ ‬مغلقة‭ ‬النوافذ،‭ ‬ولا‭ ‬تعرف‭ ‬أي‭ ‬شيء،‭ ‬فلا‭ ‬تعرف‭ ‬لماذا‭ ‬هي‭ ‬هناك؟‭ ‬وكيف‭ ‬جاءت؟‭ ‬ومن‭ ‬الذي‭ ‬أحضرها؟‭ ‬هل‭ ‬هي‭ ‬مخطوفة؟‭ ‬ولماذا‭ ‬خطفت؟‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬أين‭ ‬والدي؟‭ ‬أين‭ ‬عائلتي؟‭ ‬كل‭ ‬الذي‭ ‬أعرفه‭ ‬أني‭ ‬منهكة‭ ‬جدًا‭.‬

ثم‭ ‬سقطت‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬مغشية‭ ‬عليّ،‭ ‬لم‭ ‬أستيقظ‭ ‬فترة‭ ‬طويلة،‭ ‬وعندما‭ ‬استيقظت‭ ‬وجدت‭ ‬الرجل‭ ‬يجلس‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬سريري‭ ‬وهو‭ ‬يبتسم،‭ ‬ولكن‭ ‬مازلت‭ ‬مقيدة‭.‬

قال‭: ‬كيف‭ ‬حالك‭ ‬اليوم؟

صرخت،‭ ‬وحاولت‭ ‬الهروب‭ ‬ولكني‭ ‬لم‭ ‬أتمكن‭ ‬من‭ ‬الوقوف‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬الجلوس،‭ ‬حاولت‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أتمكن،‭ ‬ثم‭ ‬هدأت‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬جدوى‭ ‬من‭ ‬المقاومة‭.‬

بعد‭ ‬لحظات،‭ ‬قلت‭: ‬من‭ ‬أنت؟‭ ‬ولماذا‭ ‬أنا‭ ‬هنا؟

قال‭: ‬أنت‭ ‬زوجتي،‭ ‬ألا‭ ‬تتذكرين؟

صدمة،‭ ‬بل‭ ‬قنبلة‭ ‬وقعت‭ ‬على‭ ‬رأسي،‭ (‬كيف؟‭)‬،‭ ‬قلت‭: ‬كل‭ ‬الذي‭ ‬أتذكره‭ ‬أني‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬والدي‭ ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬متزوجة،‭ ‬فكيف‭ ‬ومتى‭ ‬تزوجت؟

قال‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬يدعي‭ ‬أنه‭ ‬زوجي‭ ‬وبكل‭ ‬هدوء‭ ‬وهو‭ ‬يبتسم‭: ‬اهدئي‭ ‬حتى‭ ‬أحكي‭ ‬لك‭ ‬الحكاية،‭ ‬كيف‭ ‬ومتى‭ ‬تزوجنا‭.‬

تقول‭ ‬صديقتي‭: ‬في‭ ‬البداية‭ ‬لم‭ ‬أكترث‭ ‬لكلماته،‭ ‬وإنما‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬أجاريه‭ ‬لعله‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬يطلق‭ ‬سراحي‭ ‬وأذهب‭ ‬إلى‭ ‬والدي،‭ ‬ولكنه‭ ‬وبهدوئه‭ ‬العجيب‭ ‬قال‭:  ‬

أنا‭ ‬مؤذن‭ ‬مسجد،‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬وجدتك‭ ‬جالسة‭ ‬عند‭ ‬باب‭ ‬المسجد‭ ‬تتسولين،‭ ‬ملابسك‭ ‬رثة،‭ ‬وحالتك‭ ‬لا‭ ‬تسر‭ ‬الناظر،‭ ‬فنظرت‭ ‬إليك‭ ‬ولم‭ ‬أعيرك‭ ‬أي‭ ‬التفاتة،‭ ‬فسرت‭ ‬بعيدًا‭ ‬عنك،‭ ‬كنت‭ ‬تتسولين‭ ‬الطعام،‭ ‬بأي‭ ‬طريقة‭.‬

وجدتك‭ ‬مرات‭ ‬كثيرة‭ ‬عند‭ ‬باب‭ ‬المسجد،‭ ‬حاولت‭ ‬مساعدتك‭ ‬ولكني‭ ‬تساءلت‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬مساعدتها؟‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬إدخالها‭ ‬المسجد؟‭ ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬آخذها؟

وبعد‭ ‬عدة‭ ‬أيام،‭ ‬أتيت‭ ‬المسجد‭ ‬باكرًا،‭ ‬وفي‭ ‬يدي‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬الطعام،‭ ‬وأدخلتك‭ ‬غرفة‭ ‬من‭ ‬غرف‭ ‬المسجد‭ ‬وطلبت‭ ‬منك‭ ‬المكوث‭ ‬هنا‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أي‭ ‬صراخ‭ ‬أو‭ ‬عبث،‭ ‬وأعطيتك‭ ‬الأكل‭ ‬فأكلت،‭ ‬ثم‭ ‬غادرتُ‭ ‬ودخلتُ‭ ‬المسجد‭.‬

جئت‭ ‬إليك‭ ‬ببعض‭ ‬الملابس،‭ ‬فاستحممت،‭ ‬وتغير‭ ‬شكلك،‭ ‬وقلت‭ ‬لك‭: ‬ما‭ ‬حكايتك؟‭ ‬إذ‭ ‬يبدو‭ ‬أنك‭ ‬من‭ ‬عائلة‭ ‬وبنت‭ ‬ناس،‭ ‬كما‭ ‬يقال،‭ ‬فبدأت‭ ‬تحكين‭ ‬حكايتك،‭ ‬وهي‭:‬

كنت‭ ‬شابة،‭ ‬في‭ ‬مقتبل‭ ‬العمر،‭ ‬تخرجت‭ ‬في‭ ‬الجامعة،‭ ‬ولكن‭ ‬تعرفت‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬البنات‭ ‬والشباب‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬تقيدهم‭ ‬القيم‭ ‬ولا‭ ‬القيود،‭ ‬حياتهم‭ ‬سهر‭ ‬وحفلات‭ ‬ورحلات‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يتوقع‭ ‬وما‭ ‬لا‭ ‬يتوقع‭.‬

فبدأت‭ ‬في‭ ‬تعاطي‭ ‬المخدرات،‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬كانت‭ ‬مجرد‭ ‬تسالي‭ ‬ومزحة‭ ‬وتقليد،‭ ‬ولكنها‭ ‬للأسف‭ ‬تحولت‭ ‬كالعادة‭ ‬إلى‭ ‬إدمان،‭ ‬بل‭ ‬الإغراق‭ ‬في‭ ‬الإدمان‭.‬

عرف‭ ‬والدك،‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يعالجك،‭ ‬فأدخلك‭ ‬المصحة،‭ ‬لسنوات،‭ ‬ولكنك‭ ‬رفضت‭ ‬العلاج،‭ ‬فقد‭ ‬كنت‭ ‬راغبة‭ ‬في‭ ‬الاستمرار،‭ ‬وليس‭ ‬لديك‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬العلاج،‭ ‬حاول‭ ‬والدك‭ ‬بكل‭ ‬الطرق‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬فشل‭.‬

فهددك‭ ‬عدة‭ ‬مرات،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬جدوى،‭ ‬وفي‭ ‬النهاية‭ ‬هددك‭ ‬بالطرد،‭ ‬إلا‭ ‬أنك‭ ‬لم‭ ‬تنتظري‭ ‬حتى‭ ‬يقوم‭ ‬بتنفيذ‭ ‬تهديده،‭ ‬فهربت‭ ‬ولجأت‭ ‬إلى‭ ‬أصدقائك،‭ ‬ومن‭ ‬هناك‭ ‬بدأ‭ ‬عالمك‭ ‬في‭ ‬الانهيار‭ ‬والتدحرج‭ ‬نحو‭ ‬الهاوية،‭ ‬فصار‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬المخدرات‭ ‬هو‭ ‬شغلك‭ ‬الشاغل‭.‬

قلت‭ ‬لي‭ ‬يا‭ ‬زوجتي‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬تعرفين‭ ‬كم‭ ‬من‭ ‬السنوات‭ ‬عشت‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬البيئة،‭ ‬ولكنك‭ ‬وجدت‭ ‬نفسك‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬تتسولين‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الطعام،‭ ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬المخدرات‭ ‬أيضًا،‭ ‬فلا‭ ‬هدف‭ ‬ولا‭ ‬حياة‭. ‬ولكنك‭ ‬مررت‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬عند‭ ‬باب‭ ‬المسجد،‭ ‬فسمعت‭ ‬الآذان،‭ ‬عندها‭ ‬شعرت‭ ‬أن‭ ‬كلمات‭ ‬الآذان‭ ‬قد‭ ‬دخلت‭ ‬روحك،‭ ‬وتسربت‭ ‬إلى‭ ‬خلايا‭ ‬من‭ ‬خلايا‭ ‬جسدك‭ ‬فبكيت،‭ ‬وكذلك‭ ‬بكيت‭ ‬أنت،‭ ‬حينئذ‭ ‬تذكرت‭ ‬والدك‭ ‬وبيتك‭ ‬وحياتك‭ ‬السابقة،‭ ‬فتساءلت‭ ‬بينك‭ ‬وبين‭ ‬نفسك‭ ‬‮«‬كيف‭ ‬أعود؟‭ ‬وهل‭ ‬سيقبلني‭ ‬والدي‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬هذا؟‮»‬‭.‬

فوجدت‭ ‬نفسك‭ ‬جالسة‭ ‬عند‭ ‬باب‭ ‬المسجد‭ ‬لا‭ ‬تعرفين‭ ‬لماذا،‭ ‬غير‭ ‬أنك‭ ‬جائعة‭ ‬تريدن‭ ‬بعض‭ ‬الطعام،‭ ‬فأغدق‭ ‬عليك‭ ‬بعض‭ ‬المحسنين‭ ‬بعض‭ ‬المال،‭ ‬فاشتريت‭ ‬الطعام‭ ‬وأكلت،‭ ‬وتكرر‭ ‬جلوسك‭ ‬عند‭ ‬باب‭ ‬المسجد،‭ ‬حتى‭ ‬أتيت‭ ‬أنا‭. ‬أدخلتك‭ ‬غرفة‭ ‬من‭ ‬غرف‭ ‬المسجد،‭ ‬وسألتك‭: ‬من‭ ‬أنت؟‭ ‬ومن‭ ‬هو‭ ‬والدك؟‭ ‬ألا‭ ‬ترغبين‭ ‬في‭ ‬العودة؟

قلت‭ ‬من‭ ‬أنت‭ ‬وما‭ ‬اسمك‭ ‬واسم‭ ‬والدك،‭ ‬أما‭ ‬عندما‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬موضوع‭ ‬العودة‭ ‬بكيت‭ ‬بحرقة‭ ‬لم‭ ‬أشعر‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬فنظرت‭ ‬إليّ‭ ‬وتساءلت‭ ‬‮«‬وهل‭ ‬للعودة‭ ‬من‭ ‬سبيل؟‮»‬‭.‬

تركتك‭ ‬هناك،‭ ‬في‭ ‬الغرفة‭ ‬الملحقة‭ ‬بالمسجد‭ ‬عدة‭ ‬أيام،‭ ‬كنتُ‭ ‬أغدو‭ ‬وآتي‭ ‬إليك‭ ‬بين‭ ‬الفترة‭ ‬والأخرى‭ ‬حتى‭ ‬أحضر‭ ‬لك‭ ‬الطعام،‭ ‬وبعد‭ ‬عدة‭ ‬أيام‭ ‬جئت‭ ‬بك‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الشقة‭ ‬البسيطة،‭ ‬وأحضرت‭ ‬لك‭ ‬ممرضة‭ ‬وخادمة‭ ‬حتى‭ ‬تقومان‭ ‬عليك،‭ ‬ثم‭ ‬طلبت‭ ‬منك‭ ‬الزواج‭ ‬فوافقت‭.‬

أخذتك‭ ‬بالسيارة‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬والدك،‭ ‬وأجلستك‭ ‬في‭ ‬السيارة،‭ ‬ودخلت‭ ‬على‭ ‬والدك‭ ‬في‭ ‬المجلس،‭ ‬وطلبتك‭ ‬منه،‭ ‬ولكنه‭ ‬قال‭: ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬تلك‭ ‬البنت،‭ ‬إنها‭ ‬عاصية‭ ‬وهاربة،‭ ‬وأنا‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬أين‭ ‬هي‭.‬

قلت‭: ‬إن‭ ‬وافقت‭ ‬على‭ ‬طلبي،‭ ‬فإني‭ ‬الآن‭ ‬أذهب‭ ‬إلى‭ ‬المأذون‭ ‬والشهود‭ ‬وآتيك‭ ‬بها،‭ ‬تطلب‭ ‬منك‭ ‬المغفرة‭ ‬وتقبل‭ ‬رأسك،‭ ‬ونكتب‭ ‬الكتاب‭.‬

ذهل‭ ‬والدك‭ ‬مني،‭ ‬فابتسم،‭ ‬وقال‭: ‬أرى‭ ‬أنك‭ ‬جاد‭ ‬في‭ ‬طلبك‭.‬

قلت‭: ‬لقد‭ ‬أرسلني‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬بنتك،‭ ‬وأرسلها‭ ‬لي‭.‬

وفي‭ ‬الأخير‭ ‬وافق‭ ‬على‭ ‬طلبي،‭ ‬فتزوجنا‭. ‬ثم‭ ‬عدنا‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الشقة،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬بدأت‭ ‬تظهر‭ ‬عليك‭ ‬آثار‭ ‬الانسحاب‭ ‬من‭ ‬الإدمان،‭ ‬لذلك‭ ‬ربطت‭ ‬يديك‭ ‬وقيدتك،‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬حتى‭ ‬يذهب‭ ‬عنك‭ ‬آثار‭ ‬الإدمان،‭ ‬وكنتُ‭ ‬أتألم‭ ‬كما‭ ‬تتألمين،‭ ‬وكانت‭ ‬الممرضة‭ ‬ترفض‭ ‬تدخلي‭ ‬في‭ ‬العلاج،‭ ‬لذلك‭ ‬كنت‭ ‬أجلس‭ ‬بعيدًا‭ ‬ودموعي‭ ‬تنهار‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬تلاحظي،‭ ‬ونحن‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬منذ‭ ‬شهور‭.‬

تقول‭ ‬صديقة‭ ‬المدربة‭: ‬شعرت‭ ‬أنه‭ ‬صادق،‭ ‬فنظرات‭ ‬عيونه‭ ‬كانت‭ ‬تحكي‭ ‬الحكاية‭ ‬بكل‭ ‬هدوء‭ ‬وصدق،‭ ‬ثم‭ ‬أخرج‭ ‬من‭ ‬جيبة‭ ‬ورقة‭ ‬عقد‭ ‬القران،‭ ‬ليطمئن‭ ‬قلبي‭.‬

فقلت‭ ‬له‭: ‬هلا‭ ‬فتحت‭ ‬قيودي‭ ‬الآن،‭ ‬فأنا‭ ‬أصدقك‭.‬

قال‭: ‬يا‭ ‬ليت‭ ‬الأمر‭ ‬بيدي،‭ ‬ولكنه‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬الممرضة‭.‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬الممرضة‭ ‬رفضت‭ ‬الطلب،‭ ‬وبقيت‭ ‬مقيدة،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬هو‭ ‬الآن‭ ‬يأتي‭ ‬ليطعمني‭ ‬ويمازحني‭ ‬ويضحك‭ ‬معي،‭ ‬ومع‭ ‬الوقت‭ ‬كنت‭ ‬أشعر‭ ‬برغبتي‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬معه،‭ ‬وجلساته،‭ ‬وضحكاته،‭ ‬فكان‭ ‬لا‭ ‬يفارقني‭ ‬إلا‭ ‬عندما‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬والمسجد‭.‬

حتى‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬المرحلة‭ ‬التي‭ ‬سمحت‭ ‬لي‭ ‬الممرضة‭ ‬بفك‭ ‬قيدي،‭ ‬وشعرت‭ ‬عندها‭ ‬أني‭ ‬امرأة‭ ‬حرة‭ ‬أستطيع‭ ‬الذهاب‭ ‬والقدوم‭ ‬والجلوس‭ ‬في‭ ‬الصالة‭ ‬والذهاب‭ ‬إلى‭ ‬المطبخ،‭ ‬وأني‭ ‬ربة‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬الصغير‭ ‬المتواضع‭ ‬الذي‭ ‬حفظ‭ ‬سري‭ ‬وهويتي‭ ‬وانحداري‭ ‬عن‭ ‬العالم‭.‬

ما‭ ‬أروع‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬وما‭ ‬أروع‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭!‬

تقول‭ ‬المدربة‭ ‬عن‭ ‬صديقتها‭: ‬إنها‭ ‬اليوم‭ ‬أم‭ ‬لثمانية‭ ‬شباب‭ ‬وشابات،‭ ‬تهتم‭ ‬بهم‭ ‬وتخاف‭ ‬عليهم،‭ ‬وتحاول‭ ‬أن‭ ‬تمنعهم‭ ‬من‭ ‬السقوط‭ ‬في‭ ‬براثن‭ ‬المخدرات،‭ ‬ليس‭ ‬ذلك‭ ‬فحسب‭ ‬وإنما‭ ‬انضمت‭ ‬إلى‭ ‬محاضن‭ ‬مكافحة‭ ‬المخدرات‭ ‬حتى‭ ‬ترشد‭ ‬المدمنين‭ ‬إلى‭ ‬الطرق‭ ‬الآمنة‭ ‬لمكافحة‭ ‬المخدرات‭.‬

Zkhunji@hotmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا