العدد : ١٧٠٧٨ - الأربعاء ٢٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٧٨ - الأربعاء ٢٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

الخرتاية للمدرسة وللمعزة

لكم‭ ‬كتبت‭ ‬باعتزاز‭ ‬عن‭ ‬جوانب‭ ‬من‭ ‬سيرتي‭ ‬طفل‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬نوبية‭ ‬لم‭ ‬تعرف‭ ‬الكهرباء‭ ‬ولا‭ ‬السيارات،‭ ‬تذكرت‭ ‬الشاعر‭ ‬الأموي‭ ‬جرير‭ ‬بن‭ ‬عطية‭ ‬عندما‭ ‬سأله‭ ‬أحدهم‭ ‬عن‭ ‬أشعر‭ ‬العرب،‭ ‬فقال‭ ‬للسائل‭ ‬ما‭ ‬معناه‭: ‬انظر‭ ‬هناك‭ ‬إلى‭ ‬أبي‭ ‬الذي‭ ‬يرضع‭ ‬من‭ ‬ضرع‭ ‬العنزة،‭ ‬وشاعر‭ ‬يفاخر‭ ‬شعراء‭ ‬العرب‭ ‬بمثل‭ ‬هذا‭ ‬الأب‭ ‬ويفحمهم‭ ‬لهو‭ ‬أشعر‭ ‬العرب،‭ ‬ولست‭ ‬في‭ ‬قامة‭ ‬جرير،‭ ‬ولكنني‭ ‬لا‭ ‬‮«‬أستعر‮»‬‭ ‬مما‭ ‬قد‭ ‬يبدو‭ ‬بؤس‭ ‬حالي‭ ‬في‭ ‬طفولتي‭ ‬وصباي‭.‬

كنت‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬الابتدائية‭ ‬أملك‭ ‬جلبابين،‭ ‬وفور‭ ‬العودة‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬كان‭ ‬علي‭ ‬خلع‭ ‬الجلباب‭ ‬ليخضع‭ ‬للغسيل،‭ ‬فارتدي‭ ‬الجلباب‭ ‬الثاني‭ ‬ليرتاح‭ ‬الأول‭ ‬24‭ ‬ساعة،‭ ‬وكان‭ ‬الزي‭ ‬الرسمي‭ ‬يتألف‭ ‬من‭ ‬الجلابية‭ ‬والعمامة،‭ ‬ولكننا‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نستخدم‭ ‬العمائم‭ ‬السودانية‭ ‬أم‭ ‬خمسة‭ ‬أمتار‭ (‬ظهر‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬سودانيون‭ ‬يلفون‭ ‬حول‭ ‬رؤوسهم‭ ‬عمائم‭ ‬طولها‭ ‬عشرة‭ ‬أمتار،‭ ‬وكلما‭ ‬رأيتهم‭ ‬قلت‭: ‬كان‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬عونكم‭ ‬ورؤوسكم‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬الكبت‭ ‬وانعدام‭ ‬الأوكسجين‭)‬،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬عمامة‭ ‬التلميذ‭ ‬بطول‭ ‬متر‭ ‬واحد،‭ ‬ولأن‭ ‬القماش‭ ‬الذي‭ ‬تصنع‭ ‬منه‭ ‬العمائم‭ ‬غالي‭ ‬الثمن،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬أي‭ ‬منا‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬التعليمية‭ ‬يملك‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عمامة‭ ‬واحدة،‭ ‬وكنا‭ ‬نذهب‭ ‬الى‭ ‬المدرسة‭ ‬حاملين‭ ‬كتبنا‭ ‬ودفاترنا‭ ‬في‭ ‬كيس‭ ‬من‭ ‬القماش‭ ‬كنا‭ ‬نسميه‭ ‬‮«‬خُرْتاية‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬كلمة‭ ‬يطلقها‭ ‬سودانيو‭ ‬الأرياف‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬على‭ ‬الأكياس‭ ‬المصنوعة‭ ‬من‭ ‬القماش‭ ‬أو‭ ‬شعر‭/ ‬وبر‭ ‬البهائم،‭ ‬وكان‭ ‬التلاميذ‭ ‬يسيرون‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬حاملين‭ ‬خرتايات‭ ‬مختلفة‭ ‬الألوان،‭ ‬لأنها‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬أكياس‭ ‬مخدات‭ ‬صلاحيتها‭ ‬موشكة‭ ‬على‭ ‬الانتهاء،‭ ‬وكانت‭ ‬أمهاتنا‭ ‬يقمن‭ ‬بخياطتها،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬ترقيعها‭ ‬كل‭ ‬بضعة‭ ‬أسابيع،‭ ‬واستحقت‭ ‬تلك‭ ‬الأكياس‭ ‬مسمى‭ ‬‮«‬حقائب‭ ‬سوس‭ ‬نايت‮»‬‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬كثيرة‭ ‬الثقوب،‭ ‬لأننا‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الكتب‭ ‬والدفاتر‭ ‬كنا‭ ‬نضع‭ ‬فيها‭ ‬التمر‭ ‬والدوم‭ ‬والنبق‭ (‬الذي‭ ‬يسميه‭ ‬أهل‭ ‬الخليج‭ ‬كنار‭) ‬وأي‭ ‬شيء‭ ‬صالح‭ ‬للأكل،‭ ‬وكم‭ ‬كان‭ ‬يحز‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬أن‭ ‬أمي،‭ ‬وكما‭ ‬قلت‭ ‬بالأمس،‭ ‬كانت‭ ‬أحيانا‭ ‬تخرج‭ ‬كتبي‭ ‬ودفاتري‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الكيس‭ ‬المُسوِّس‭/ ‬الخرتاية،‭ ‬لتستخدمه‭ ‬كسوتيان‭ ‬لمعزة‭ ‬نفساء‭ (‬أنجبت‭ ‬قبل‭ ‬فترة‭ ‬قصيرة‭)‬،‭ ‬لمنع‭ ‬البيبي‭ ‬المسكين‭ ‬من‭ ‬رضع‭ ‬نصيب‭ ‬العائلة‭ ‬من‭ ‬اللبن،‭ ‬وبالمناسبة‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬جيل‭ ‬أمهاتنا‭ ‬يصنع‭ ‬السوتيان‭ ‬‮«‬الشخصي‮»‬‭ ‬من‭ ‬قطع‭ ‬القماش‭ ‬المتاحة‭ ‬باستخدام‭ ‬الإبرة‭ ‬والخيط‭ ‬وكانوا‭ ‬يسمونه‭ ‬‮«‬كركة‮»‬‭ ‬بفتح‭ ‬الكافين‭ ‬والراء،‭ ‬وإنصافا‭ ‬لهن‭ ‬فإنهن‭ ‬كن‭ ‬أحيانا‭ ‬يلبسن‭ ‬كركاتهن‭ ‬للماعز‭ ‬المرضعات‭ (‬من‭ ‬منطلق‭ ‬أن‭ ‬الحالة‭ ‬واحدة،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬الغنم‭ ‬تعيش‭ ‬معنا‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الحوش‭).‬

وبعد‭ ‬خلع‭ ‬الزي‭ ‬المدرسي‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬كنا‭ ‬نرتدي‭ ‬القمصان‭ ‬التي‭ ‬يسمي‭ ‬السودانيون‭ ‬الواحد‭ ‬منها‭ ‬‮«‬عرّاقي‮»‬‭ ‬بفتح‭ ‬العين‭ ‬وفتح‭ ‬الراء‭ ‬المشددة،‭ ‬وجاءت‭ ‬التسمية‭ ‬لكون‭ ‬أحد‭ ‬مهام‭ ‬ذلك‭ ‬القميص‭ ‬الأساسية‭ ‬كانت‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬امتصاص‭ ‬العرق،‭ ‬وإلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬فإنني‭ ‬لا‭ ‬أجلس‭ ‬داخل‭ ‬البيت‭ ‬إلا‭ ‬مرتديا‭ ‬العراقي‭ ‬وهو‭ ‬جلابية‭ ‬‮«‬ميني‭ ‬جيب‮»‬‭ ‬أي‭ ‬تنتهي‭ ‬تحت‭ ‬الركبة‭ ‬بقليل،‭ ‬ومريحة‭ ‬جدا،‭ ‬وحتى‭ ‬جلابيبنا‭ ‬مريحة‭ ‬مقارنة‭ ‬بالجلابيب‭ ‬الخليجية،‭ ‬لأنها‭ ‬واسعة‭ ‬وفضفاضة‭ ‬وبالتالي‭ ‬تسمح‭ ‬بـ«تهوية‮»‬‭ ‬الجسم‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬التي‭ ‬ليس‭ ‬فيها‭ ‬ربيع‭ ‬جغرافي‭ ‬أو‭ ‬سياسي،‭ ‬ويخيل‭ ‬إليك‭ ‬وأنت‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬صيفا‭ ‬أن‭ ‬لكل‭ ‬مواطن‭ ‬شمسا‭ ‬تتبعه‭ ‬أينما‭ ‬حلّ،‭ ‬وهي‭ ‬على‭ ‬ارتفاع‭ ‬خمسين‭ ‬مترا،‭ ‬وحتى‭ ‬بعد‭ ‬الغروب‭ ‬يخيل‭ ‬إليك‭ ‬أن‭ ‬الشمس‭ ‬مختبئة‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬قريب‭ ‬وترسل‭ ‬إليك‭ ‬اللهيب،‭ ‬مستعينة‭ ‬بالقمر‭ ‬والنجوم،‭ ‬وكان‭ ‬العراقي‭ ‬على‭ ‬أيامنا‭ ‬يصنع‭ ‬من‭ ‬قماش‭ ‬يسمى‭ ‬الدمورية،‭ ‬وتقابل‭ ‬شخصا‭ ‬يرتدي‭ ‬عراقيا‭ ‬جديدا‭ ‬فتحسب‭ ‬أن‭ ‬جيوشا‭ ‬من‭ ‬القمل‭ ‬موزعة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شبر‭ ‬منه،‭ ‬لأن‭ ‬الدمورية‭ ‬تصنع‭ ‬من‭ ‬‮«‬بواقي‭ ‬وفضلات‮»‬‭ ‬القطن،‭ ‬أي‭ ‬بعد‭ ‬فرز‭ ‬القطن‭ ‬الجيد،‭ ‬لصنع‭ ‬أقمشة‭ ‬فاخرة،‭ ‬فتحمل‭ ‬تلك‭ ‬الفضلات‭ ‬أجزاء‭ ‬‮«‬مدروشة‮»‬‭ ‬من‭ ‬بذور‭ ‬القطن‭ ‬تشبه‭ ‬القمل‭.‬

وعلى‭ ‬بؤس‭ ‬العراقي‭ ‬وهو‭ ‬جديد،‭ ‬فقد‭ ‬كنا‭ ‬نلطخه‭ ‬بالبلاوي‭ ‬التي‭ ‬كنا‭ ‬نأكلها،‭ ‬وأكثرها‭ ‬بصمات‭ ‬على‭ ‬الملابس‭ ‬‮«‬القلّو‮»‬‭ ‬وهي‭ ‬كلمة‭ ‬نوبية‭ ‬تعني‭ ‬التمر‭ ‬الأخضر‭ ‬وطعمه‭ ‬مر‭ ‬إذا‭ ‬أكلته‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إزالة‭ ‬القشرة‭ ‬الخضراء،‭ ‬وإذا‭ ‬أزلت‭ ‬تلك‭ ‬القشرة‭ ‬تلوث‭ ‬العراقي‭ ‬بلون‭ ‬أخضر‭ ‬داكن،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الصابون‭ ‬المتاح‭ ‬وقتها‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬مسحه،‭ (‬ويا‭ ‬ما‭ ‬نصحت‭ ‬أمي‭ ‬باستخدام‭ ‬الكلوروكس‭ ‬والكمفرْت‭ - ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬كمفورت‭ - ‬ولكنها‭ ‬كانت‭ ‬تراوغ‭ ‬وتقول‭ ‬لي‭: ‬إن‭ ‬شاء‭ ‬الله‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬يخترعوا‭ ‬البتاعات‭ ‬دي‭ ‬سأستخدمها‭ ‬في‭ ‬الغسيل‭).‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا