العدد : ١٧٠٧٨ - الأربعاء ٢٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٧٨ - الأربعاء ٢٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

لا تحسبوا أننا كنا تعساء

ووطني‭ ‬اليوم‭ ‬يتعرض‭ ‬للدمار‭ ‬الشامل،‭ ‬لأن‭ ‬من‭ ‬يتقاتلون‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬فيه‭ ‬لا‭ ‬يعنيهم‭ ‬من‭ ‬أمره‭ ‬شيء‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬يوفر‭ ‬لهم‭ ‬الكراسي‭ ‬الوثيرة‭ ‬ليجلسوا‭ ‬عليها،‭ ‬ويتحكموا‭ ‬في‭ ‬الرقاب‭ ‬والعباد‭ ‬ويقضوا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬ثروات،‭ ‬فإن‭ ‬الحنين‭ ‬يشدني‭ ‬الى‭ ‬مراتع‭ ‬الصبا،‭ ‬وأقول‭ ‬هذا‭ ‬وأنا‭ ‬مدرك‭ ‬أن‭ ‬فيض‭ ‬ذكريات‭ ‬طفولتي‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬الأيام‭ ‬الماضية‭ ‬قد‭ ‬يعطي‭ ‬الانطباع‭ ‬بأنني‭ ‬عشت‭ ‬حياة‭ ‬بائسة‭ ‬وعانيت‭ ‬من‭ ‬الفقر‭ ‬وشظف‭ ‬العيش،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنه،‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الأمر‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬حتى‭ ‬الكبار‭ ‬من‭ ‬أهلنا‭ ‬يعرفون‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬وكيف‭ ‬يكون‭ ‬الفقر،‭ ‬ليس‭ ‬بمنطق‭ ‬‮«‬الموت‭ ‬مع‭ ‬الجماعة‭ ‬عرس‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬جميع‭ ‬من‭ ‬يعيشون‭ ‬حولك‭ ‬لا‭ ‬تختلف‭ ‬ظروف‭ ‬معيشتك‭ ‬على‭ ‬صعوبتها‭ ‬عن‭ ‬ظروفهم،‭ ‬فمعنى‭ ‬هذا‭ ‬أنك‭ ‬لا‭ ‬تحس‭ ‬بالحرمان‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬شيء،‭ ‬ولكن‭ ‬بمعنى‭ ‬أننا‭ ‬كنا‭ ‬‮«‬واكلين‭ ‬وشاربين‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬أذكر‭ ‬أنه‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬عائلة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬بلدتنا‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬قوتها‭ ‬لسنة‭ ‬كاملة‭. ‬نعم‭ ‬مستويات‭ ‬المعيشة‭ ‬كانت‭ ‬متقاربة،‭ ‬ولم‭ ‬نكن‭ ‬نعرف‭ ‬البيرغر‭ ‬والكلب‭ ‬الساخن‭ (‬هوت‭ ‬دوغ‭) ‬ولا‭ ‬الاستيك‭ ‬ولا‭ ‬البفتيك،‭ (‬الغريب‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أنني‭ ‬أذكر‭ ‬أول‭ ‬مرة‭ ‬دعاني‭ ‬فيها‭ ‬صديق‭ ‬لعشاء‭ ‬باربكيو،‭ ‬فهيأت‭ ‬نفسي‭ ‬لطعام‭ ‬من‭ ‬الأصناف‭ ‬التي‭ ‬نراها‭ ‬في‭ ‬الأفلام‭ ‬السينمائية،‭ ‬وتعشينا‭ ‬وحرصت‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬الإكثار‭ ‬من‭ ‬اللحم‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬الباربكيو،‭ ‬ثم‭ ‬فوجئت‭ ‬بمن‭ ‬حولي‭ ‬ينصرفون‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬شكروا‭ ‬صاحب‭ ‬الدعوة‭ ‬على‭ ‬الباربكيو‭ ‬الجميل،‭ ‬وكدت‭ ‬أصيح‭ ‬فيهم‭: ‬يا‭ ‬أولاد‭ ‬الـ‭.. ‬أنا‭ ‬أكلت‭ ‬اللحم‭ ‬المشوي‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تنبت‭ ‬أسناني،‭ ‬فأطلقتم‭ ‬عليه‭ ‬اسم‭ ‬دلع‭.. ‬وفرحانين‭ ‬أوي؟‭).‬

كانت‭ ‬عندنا‭ ‬وفرة‭ ‬في‭ ‬المواد‭ ‬الغذائية،‭ ‬وكنا‭ ‬نأكل‭ ‬مما‭ ‬نزرع‭ (‬فعلا،‭ ‬وليس‭ ‬مجرد‭ ‬شعار‭ ‬كما‭ ‬فعلت‭ ‬حكومة‭ ‬عمر‭ ‬البشير‭ ‬ثم‭ ‬انتهى‭ ‬بنا‭ ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬نزرع‭ ‬ولا‭ ‬نأكل‭)‬،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬شبر‭ ‬من‭ ‬بلدتنا‭ ‬مغطى‭ ‬بالخضرة،‭ ‬وكان‭ ‬بيع‭ ‬الخضراوات‭ ‬‮«‬عيب‮»‬،‭ ‬وبالتالي‭ ‬كان‭ ‬مسموحا‭ ‬لأي‭ ‬امرأة‭ ‬أن‭ ‬تمر‭ ‬بحقل‭ ‬فيه‭ ‬خضراوات‭ ‬وتجمع‭ ‬منه‭ ‬قدر‭ ‬حاجتها،‭ ‬وكان‭ ‬بيع‭ ‬اللبن‭ ‬والسمن‭ ‬‮«‬عيب،‮»‬‭ ‬فمن‭ ‬كان‭ ‬لديه‭ ‬فائض‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الأشياء‭ ‬كان‭ ‬يوزعها‭ ‬على‭ ‬الأقارب‭ ‬والجيران،‭ ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬أبي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مزارعا‭ ‬فلم‭ ‬نكن‭ ‬نملك‭ ‬أبقارا،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬محاصيل‭ ‬الأرض‭ ‬الزراعية‭ ‬التي‭ ‬ورثناها‭ ‬من‭ ‬ناحيتي‭ ‬جدي‭ ‬الأب‭ ‬والأم‭ ‬تخصنا‭ ‬في‭ ‬شيء‭ ‬بل‭ ‬كنا‭ ‬كما‭ ‬غيرنا‭ ‬نعمل‭ ‬بمنطق‭ ‬‮«‬الأرض‭ ‬لمن‭ ‬يفلحها‮»‬،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬اللبن‭ ‬الطازج‭ ‬والرائب‭ ‬والسمن‭ ‬متوافرة‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬في‭ ‬بيتنا،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬لدينا‭ ‬أشجار‭ ‬نخيل‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬أبي‭ ‬ولا‭ ‬إخوته‭ (‬أعمامي‭) ‬عملوا‭ ‬بالزراعة،‭ ‬بل‭ ‬‮«‬اغتربوا‮»‬‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬الكبيرة،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬بيتنا‭ ‬كميات‭ ‬مهولة‭ ‬من‭ ‬التمر،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬العادة‭ ‬عندنا‭ ‬توزيع‭ ‬كميات‭ ‬بسيطة‭ ‬من‭ ‬التمر‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الأطفال‭ ‬بمجرد‭ ‬اكتمال‭ ‬الحصاد،‭ ‬وبعدها‭ ‬كان‭ ‬يتم‭ ‬إرسال‭ ‬كميات‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬التمر‭ ‬إلى‭ ‬البيوت‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬أصحابها‭ ‬أشجار‭ ‬نخيل‭.‬

وخلال‭ ‬مرحلة‭ ‬الصبا‭ ‬كرهت‭ ‬التمر‭ ‬‮«‬كراهية‭ ‬التحريم‮»‬،‭ ‬ففي‭ ‬الصباح‭ ‬كانوا‭ ‬يملأون‭ ‬جيوبنا‭ ‬بالتمر‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نتوجه‭ ‬إلى‭ ‬المدارس،‭ ‬وإذا‭ ‬عانيت‭ ‬من‭ ‬قرصة‭ ‬جوع‭ ‬فعندك‭ ‬البلح‭.. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬تصبيرة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تعني‭ ‬وجبة‭ ‬خفيفة‭ ‬تسند‭ ‬البطن‭ ‬لحين‭ ‬حلول‭ ‬موعد‭ ‬الوجبة‭ ‬التالية،‭ ‬قد‭ ‬دخلت‭ ‬قاموس‭ ‬أهلنا‭ ‬بعد،‭ ‬وعندما‭ ‬كنت‭ ‬أتمرد‭ ‬رافضا‭ ‬التمر‭ ‬بحجة‭ ‬أنه‭ ‬يجرح‭ ‬لثتي‭ (‬نزرع‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬فقط‭ ‬تمورا‭ ‬طويلة‭ ‬الأجل،‭ ‬أي‭ ‬قابلة‭ ‬للتجفيف‭ ‬وصالحة‭ ‬للأكل‭ ‬لسنوات‭) ‬كانت‭ ‬أمي‭ ‬تنقع‭ ‬التمر‭ ‬في‭ ‬الماء‭ ‬وتمد‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي،‭ ‬وأنا‭ ‬ذاهب‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬كيسا‭ ‬لو‭ ‬رأيته‭ ‬اليوم‭ ‬لحسبته،‭ ‬شريطا‭/ ‬شاشا‭ ‬طبيا‭ ‬انتزع‭ ‬من‭ ‬جسم‭ ‬رجل‭ ‬أصيب‭ ‬بنزف‭ ‬حاد‭ ‬لأن‭ ‬التمر‭ ‬المبتل‭ ‬يصبغ‭ ‬الكيس‭ ‬باللون‭ ‬الأحمر،‭ ‬أخذا‭ ‬في‭ ‬الاعتبار‭ ‬أن‭ ‬الكيس‭ ‬نفسه‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬بقايا‭ ‬كفن‭ ‬جدك‭ ‬الرابع‭ ‬وتعرض‭ ‬للصبغ‭ ‬عدة‭ ‬مرات‭ (‬كنا‭ ‬نشتري‭ ‬الأقمشة‭ ‬بيضاء‭ ‬اللون‭ ‬ونصبغها‭ ‬بما‭ ‬نشاء‭ ‬من‭ ‬ألوان‭ ‬مستخدمين‭ ‬مادة‭ ‬كنا‭ ‬نسميها‭ ‬‮«‬التفته‮»‬‭).‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا