العدد : ١٧٠٧٨ - الأربعاء ٢٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٧٨ - الأربعاء ٢٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

التكنولوجيا وتعطيل القدرات

أشكو‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يتطوع‭ ‬للاستماع‭ ‬الى‭ ‬شكواي‭ ‬من‭ ‬ان‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬حرمتني‭ ‬من‭ ‬أمور‭ ‬وطقوس‭ ‬كانت‭ ‬ميسم‭ ‬حياتي‭ ‬اليومية‭ ‬لسنوات‭ ‬طوال،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬أن‭ ‬أجلس‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬بعد‭ ‬وجبة‭ ‬الغداء‭ ‬وحولي‭ ‬نحو‭ ‬ثلاث‭ ‬صحف‭ ‬ومجلة‭ ‬أو‭ ‬أكثر،‭ ‬واليوم‭ ‬اختفت‭ ‬المجلات‭ ‬كليا،‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬الصحف‭ ‬اليومية‭ ‬متوافرة‭ ‬في‭ ‬المنافذ‭ ‬‮«‬المعتادة‮»‬،‭ ‬فصار‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬يومي‭ ‬خواء‭.‬

أصبت‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬بإعاقة‭ ‬جزئية،‭ ‬سببت‭ ‬خللا‭ ‬في‭ ‬وظائف‭ ‬يدي،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬أصابع‭ ‬يدي،‭ ‬وما‭ ‬يحيرني‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الإعاقة‭ ‬لم‭ ‬تنجم‭ ‬عن‭ ‬علة‭ ‬أو‭ ‬حادث،‭ ‬بل‭ ‬عن‭ ‬عدم‭ ‬استخدام‭ ‬تلك‭ ‬الأصابع‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬الأكل،‭ ‬وانتبهت‭ ‬لحدوث‭ ‬الإعاقة‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬اكتشفت‭ ‬أن‭ ‬‮«‬خطي‮»‬‭ ‬صار‭ ‬رديئا،‭ ‬فكلما‭ ‬أمسكت‭ ‬بالقلم‭ ‬وشرعت‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬ترفض‭ ‬الحروف‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬متناسقة،‭ ‬ثم‭ ‬صارت‭ ‬أصابعي‭ ‬تؤلمني‭ ‬إذا‭ ‬كتبت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬أسطر،‭ ‬وقبل‭ ‬أربع‭ ‬وعشرين‭ ‬سنة‭ ‬تم‭ ‬تحويل‭ ‬مؤسسة‭ ‬الاتصالات‭ ‬القطرية‭ (‬أوريدو‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أعمل‭ ‬فيها،‭ ‬الى‭ ‬شركة‭ ‬خاصة،‭ ‬وتطلبت‭ ‬عملية‭ ‬الخصخصة‭ ‬إعداد‭ ‬وترجمة‭ ‬عدد‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬النصوص،‭ ‬وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬قمت‭ ‬بترجمة‭ ‬عقد‭ ‬التأسيس‭ ‬وملحقاته‭ ‬في‭ ‬جلسة‭ ‬واحدة‭ ‬مستخدما‭ ‬القلم‭ ‬والورق،‭ ‬وبعد‭ ‬نحو‭ ‬عشر‭ ‬ساعات‭ ‬متصلة‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬فرغت‭ ‬من‭ ‬ترجمة‭ ‬نصوص‭ ‬يفوق‭ ‬عدد‭ ‬صفحاتها‭ ‬التسعين،‭ ‬ولم‭ ‬أذهب‭ ‬بعدها‭ ‬إلى‭ ‬قسم‭ ‬الطوارئ‭ ‬في‭ ‬المستشفى،‭ ‬بل‭ ‬جلسنا‭ ‬نحن‭ ‬أعضاء‭ ‬الفريق‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتولى‭ ‬إعداد‭ ‬وثائق‭ ‬الخصخصة‭ ‬نتآنس‭ ‬حتى‭ ‬أول‭ ‬المساء،‭ ‬ثم‭ ‬زوغت‭ ‬منهم‭ ‬وعدت‭ ‬الى‭ ‬مكتبي‭ ‬وكتبت‭ ‬بخط‭ ‬اليد‭ ‬مقالا‭ ‬لأخبار‭ ‬الخليج‭ ‬هذه،‭ ‬وأرسلته‭ ‬بالفاكس،‭ ‬وعدت‭ ‬الى‭ ‬البيت‭ ‬في‭ ‬نحو‭ ‬التاسعة‭ ‬مساء‭.‬

الكتابة‭ ‬باستخدام‭ ‬القلم‭ ‬تتطلب‭ ‬الاستعانة‭ ‬فقط‭ ‬بثلاثة‭ ‬أصابع،‭ ‬بينما‭ ‬الكتابة‭ ‬على‭ ‬الكمبيوتر‭ ‬تتطلب‭ ‬استخدام‭ ‬الأصابع‭ ‬العشرة‭ -‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬محترفا‭- ‬أو‭ ‬إصبعين‭ ‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬‮«‬هاويا‮»‬،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬الهواة‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬أكثر‭ ‬سرعة‭ ‬في‭ ‬الطباعة‭ ‬على‭ ‬الكمبيوتر‭ ‬من‭ ‬مستخدمي‭ ‬الأصابع‭ ‬جميعها،‭ ‬والشاهد‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬استخدام‭ ‬الكمبيوتر‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬لا‭ ‬يتطلب‭ ‬جهدا‭ ‬عضليا،‭ ‬مما‭ ‬أصاب‭ ‬أصابعنا‭ ‬بالضعف،‭ ‬تماما‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الهواتف‭ ‬الذكية‭ ‬أصابت‭ ‬ذاكراتنا‭ ‬بالتصحر،‭ ‬فما‭ ‬عدنا‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬تذكر‭ ‬اي‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬استشارة‭ ‬الهاتف‭ ‬الجوال،‭ ‬وذات‭ ‬يوم‭ ‬وأنا‭ ‬طالب‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬حظيت‭ ‬باحترام‭ ‬زملائي‭ ‬لأنني‭ ‬استخدمت‭ ‬التلفون‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يره‭ ‬معظمهم‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬الأفلام،‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬وأنا‭ ‬أكتب‭ ‬هذه‭ ‬الكلمات‭ ‬على‭ ‬كمبيوتر‭ ‬لابتوب،‭ ‬يجلس‭ ‬على‭ ‬يساري‭ ‬آيفون‭ ‬موديل‭ ‬2022،‭ ‬ولن‭ ‬أقتني‭ ‬الموديل‭ ‬الجديد،‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يأتني‭ ‬كهدية،‭ ‬لأنني‭ ‬رغم‭ ‬امتلاكي‭ ‬لآيفون‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬مازلت‭ ‬جاهلا‭ ‬بمعظم‭ ‬تطبيقاته،‭ ‬وعلى‭ ‬يميني‭ ‬كمبيوتر‭ ‬لوحي‭ (‬آيباد‭) ‬عمره‭ ‬سبع‭ ‬سنوات‭ ‬ولم‭ ‬أستخدمه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرتين،‭ ‬وفي‭ ‬درج‭ ‬الطاولة‭ ‬التي‭ ‬أجلس‭ ‬عليها‭ ‬3‭ ‬أجهزة‭ ‬آيبود‭ ‬يتسع‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منها‭ ‬لنحو‭ ‬2000‭ ‬أغنية،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬مخلفات‭ ‬عيالي،‭ ‬وقد‭ ‬انتهت‭ ‬‮«‬موضتها‮»‬‭ ‬بظهور‭ ‬منصة‭ ‬يوتيوب،‭ ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬أصلا‭ ‬من‭ ‬أنصار‭ ‬تركيب‭ ‬‮«‬دريب‮»‬‭ ‬في‭ ‬الأذنين‭ ‬لتوصيل‭ ‬الموسيقى‭ ‬او‭ ‬الكلام‭ ‬الى‭ ‬دماغي،‭ ‬فكما‭ ‬أنني‭ ‬مازلت‭ ‬لا‭ ‬أستمتع‭ ‬بالصحيفة‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬أمسك‭ ‬أوراقها‭ ‬بيدي،‭ ‬فإنني‭ ‬لا‭ ‬أطيق‭ ‬الكلام‭ ‬أو‭ ‬الموسيقى‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تدخل‭ ‬أذني‭ ‬دون‭ ‬وسيط‭ ‬سلكي

كم‭ ‬هو‭ ‬محظوظ‭ ‬جيلنا‭ ‬الذي‭ ‬انتقل‭ ‬من‭ ‬قلم‭ ‬الرصاص‭ ‬الى‭ ‬قلم‭ ‬الحبر‭ ‬السائل‭ ‬ثم‭ ‬القلم‭ ‬الجاف‭ ‬والآلة‭ ‬الكاتبة‭/ ‬الطبَّاعة،‭ ‬وورق‭ ‬الكربون،‭ ‬إلى‭ ‬الكمبيوتر،‭ ‬وصولا‭ ‬الى‭ ‬الاستغناء‭ ‬عن‭ ‬الطوابع‭ ‬البريدية‭ ‬والفاكس‭ ‬لإرسال‭ ‬ما‭ ‬كتبناه‭ ‬إلى‭ ‬جهة‭ ‬ما،‭ ‬وأكثر‭ ‬ما‭ ‬يحزنني‭ ‬هو‭ ‬اندثار‭ ‬الرسائل‭ ‬البريدية،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬وسيلة‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬المشاعر‭ ‬والأفكار‭ ‬بأسلوب‭ ‬مفصل،‭ ‬ولو‭ ‬أرسلت‭ ‬رسالة‭ ‬بريدية‭ ‬قصيرة‭ ‬إلى‭ ‬أمك‭ ‬أو‭ ‬عزيز‭ ‬لديك‭ ‬لاتَّهمك‭ ‬بالبخل‭ ‬حتى‭ ‬بالكلمات‭ ‬ووصف‭ ‬تلك‭ ‬الرسالة‭ ‬بأنها‭ ‬تلغراف،‭ ‬ومازلت‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬أحتفظ‭ ‬بعشرات‭ ‬الرسائل‭ ‬البريدية‭ ‬التي‭ ‬أتتني‭ ‬من‭ ‬أصدقاء‭ ‬وأقارب‭ ‬وقراء،‭ ‬وأجد‭ ‬متعة‭ ‬في‭ ‬قراءتها‭ ‬كل‭ ‬بضع‭ ‬سنوات،‭ ‬أما‭ ‬اليوم‭ ‬فقد‭ ‬صار‭ ‬الإيميل‭ ‬نفسه‭ ‬موضة‭ ‬قديمة‭ ‬وتكاد‭ ‬رسائل‭ ‬الموبايل‭ ‬النصية‭ ‬تندثر‭ ‬مع‭ ‬ظهور‭ ‬الواتساب‭ ‬والمسنجر،‭ ‬والغريب‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يحادثونك‭ ‬بالواتساب‭ ‬بخلاء‭ ‬بالكلام‭ ‬ويكتفون‭ ‬بأن‭ ‬يحولوا‭ ‬عليك‭ ‬ما‭ ‬يصلهم‭ ‬من‭ ‬طرائف‭ ‬من‭ ‬أطراف‭ ‬أخرى‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا